صفحات الرأي

فرٍد دونٍر والتأسيس لاستشراق مضاد


حمّود حمّود()

إلى الآن، لم تَغبْ أصداء ما أسّسه جون وانسبرو في دراسته، ذائعة الصيت “دراسات قرآنيّة” (1977) في عالم الاستشراق بخصوص التشكيك في “مشروعية” الرواية الإسلامية وموثوقيتها. وأكثر من ذلك، لقد افتتحت تلك الدراسة حقيقة، مرحلة أخرى من الاستشراق هي مرحلة “ما بعد الاستشراق الكلاسيكي”، مُنهية بذلك حقبة من الاستشراق كان من أبرز نقادها إدوارد سعيد. وكان من أبرز سمات هذه المرحلة الجديدة في حقل الدراسات الإسلامية، ليس فقط الصراع على التراث الإسلامي في امتلاكه، وإنما أيضاً الفوضى العبثية في قراءته. هكذا، سَيُعتَبر جيرالد هاوتينغ مثلاً، من خلال دراسته “فكرة الوثنية وصعود الإسلام” (1999) أبرز من حاول “منهجة” التشكيك الذي افتتحه وانسبرو. لكن قبل هذه الدراسة لـ هاوتينغ، كان على “فرِد دونِر”، المستشرق الأميركيّ، التصدّي لهذا الخط الاستشراقي “الوانسبري”؛ وهو ما فعله في دراسته عن الرواية الإسلامية وبداية الكتابة الإسلامية، ثمّ ليكمل ذلك بإعادة بلورة لرؤيته الخاصة في نشوء الإسلام في مقالته الطويلة والمهمة “من المؤمنين إلى المسلمين” (2002)، والتي وسّعها في كتابه الذي صدر حديثاً عن هارفارد “محمد والمؤمنون: في أصول الإسلام” (1).

إذاً، من الصّعب فصل كتاب دونِر الأخير عن هذا المناخ الصراعي في عالم الاستشراق بخصوص إعادة موضعة الموثوقيّة التاريخيّة للرواية الإسلاميّة في قراءة نشوء الإسلام وأصوله. ومن هذه الزاوية يمكن قراءة الكتاب ضمن خلفيّة تأسيس نزعة إستشراقيّة مضادة للخط الذي افتتحه وانسبرو. بالطبع، هذا لا يعني ارتهان دونِر للرواية الإسلاميّة وما يستتبع هذا من استحقاقات، بقدر ما هو إعادة قراءة لها: فمن جهة، هو لا يرفض ما تقوله الرواية جملة وتفصيلاً، كما يميل إلى هذا التشكيكيون؛ لكن ومن جهة أخرى، لا يسلّم بما تمليه الرواية كما درج على هذا الاستشراق الكلاسيكي والتراثيون. الحقيقة في الواقع، يقول دونر، يجب أن تكون بين هاتين (النزعتين المتطرفتين). وعلى هذا الأساس، حاول دونر إعادة رسم صورة الجماعة الأولى الوليدة/ الأمّة التي آمنت بالرسالة النبويّة بوصفها حركة “مؤمنة”، وليس بوصفها “مُسْلمة” كما تصورها كتب التراث. وهذه الحركة لا تقتصر فقط على الصّحابة، كما هو مصوّر؛ بل تمتد لتشمل كل من يؤمن بأركان الإيمان من المسيحيين وحتى اليهود. وهكذا، لا يمكن “تمييز” هذه الحركة النبوية التي آمنت بالنبي عن غيرها من الموحّدين الذين آمنوا بنفس الأسس. وبالتالي، “التميّز” لن يكون بين هؤلاء فيما بينهم، بقدر ما هو تميز عن عابدي الأصنام من الوثنيين ورافضي الرسالة النبوية.

دونِر يعترف أنّ كلمات مثل “إسلام” و”مسلمين” قد وردت في القرآن، لكن ورودها (75 مرة تقريباً) لا يمكن مقارنته بآلاف المرات التي أشير فيها إلى جماعة “المؤمنين”. لهذا، يصف دونر ما تقوله الرؤية التراثية وبعض من الأصوات العلمية الحديثة حينما تصف المؤمنين الأوائل بـ “المسلمين” وحركتهم بـ “الإسلام”، بأنه “مضلل” حينما يُطبّق هذا على الجماعة التي أشار إليها القرآن. وهكذا، سيغدو أيضاً من التضليل القول أن كلمتي “إسلام” و”إيمان” هما مترادفتان (انظر مثلاً الآية: “قَالَتِ الأعراب آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا” (الحجرات 49: 14). إنهما بعكس ذلك. ما أسسه النبي هو مجتمع أو جماعة المؤمنين The Community Of Believers أو The Believers Movement ، التي آمنت بواحديّة الله واليوم الآخر، ورسله والكتاب والملائكة. إنها فوق ذلك، حركة “مهاجرة”؛ والهجرة لا تعني فقط الانتقال من أرض إلى أرض، إنها هجرة دينيّة لجماعة آمنت بالله كإله واحد، وقاتلت في سبيله لنشر دينه. وهؤلاء “مؤمنون” بالدرجة الأولى، و”مهاجرون” بالمعنى الدينيّ للكلمة بالدرجة الثانية؛ ليس ثمة هويّة سياسيّة أو قوميّة عروبيّة تجمعهم كما يزعم الكثيرون. هويتهم هي هويّة دينيّة إيمانيّة، مميزة، وليس التميز عن حركات الموحدين، إنّهم يحملون “استقلالاً” عن عقائد الشرك.

دونر، لإثبات وجهات نظره، يأتي بعدد لا بأس به من الأدلة التاريخية المادية (لكن يبقى اعتماده الأساسي على القرآن) ليثبت أنّ الإسلام كثيولوجيا عقيدية منضبطة، كطقوس شعائرية مُنظّمة تُمارس…الخ لم يبدأ بالتميز عن غيره من الأديان التوحيدية، ولم يبدأ في التشكل إلا في الثلث الأخير من القرن السابع الميلادي/ الأول الهجري، في ظل تبلور “الإمبراطورية الأموية”. لهذا، يقضي دونر وقتاً مهماً في قراءة الدلالات التي تركها بناء قبة الصخرة في أورشليم القدس على يد أمير المؤمنين عبد الملك. ما يهمّ، أنه من هذا الوقت فصاعداً، ستبدأ التغيرات تطرأ على الجماعة الإيمانية بخصوص هويتها الإيمانيّة بفعل عوامل عدة، منها الحروب الأهلية، وبدأ تشكل الفِرَق الإسلامية (كالشيعة والخوارج)، وانقضاء جيل من المؤمنين، وتوسع المجتمع الإسلامي، والامتداد في حركة الفتوحات…الخ. هكذا، سيبدأ التحوّل من الإيمان إلى الإسلام، من المؤمنين القرآنيين، إلى المسلمين. لأول مرة، بحسب وجهة نظر دونِر، وكما يؤكد على هذا مراراً، سيبدأ المؤمنون بكتابة “محمد رسول الله” (= الإسلام). وقد ظهرت هذه الجملة لأول مرة في النقوش على العملات في 66هـ/ 685م، و 67هـ/ 686 و 687م. بمعنى آخر، أخذت التحولات تطال الهوية الإيمانية، ليبدأ التميز ليس بين المؤمنين وبين المشركين فقط، بل حتى داخل حركة المؤمنين نفسها، فأصبح يشار إلى هوية “إسلامية” و”مسيحية”، كل منها تتميز عن الأخرى.

بالرغم من الاتفاق أو عدمه مع الكثير من تفاصيل الكتاب، إلا أنّ أهميته تكمن في محاولته إنشاء بُعد آخر بنحو جدّي في ميدان الدراسات الإسلامية، وبخاصة في شأن نشوء الإسلام، رغم أنه من المتعذر فصل هذا الخط، الذي يحاول دونِر تأسيسه، عن ساحة الجدل الواسع بين المستشرقين بخصوص الرواية الإسلامية، وما يستتبع هذا من استحقاقات يمكن أن تضرّ بمنهجية قراءة أصول الإسلام وهو ما ظهر في الكتابـ وإشكالات “القطيعة” أو عدمها مع ما قبله.

ليست المسألة أن يأتي كل طرف من المستشرقين بأدلة تاريخية دامغة متفرّقة بين هنا وهناك لكي يثبت رؤيته، بقدر ما هي في الأساس تأسيس “نقد تاريخي” منهاجي منضبط؛ وهو ما احتاج إليه الكتاب أكثر مما قدمه دونر. وأكثر ما ظهر هذا، هو في مسألة معالجته لإشكالات يهود المدينة (بني قينقاع، النضير، قريظة) الذين من المفترض كما هو خط الكتابـ أنهم أعضاء في الجماعة المؤمنة. لكن ما تقدمه كتب التراث يقف على النقيض من هذا تماماً. إنّ معالجة مثل هذه القضية مثلاً لم تكن بالنحو الوافي (إضافة لإشكالية معالجة دستور المدينة وغيرها).

لكن عموماًَ، يبقى الكتاب من الكتب المهمة الجادة، والتي من المفيد الاطلاع والإفادة منها، وبخاصة أنّ فرِد دونِر غالباً ما يخرج في أبحاثه ومقالاته عن النسق العام للاستشراق، محاولاً دائماً تأسيس خط نقدي في عالم الدراسات الإسلاميّة في الغرب، مغاير للتشكيكيين وغيرهم.

(1): Donner, Fred. M. Muhammad And The Believers, At The Origins Of Islam, Harvard University Press, Cambridge, Massachusetts. 2010.

() كاتب سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى