صفحات الحوار

شكري المبخوت الفائز بـ”البوكر” كيف يُمكن الأجساد المغتصَبة أن تنال الحرية؟

 

 

الشارقة – فاطمة عبدالله

يُنهي الكاتب التونسي شكري المبخوت سيجارة على عجل في الخارج حيث الطقس الحارق. التدخين ممنوع في صالة “الجواهر”، مكان انعقاد المؤتمر الثالث للناشرين العرب في الشارقة، حيث حلَّ صاحب “البوكر” للسنة 2015 عن روايته “الطلياني” (“دار التنوير” تونس) ضيفاً، ووقّع جديده “السيدة الرئيسة” (“دار العين” المصرية) ضمن نشاطات معرض الشارقة للكتاب. نبتعد من ضوضاء المهتمّين بواقع النشر، لنحاور المبخوت في تأويلات روايته، وفي المحاولات المغدورة لخلاص الحلم من اليأس.

في مقدور المبخوت التحدّث ساعات على رغم التعب الذي يغزو الملامح. متكلّم ماهر؟ ذلك مردّه إلى كونه أستاذاً جامعياً وباحثاً أكاديمياً قبل العمل الروائي. لم يتوقّع أنّ تنال باكورته “الطلياني” “الجائزة العالمية للرواية العربية 2015″، فسُرَّ لوصولها إلى القائمة القصيرة، واكتملت المفاجأة بالفوز. يروق المبخوت أن يلمح القرّاء في “الطلياني” شيئاً من أنفسهم على رغم صبغتها المحلّية، مانحاً الآخرين حقّ تقويم السرد على سجيّتهم. لا ينكر نضال الشعوب ولا عزيمتها على التحرّر. نحدّثه عما تعنيه الإشارات في “الطلياني”، وما يحمّله للبطل عبد الناصر من آمال وإخفاقات، فيذهب بنا الحديث إلى قعر الإنسان العربي: “كنّا نعتقد أننا وصلنا إلى الحضيض، فتبيّن أنّ بعد الحضيض حضيضاً. الشعوب العربية سفينة تتقاذفها الأمواج فيفوتها البحث عن بوصلة. نسير عكس موجة الحداثة، فجميع الإشكاليات المطروحة في عصر النهضة كالدين والدولة، تصبح ألفاظاً تنفجر في وجوهنا. طغت على النفوس حالٌ من الإخفاق المؤلم، في السياسة والمجتمع والاقتصاد، إلى أن أتى الربيع العربي وأعاد زرع الحيرة في وجدان شعوب لا تزال تتمسّك بالضمير على رغم حجم التضحية. لا بدّ دائماً من أمل، وإلا فاليأس والانتحار”.

قد يُتَّهم المبخوت بالزجّ باللغة التقريرية في سرده الروائي، وقد تكتنف روايته الأولى أسئلة عن تفاوت حضور الجمال الأدبي بين فصول اتخذت من أواخر الثمانينات زمناً لربط الماضي بالحاضر. إنما هذا التونسي نشيط ومصرّ على نشر أفكاره، لا الاختباء خلف إصبع. يدرك أنّ عهد المثقّف الذي يربّي الناس ويعيد تأطيرهم، ولّى. ما هي مشكلة العالم العربي إذاً؟ يطرح السؤال على نفسه، ويجيب: “لم تستوعب الأنظمة العربية أنّ الحرية والديموقراطية مكوّنان أساسيان للتنمية البشرية والاقتصادية. المعضلة تكمن في الأوهام: أوهام الخلافة، الحدود، التكفير، الآخر. ينبغي ألا يغيب عن بال المثقّف أنّه يدافع عن الحصن الأخير من حصون الحرية”.

الثورة والأجساد المقهورة

لو يُترَك المبخوت على سجيته، يجود بالحضّ على الثورة وتحمّل أعباء الحلم من غير التخلّي عن البسمة وهدوء الأعصاب. نعود إلى “الطلياني” ونتوقّف عند التورية السياسية في صناعة الشخصيات والأسئلة العلنية والمضمرة. يفضّل عدم الانقلاب إلى مفسِّر والبقاء على مسافة من وظيفة الناقد. “نعم، الرواية أسئلة. ما هو موقع اليسار من الجدل الاجتماعي الذي نشهده؟ ما يعوق بروز تيمات كالعدالة الاجتماعية والحداثة والتحرُّر الفكري؟ ما هي قضية الجسد؟ نحن في العالم العربي على قدر هائل من النفاق. كيف للشعوب المقموعة أن تصنع الحرية؟ تخفق الثورات لا بسبب تآمر خارجي قد يكون موجوداً، وإنما أيضاً لانعدام ثقافة الفرد الحرّ. الشعوب تتقدّم لإيمانها بحرّية أفرادها. ليل الاستبداد ليس سياسياً فحسب. هو من عمق النسيج الاجتماعي”.

يطرح المبخوت تيمة الجسد مستعداً لحجم النقد وقسوة التهم. الرجل قادرٌ على التحمّل، لا يقع من أوّل هبّة. تمنحه “البوكر” قوّة التصدّي ورفع السقف. للحديث عن الجسد في الرواية مستويات عدّة. يحلو للمبخوت ربط سؤال الجسد بسؤال الحرية الفردية. يستفزّه إنكار المجتمعات العربية دور الجسد في التشكيل الواقعي للحياة. يشرح أنّ شيوخ العرب والفقهاء القدامى تفوّقوا على مجتمعات اليوم المأزومة بالوعي، لإدراكهم لغز الجسد وفق قاعدة “لا حياء في الدين”. يقول: “كلّ شيء آيلٌ إلى التبدُّل، فقضية الجسد تُطرح في إهاب أخلاقوي محافظ لمنع الأفراد من اكتساب حرية عميقة. الحال أنّ هذه المجتمعات مهووسة بالجنس، من المتعة إلى جهاد النكاح”. يعود إلى الرواية متسائلاً: “هل يمكن أجساداً مقهورة مغتصَبة تحمل جرحاً أن تكون قادرة على التحرّر السياسي والاجتماعي والفكري؟ عاشت زينة بطلة الرواية تجربة من أقسى ما قد يحلّ على امرأة، وتعرّض عبدالناصر لتحرّش جنسي في طفولته، فأيّ حرية يمكن الأجساد المقهورة أن تتحدّث عنها؟ أن نعي الشيء يعني أن نسمّيه. نحن نجهل تسمية مواطن الجسد. إنّها مسألة لا تنفصل عن قضية أكبر هي الحرية الفردية وحرية الخيال والضمير. تتبنّى المجتمعات المتلعثمة لغة السلطة سياسياً واجتماعياً، فيتحوّل الفرد إلى قوالب جاهزة لا تبتدع لغتها ولا تصارع من أجل كسر الممنوعات. نعيش في مجتمع المحرّمات ولا نأبه”.

الرواية في كونها أسئلة حرّة

يتكرّر السؤال عن دور الروائي في علاقته بالمحيط، نحمله إلى المبخوت ونسأل عن صلته بالمكان حيث خطوات “الطلياني”. يرى أنّ الروائي ليس آلة لالتقاط الأشياء وإعادة بثّها. “المسألة معقّدة أكثر. الرواية بالنسبة إليّ أسئلة محيِّرة يطرحها الروائي ويبحث في فضائها عن محاولة بناء عالم متكامل. انتقلتُ من البحوث الأكاديمية إلى الرواية ليقيني أنّ الأكاديمي يملك الإجابة عن الأسئلة بكتابة المقالات، أما مَن لا يملك الإجابات، فيكتب الرواية. هنا الصراع وبنيته. تربطني بالمحيط علاقة حيرة أكثر منها تسجيل موقف. بدأتُ التفكير في الرواية بعد الثورة في تونس. كان ثمة مشروع لأخوَنة البلد بأشكال متعددة. لماذا قامت ثورة على شعارات الحرية والعدالة والكرامة ثم انتهت على أيدي الإسلاميين؟ لماذا أخفق العلمانيون في الإمساك بالسلطة؟ كلّها أسئلة لا تزال معلّقة. إشكاليات الجسد المقهور، الحرية الفردية، والمرأة التونسية، مطروحة في الرواية، ولا أدّعي امتلاك أجوبتها. لكنّ روحي في مكان استراحت. مجرّد التساؤل يرخي عن عاتقي ثقلاً، لكنّ البعض يستنكر: “الرواية تسيء إلى المرأة واليسار وتونس”! هذا جيد. على الروائي أن يخرّب. كلّ ما قلته أنّ تونس ليست جنّة، بل هي مجتمع حيّ يعيش صراعات. وخرجتُ من نمطية اليساري البطل لأُظهر عمقه الإنساني. وذكّرتُ بأنّ حقوق المرأة التونسية منقوصة لأنها تعيش القهر اليومي من دون رادع. هل هذه جريمة؟ ما يبقى من الرواية ليست الحوادث، بل العمق الإنساني الذي تنهض عليه الشخصيات”.

المرأة وثورة الشباب

ينبّهنا شابٌ إلى أن الوقت بدأ يدهم، وكثر ينتظرون اللقاء مع صاحب “البوكر”. لم نكترث بالإماراتي الذي أراد إفساد متعة الحوار من أجل آخرين يتهافتون على الكاتب. تابعنا نسأل عن المرأة في الرواية، ونظرة المبخوت إليها من خلال زينة المعذّبة. يرى أنّ النساء يعانين حالات مختلفة ولا توجد إشكالية عامة تُسمّى “المرأة العربية”. “تحضر قضايا المرأة في العالم بأسره، ويجمع بينها العنف والدونية وصراع المكانة الاجتماعية. لا أتحدّث عن هذا. تعنيني قضية المرأة وهي تتحرّك في المجتمع. المرأة كقضية اجتماعية في ظلّ العقلية الذكورية غير المقبلة على تبدُّل”. لا يجزِّئ المبخوت القضايا الإنسانية، فالمرأة والجسد والحرية والسؤال، عناوين متصلة. يخشى التشبّه بمصدِّري الإحباط، فيؤكد إيمانه بالشباب على رغم الاخفاق. “ثمة شيء تغيّر ولن يعود إلى الوراء. بذرة وعي لم تكن موجودة. الشباب يستحيل إقصاؤه وهذا لبنان يشهد. سيكون للشباب فيه دور ديناميكيّ رائع. لم تعد الأحزاب قادرة على تقديم حلم. اليمين واليسار سيّان، لاستفحال الفساد والشللية ورأس المال والعقلية الضيّقة. في تقديري، سيكون للمجتمع المدني دور مركزي. لا أعني أنّ جميع الشبان ملائكة. أتكلّم على الدور القيِّم في المستقبل”.

يخطر على البال سؤال عن علاقة المبخوت بوسائل التواصل، ونحن في مؤتمر الناشرين، نناقش إشكاليات التعبير ودور الانترنت. المبخوت سريع الإجابة، متأهب ويَقِظ: “أتعامل مع المجتمعات السريعة بانتهازية، فآخذ من وسائل التواصل ما أحتاجُ إليه. تزول الأفكار عبر “فايسبوك” بسرعة، ولا يبقى سوى المكتوب على ورق. “فايسبوك” و”تويتر” يشكّلان جزءاً من مجتمع الاستهلاك. أقرُّ بذلك من غير أن أنتمي إليهما. أبحث عن التفكير والتأمّل، وحجم الكلمات عبر “تويتر” مثلاً لا يساعد. أحبّ رائحة الكتاب والحبر. ثم لقد أصبحتُ كهلاً ولم يعد نظري يسمح [يضحك]. الكتاب يتحمّل المرء بكلّ أحواله. جميلٌ ووفيّ ودافئ”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى