صفحات الناس

شهادات حيّة لنساء شاركن في الثورة السورية

 

 

 

من كتاب: “إلى أن قامت الحرب” لجولان حاجي

[اسم مستعار، قميص مستعار، حرية مستعارة

[ .. وهيام

مبرّحة بالألم، قبل إدلائها بأي اعتراف، أمسك المحقق بقميص هيام مهدداً بأنه سيقتلع عينيها. كان قد بلغ بها الأرق والألم حداً من الإنهاك جعلها تترنّح حين أفلت قميصها، ليرتطم ظهرها بخشب آلة تعذيب، عرفت لاحقاً أنها بساط الريح. أسعفت أخيراً إلى مستشفى الشرطة في حرستا، مغشياً عليها تقريباً، واقفة ومكبلة في الممر وقفت تنتظر نتائج الصور الشعاعية، إلى أن أجلسها الطبيب الذي شخص حالتها بـ«الديسك» (انفتاق النواة اللبية بين الفقرات)، ثم أوصاها بالراحة والنوم على إسفنج مضغوط، واستخدام مشدات للظهر وتجنب الوقوف والمشي إلا عند الضرورة، وكأن هذه النصائح ستؤخذ بالحسبان حقاً، في منفردة عرضها متر وطولها متران. ظلت هيام وحدها، لا ترى الشمس، ترتدي الملابس نفسها خمسين يوماً، ومنشفتها قميصها الداخلي، الوحيد المنسوج من القطن. تغسل ملابسها تحت حنفية المرحاض، الحنفية الوحيدة، وترتديها مبللة فلا تلبث أن تجف في قيظ آب 2011، وهي جالسة على مصطبة في عتمة لاهبة. بمرور الأيام والأسابيع اهترأ القماش، والألوان حالت وذابت في صِدارها، فاسودّ صدر القميص وأمسى النسيج أشبه بالشبكة.

انكشف الاسم المستعار الذي نوديت به «هيام جميل». أنكرته أولاً، ثم عُذّب صديقها أمامها، فما لبثت أن أقرّت بما أنكرته. بدد التوقيف مخاوفها إلى حين، فأخشى ما تخشاه قد وقع. من دون أن تتعرض للضرب، عُنّفت في التحقيق تعنيفاً مضاعفاً، لأنها من قرية علوية في جبال الساحل. القرية نفسها تبرأت منها. أتاها التعنيف من كل حدب وصوب. تتفهم التضحية وتقبلها، كأن ترديها رصاصة في تظاهرة، أو تسقط بين المتدافعين إلى الهروب وتتكسر عظامها تحت الهراوات، أو تقضي تحت التعذيب، وكل ما وقع وما لم يقع، لكن تبقى الإعاقة مريعة، ومثلها الاضطرار إلى اعتناء الآخرين بها صحياً، إذ أقلقها دائماً أن تتخيل نفسها معوّقة مدى الحياة.

انقضت الأيام الستون، وحُولت هيام إلى القصر العدلي. بالحرمان تحوّل ألم جسدها إلى جلادها، فقد صودرت مسكّناتها من حقن «الديكلون»، والألم المبرح أسفل الظهر يكاد لا يسمح لها برفع ساقها، فتجرّ قدميها جرّاً على أدراج المحكمة وفي اكتظاظ الممرات. رداً على محامية الدفاع التي طالبت بإخلاء سبيلها «نظراً لخصوصية وضعها العائلي»، أجاب القاضي مبتسماً: «آمر بتوقيفها وإيداعها سجن عدرا، حرصاً على سلامتها الشخصية». لكن طيف الموالاة واسع، وله في التطرف مراتب. تحت أعين عشرات رجال الشرطة الذين امتنعوا كمتواطئين عن تقديم أي عون، أشار شرطي إليها: «هذه هي!»، فهاجمتها قريبتها المحامية المنتظرة أمام البوابة الخارجية وضربتها، لتثأر من الفضيحة باقتلاع شعر رأسها، وتغسل بالبصاق على الأقل خزي العائلة؛ شتمتها: «يا عاهرة، تريدين أن تعارضي النظام، و»صرماية» بشّار الأسد تساوي عائلتك كلها؟»، وحين وصلت هيام إلى الحافلة، وسألت الشرطة: «أوظيفتكم حمايتي أم حمايتها؟»، كان الجواب أن أدار السائق المسجّلة، لتعلو إحدى الأهازيج التي تتغنى بالأسد.

إثر الدراسة الأمنية التي أجراها عناصر المخابرات، علمت العائلة بما فعلت ابنتهم في التنسيقيات، وسمعت باعتقالها في أحد مقاهي دمشق. زارها في سجن عدرا شقيقها الأكثر تفهماً، طبيب الأطفال المقيم في السعودية، الوحيد الذي أقدم على توكيل محام من أجلها. لامها الشقيق على ما اقترفت، وبينهما شبّاكان فاصلان، قائلاً: «سلكت بالمعارضة طريقا ًخاطئاً، فالناس تُقتل وينكّل بجثثهم. أنتم المعارضون مخطئون. لن يتغير أي شيء، والمحصلة فقط مزيد من الفوضى والطائفية». قدّامه، من وراء الشبّاك، أنكرت نشاطها، وأخبرته أن الأمر محض صدفة، وربما صدّقها ليرتاح قليلاً. سألته عن أولاد إخوتها العشرة، لأن أقرانهم في المدرسة والحي سيعيّرونهم بأبشع النعوت، شامتين بعمّتهم. كانت تقتطع من مرتبها لتأتيهم بالقصص المصورة والألعاب، فهم المحرومون الأحب إلى قلبها. «وتسألين عنهم؟!» أجابها شقيقها، وأخبرها أن طائرة عودته ستقلع مساء ذلك اليوم نفسه.

التحقت بهيام في سجن عدرا صديقة اعتقلها رئيس الديوان التابع للأمن السياسي؛ تصرف كأنه دورية بأكملها، إذ تعرّف إليها أثناء عبورها بالصدفة في الشارع نفسه، فاقتادها بمفرده، وصدرت مذكرة توقيفها في ما بعد، من دون أن يطالها أذى كبير، لأن المعلومات التي أرادوها كانت قد صارت بحوزتهم للتوّ. في غرفة الإيداع، لم يكن مسموحاً لهما، حتى في فسحة التنفس، أن تخالطا نزيلات قسم القتل المتعاطفات معهما، فتخرجان إلى الشمس والهواء وحدهما بعد عودة الجميع إلى المهجع، والسجينات السياسيات قانونياً يُعتبرن جانحات لا جانيات. كانت هيام تعد القهوة لصديقتها، متغنية بقهوة أم محمود درويش ذائعة الصيت، حين بادرت شرطية إلى القول دونما اكتراث: «أنت هيام؟ تعرفين أن والدك توفي؟»، كان جوابها قرعاً ضعيفاً على جرس السجينات لاستدعاء المدير، ودموعاً صامتة ذرفتها الشرطية مثلها حين علمت بأن أهل السجينة قد قاطعوها، وقد فقدت بموت أبيها سندها. سجينات أخريات سقينها الحساء، وواسينها وهي تُعدّ نفسها بالصبر والقليل من الأمل لسنوات طويلة من السجن. النهار التالي حمل نبأ الإفراج عنها.

تسترجع هيام كيف تلاعب المحققون في قسم الجرائم السياسية بفكرة «الشرف»، مهددين بإخبار أهلها أن «تهمتها دعارة». جراء تفكيرها المتواصل بموقف عائلتها وما قد تلقاه لاحقاً، كانت تتمنى أحياناً ألا يحين أبداً إطلاق سراحها، ففي السجن على الأقل نوع من حرية التعبير، وهي هناك تصرح بكل قناعاتها من دون وجل. عند خروجها، اكتشفت كيف انحسرت التظاهرات، وأضحت مع استفحال التسلّح وانشقاق الجنود بمثابة الانتحار أحياناً. اتصلت بأمها معزية بوفاة أبيها، وذهبت تزورها في «الضيعة»، بعد يوم الجمعة، لأن الطرقات مغلقة. في تلك الزيارة، استقبح شقيقها الأكبر تماسكها، فبعد ما حصل وجسامة الأذى، كان يتوقع أن يراها منهارة تماماً. انتظر منها إبداء الندم والتوبة عما اقترفت، لأن الحرية التي نادت بها هي حرية مستعارة ولا تشرّف أحداً، وعليها أن تعي ما يجري وتستيقظ، وإلا فلن تنال إلا القطيعة. كان مثل ذاك التبرؤ بالنسبة إليها أبشع ما تعرضت له من عنف، والوطأة الأدهى هي خشيتها من حبسها هناك، في بيت العائلة، إذا عاودت الزيارة. اتهمها الشقيق بالعمل مع الإخوان المسلمين، وبالتعاون مع قتلة رفاقه في الجيش، رفاقه الذين استشهدوا بسببها وبسبب أمثالها من المعارضين، وهمّ بضربها لولا أن تدخّلت أمهما، صارخاً: «لن أكون رجلاً إن لم أذبحها!».

عقب تلك الزيارة، علمت هيام أيضاً بطردها من وظيفتها كمهندسة زراعية. في دمشق، وقد خسرت كذلك المنزل الذي قطنته، استضافها في منزله مازن درويش مدير المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، حيث اعتقلت هيام مرة أخرى لاحقاً. دورية من المخابرات الجوية داهمت المركز، واختطفت كل من كانوا فيه. التفتيش في ذاك الفرع كابوس كالاغتصاب. أدخلوها إلى غرفة، مكبلة معصوبة العينين، فاستهدت بالنبرات إلى وجود امرأتين سواها هناك؛ اقتربتا، المفتشتان اللتان تتواقحان في برود الردود، وبدأتا تخلعان ثياب الموقوفة قطعة تلو الأخرى، وهما تتعمّدان التمهل. الوقاحة بداهة هناك. ذروة انتهاك أخرى، أربعة أيد تتحرش في فظاظة بجسد ساكت مستسلم، فتتحسّس أعضاءه كلها بقسوة تفوق أي وصف. وقفت هيام عارية تماماً، مكبّلة معصوبة العينين، ثم سئلت بضعة أسئلة عن اسمها ومكان ولادتها، لتؤمر بعدها بارتداء ملابسها، من دون أن يزيل أحد العُصابة عن ناظريها أو يفكّ قيودها؛ تأسّفت لأن السترة المستعارة من صديقتها قد قُطّعت عروات أزرارها بالسكين، بينما هي محبوسة الأنفاس تخشى، عند سماع كل قطبة تتمزّق، أن يطعن النصل صدرها أو بطنها. مزقت المفتشات الملابس الداخلية لبعض الفتيات، أزحنَ الصدارات، وحملقن بالنهود المنتهكة لمعصوبات الأعين، ومددن الأيدي بين أفخاذهن، فلربما تكون الموقوفات قد خبّأن شيئاً هناك.

(نيسان 2012)

[ الوزارة وشهرزاد نحاتة الخبز

[ .. ومريم

ارتاب الجيران بشبان مجهولين يترددون على بيت حسبوه مكتباً تنعقد فيه لقاءات سياسية محظورة، فاستدعوا فرع الاربعين القريب في الجسر الابيض. أولاً، دخل شخص يحمل مسدساً، أخفاه في نطاقه ما ان رأى وجبة الشاورما والكوكاكولا على الطاولة. كبح جماحه تدخل جار آخر، قال ان لإحدى الفتيات هنا قرابة مع شخصية نافذة في الدولة. يبدو ان ما سمعه المسلح عن النفوذ قد فرض شيئاً من احترام، لم يعتده في التعامل مع امثال هؤلاء الشبان في مداهمات مماثلة. مريم، المعنية بتنويه النفوذ ذاك، والمتمسكة بقولها ان هذا اللقاء صدفة، وهم ليسوا مجموعة سرية بأي شكل من الاشكال، حاولت الهاء الضابط بالكلام، ريثما يتخلص الحاضرون من معلومات قد تضر بهم على كومبيوتراتهم التي صودرت، فما افلحوا ورمى أحدهم جهازه من النافذة. ثم دخل سبعة آخرون ليفتشوا المكان، وأوعز الضابط بمرافقتهم في تفتيش اغراضها، والانتباه لكيلا يسرقوا شيئاً. اتصلت امها بينما هي تسقي الدورية ماء بارداً، والهاتف يرن ويواصل رنينه ولا احد يرد. هؤلاء العناصر اذا شموا الخوف استشرسوا واستقووا اكثر، فأي مواطن سوري متهم على نحو مسبق. مريم، بالتهذيب والهدوء الممكنين، كانت تأمل في معاملة افضل منهم، وربما نالتها نسبياً. حاولت ان تجعلهم يشعرون بأن من حقهم تفتيش بيتها، وظلت تسايرهم الى ان غادر العنصر الأخير، فأغلقت الباب وراءه، وسألته ان كان يريد الاحتفاظ بالمفتاح، فقد يحتاجون شيئاً ما هنا في غيابها. أجابها: «كلا، سنحضرك عند اللزوم». في الشارع التمست ان يأخذوها بسيارتها الى الفرع. بعد ايماءة موافقة من الضباط، قادت السيارة بنفسها، ومعها فتاة أخرى وعنصران.

الفرع بالطبع عالم آخر. جرى تفتيش السيارة على الفور، وانقلبت الدورية الى نقيض ما كانت عليه. في هيجانهم المسعور لمحت مريم شاباً يصغرها اعواماً وتعرفه جيدا، اعتقل في المداهمة نفسها؛ شاهدت تعذيباً ضارياً، أخرسها تقريباً طوال اربعة وعشرين يوماً امضتها في المنفردة. لا احد يستطيع ان يقول كل ما رأى. لم تستطع النوم حين لمحت الشاب نفسه مرة أخرى من كوة الباب، مضعضعاً حليق الرأس مطأطئاً في ممر التعذيب، مساقاً الى مبنى آخر. كان تعذيبه شديداً في الفترة نفسها التي عانت فيها مريم من التهاب العصب الوركي، أو عرق النسا. اضطربت، وراحت تطالب بقص شعرها كله، كأنها بهذا التمثل ستخفف من وحدته. لم تشعر بمغادرة السجن الا حين علمت بخروجه ايضا في وقت لاحق.

كانت مريم تنصح بعض الفتيات اللواتي جمعها بهن المهجع نفسه، وقد تفاقمت نوبات الهستيريا لدى المصابات برهاب الأماكن المغلقة. كانت، بما تقوله وتعيده، تنصح نفسها ايضاً: «عليك بالتأقلم مع رداءة الأحوال. لا تجلدي نفسك باسترجاع العالم الخارجي وقصص الأهل والذكريات. استرخي، ولا تقاومي، لأن ما حصل قد حصل، ولا يمكن تغييره أو العودة الى الوراء. لمَ التذمر. انظري الي، كنت أدخن ولا يزال فوح السجائر يسعدني، لكنني اقلعت هنا عن التدخين، فأوصدت بذلك باباً آخر من ابواب التنازلات. انهيت التنازل قبل ان يبدأ». كانت احدى الشابات تكشف ثديها للسجان لقاء «نفس» سيجارة، وتخاطبه «سيدي»؛ امرأة اخرى احتارت كيف ستأتي بالبرتقال الذي تشتهي ابنتها ان تشمه وتذوقه، ابنتها المراهقة الحامل والمعتقلة معها، وفتاة ثالثة راقصة عولجت من سرطان الثدي كان زوجها للتو قد دبر لها عقد عمل في أحد الملاهي، بعد استغلالها طويلاً في الدعارة. التقت مريم بمذلات يقع عليهن ظلم مضاعف خارج السجن وداخله؛ وتتوقف عند شابة حلبية المولد تسميها شهرزاد.

شهرزاد مطلقة، اجبرها ابوها على الزواج برجل حملت منه، وأجهضت ثلاث مرات. هربت من حلب الى حمص اولاً، ومن ثم الى دمشق لتعمل في مشغل من مشاغل الخياطة والتطريز بسوق الحميدية. اعالت نفسها، وأغرمت بشاب من ثوار الزبداني تعرفت اليه من خلال الانترنت. تزوجته زواجا عرفياً لدى احد الشيوخ، ثم اعتقلت وهي في الشهر الثامن من حملها. مريم تقاسمت الزنزانة معها، وكلمت الجنين الذي يسمع ايضا ما يدور حوله في تلك الاقبية، فسمتها الأم أمه الثانية، وكلتاهما تتبادلان الدعم في نوبات السخط والقنوط، وثالثهما في الصبر والوحدة طفل منتظر. في احدى المرات، أتت مريم بما لملمته من فتات الخبز وبقايا لبابه، وصنعت شهرزاد من العجين تمثالاً صغيراً دقيق القسمات للجلاد ابو غضب في فرع الخطيب، بنحوله وأذنيه الكبيرتين. جلاد مريض يحلم بالفراريج المشوية ويأكل الحمص، ويسقط احباطاته على أجساد المحابيس، ويتمنى لو تجد له مريم وظيفة في الوزارة التي تعمل فيها. عبر ما تناهى اليها من احاديث بينه وبين زملائه، علمت بوفاة المغنية وردة الجزائرية، وتسربت في ما بعد انباء مجزرة الحولة، وتسميم خلية الأزمة. أينا السجين؟ تقول مريم. أنا العابرة ككثيرين ان نجونا، ام ذو المرتب الشحيح، هذا المقيم الذي امضى اعواما وأعواما تحت الارض من دون تفكير بتبعات عمله؟ استوقفه ذات مرة بكاء شهرزاد، وقد امتنعت كلتاهما عن تناول برغل كالحصى لا يؤكل. سأل ما بها، فلم يلق جواباً. وبعد قليل اتاها بحبتي خيار طازجتين، والخيار ملغى من مخصصات سجن النساء، ثم ذهب وعاد بحفنة ملح صغيرة وضعها في راحة مريم التي رأت للمرة الأولى في السجن تلك البلورات النقية. كانت شهرزاد، كل ليلة تقريباً، تروي لها حكاية عن حلب، وبعض حاراتها وناسها والأعياد هناك وايام رمضان، وتختم الحكاية احيانا بأغنية تعشقها؛ وفي احيان اخرى تخبرها عن رجال مختلفين أولعت بهم وبوسامتهم، والعلاقات التي جمعتها بهم، وكيف كانت تتأنق وتتغنج. كانت تهمتها هي المساهمة في تأسيس شبكة للخطف، فهي المقتنعة بأن الغاية تبرر الوسيلة، ورأت كيف انتهت احوال البلد في طريق مسدود، ساعدت في استدراج بعض الضباط والموظفين الى كمائن اختطاف، طلبا للفدية لاحقا او لتصفيتهم. كانت شهرزاد تسمع في اصوات المعذبين صوتها هي، وصراخها حين كان ابوها يجلدها بـ «الجنزير» كلما التقت شاباً غريباً. بكتها مريم عند المغادرة، فقد ذهبت من كان يمكن ان تمدها بكأس ماء حين تستفيق لاهثة من كابوس. اليماً تجلى آنذاك خواء المنفردة التي ضاقت عليهما، واتسعت بكلتيهما.

أحد المحققين، بعد ساعات طويلة من تبادل الكلام وشرب الشاي، وكأن التحقيق على هذا الغرار سيكسر الاطار الذي يخنق الموقوفة، استمع الى مريم تقول: «عرفتمونا الآن اكثر، فهل احببتمونا؟»، أدهشها بالتعبير: «تصبحون على وطن!». لكن الحفاظ على القوة وتمالك الأعصاب يقتات من الجسد، والعلامة هي الكيلوغرامات الثمانية التي خسرتها مريم من وزنها، ولا سيما عند ارجعاها الى فرع البداية، فرع الخطيب، لأن ذلك يعني بدء دورة التحقيق من جديد؛ وفي إحدى جولاته كانت راكعة معصوبة العينين، والجلاد يقف الى جانبها ينعتها بـ»الوزارة»، وهو يضرب الارض بسوطه الثقيل، ويلامس به ركبتيها الجاثيتين من دون ان يضربها، كما تقضي الأوامر عادة بالامتناع عن تعذيب النساء. كانت تحث نفسها لتقوي اللواتي تظنهن اضعف منها. لكن قولها بأن التعذيب لسعة سيختفي اثرها في المستقبل لم يقنع احداً ولم يخفف شيئاً. الرجال يعذبون والنساء يبكين معهم، واذا اجهشت احداهن بغتة خلخلت الدموع كل الفلسفات، وعم النواح المهجع كله، وباءت كل تهدئة بالاخفاق.

حين افرج عن مريم التقت والدها الذي بكى عندما رآها في مكتب الضابط، بحضور مسؤول كبير في الدولة قال: «سوف نسلمك الى عائلتك ليتحملوا مسؤوليتك»، وحين احتجت، اسكتها غاضباً: «أنت لم تتزوجي بعد، ولا تعرفين معنى الأمومة ومعزة الاطفال. الآن انت بطلة معارضة، وسيتهافت عليك المعارضون. تزوجي أحدهم!». بوصولها الى البيت استحمت مريم بشامبو «سنان» الخاص بمعالجة القمل، قبل ان تنزل وتشرد وحدها في الشوارع، وتباغتها الحواجز في شوارع بغداد؛ عادت وافترشت الارض مثلما كانت تنام في السجن. لم تشعر بأن ثمة من يستوعبها حقاً، فما قد توحي به من قوة أمام المصائب حرمها العطف العادي الذي قد يحتاج اليه اي انسان، ان يخاف عليها احد، ويقف الى جانبها في تلك الوحشة. سجلت صوتها وهي تروي تفاصيل اعتقالها، لعلها تتخلص من هذا العبء؛ وحدها اعادت الاستماع الى نفسها، واستغربت صوتها مسجلاً. لم تشعر بالحرية، ولكن ما افرحها صحة والديها الجيدة، المحبين لها، وان اوقفت عن عملها، ولم يسمح بتجديد جواز سفرها. لقد وصلت بالاعتقال الى بقاع قاتمة في نفسها، في بعضها منبع قوة لم تكن تتخيل انها ستدركها ذات يوم. خاضت قذارة التجربة، وانتهت بالعودة الى الناس، اذ ما معنى انضمامها الى الثورة اذا انكفأت وما استمرت بالعمل من اجلها، وهي تعلم جيدا كل ما يترتب على ما تقوم به؟ مؤخراً، نجت من طلقة قناص، حين كانت توصل اغراضا الى مخيم اليرموك المحاصر.

(تشرين الثاني 2012)

[ مجدولين

اثناء زيارة لمسقط رأسها، بوغتت مجدولين ذات صباح بحيطان منزل العائلة في الطابق الارضي مغطاة بالشتائم التي كتبها اهل الحي، من قبيل «هذا منزل العرعورية الصغيرة مجدولين حسن»، وبما هو اقذع وأشد. واقفة في عرض الشارع، صرخت: «يا حارة الشبيحة لن تمنعوني، ولن اخافكم«. بعد اشهر من ذاك التهديد، وقد التم شمل العائلة اخيراً، الجهة نفسها التي اوعزت الى الجيران بالشتم ارسلت ثلاثين مسلحا ليداهموا المنزل نفسه، طوقوه ثم اقتحموه اقتحاماً شنيعاً: رجال مدججون بالمسدسات والبنادق داهموا الصالون الذي تترك الأم المسنة بابه مفتوحا عادة. دعا أحدهم «المحامية مجدولين حسن» لتتفضل معهم الى فرع الأمن العسكري في طرطوس. حين سألته عن الاذن النيابي، اجاب: «لأنك محامية، لهذا السبب حصراً، لم نحضر الاذن»، وابرز لها بطاقة المخابرات التي تحمل اسمه. وحين طالبت باسترداد الكومبيوتر المحمول الذي صادروه اخبرها بأن ترفع دعوى في المحكمة لتستعيده.

سيقت الى سيارة بيجو ستيشن. اجلسوها على المقعد الخلفي، محفوفة بالرجال والاسلحة. بالوصول الى الفرع، قيدت يداها المعقودتان في حجرها، وعصبت عيناها. الوقت في الظلمة يترامى امام معصوبي الأعين، مكبلي الايدي في الحجرات والممرات بوجوه اداروها الى الحيطان، بعد ان أمضوا على أوراق تسليمهم ما في حوزتهم من نقود وأوراق وأغراض. ذاك المساء، كانت مجدولين المرأة الوحيدة بين موقوفين لا يعرفون ماذا ارتكبوا. اقتيدت الى المنفردة لتضنيها هناك صرخات المعذبين وأنينهم طوال الليل، وتترقب مذعورة ان يحين تعذيبها في اي لحظة، تقضم اظافرها وتعاودها الهواجس في الظلام الذي يقلقها منذ صغرها؛ يخيفها اي باب ينفتح ويصطفق، لتدوي في الممر شتيمة: «أغلقوا الشراقات يا أولاد الحمير»، فتغلق كوة بابها، وتسمع كيف يحتك بأرض الممر جسد الشخص الذي خارت قواه، ذاهباً الى التعذيب أو آيباً منه، تسمع كيف يتهاوى الجسد الذي اثقلته الضربات ليرتطم بأرض الزنزانة، وكيف يخبط الرأس بالجدار خبطاً مكتوماً، ولا تعود تسمع اشارات الرسائل التي ينقرها الجار بأصابعه على الجدار عوضا عن الكلمات، فتحسب ان حياة اخرى قد ازهقت. نقرة واحدة اخيرة وانية، ويختفي جار في الصباح. ثلاثة اشخاص من بانياس قضوا على هذا النحو، سمعتهم يفارقون الحياة في ذاك الممر الذي قطنت نهايته، عشرة ايام من دون اي استجواب. يعامل المعتقلون معاملة الموتى المؤجلين. اطلاق ايدي الجلادين مطلق، من دون اي تبعات أو مساءلات لاحقة، واباحة كل صنوف الاذلال مقرونة بالاباحة في قتل السجناء، ليقع في قلب اي معتقل ان كفة الموت الاثقل من الأمل هي الراجحة دائماً. لا احد يعرف سبباً واضحاً لاعتقاله. لا تحقيق واضحاً، ولا معنى للأدلة والقرائن. الوضوح الوحيد هو التعذيب وآلامه.

في جهنم الأصوات تلك، صرخات من يساطون بالكبل الرباعي وتصعق خصاهم بالكهرباء؛ في تلك الشراسة التي لا تدع احداً ينام، وعاصفة ليلية تغطي بالثلج الارض التي تتراص تحتها المنفردات، اضربت مجدولين عن الطعام والشراب وآذت كليتيها، وهي تجوب ذينك المترين المربعين الرطبين لتدفئ مفاصلها، محدقة بقنينة البلاستيك التي تشرب ماءها، مشمئزة من الحنفية الوحيدة في حوض المرحاض. «ليس لدينا مضربات عن الطعام»، قال العنصر الذي ناولها من كوة الباب صحناً معدنياً فيه الطعام الرديء الشحيح. «ابلغ ادارتك بقراري»، قالت؛ فأجابها: «لم لا تضربين عن الكلام ايضا؟ واضربي عن النوم، واضربي عن الجلوس..». شكرته على النصيحة، فظنها تهزأ به. اخبرته انها تشكره من باب الأدب، ولكن المسافة بينه وبين الأدب شاسعة، غير ان المسافة بين يده ووجهها لم تكن كذلك. صفعها صفعتين متتاليتين قويتين، قبل ان تلجم سخطه صيحة من الطرف الآخر للممر تأمره: «توقف! لا تعليمات لدينا». قذفت بالصحن من الكوة الى الممر، لتتراكم الفئران على الفور فوق حبات الارز والبازلاء وتلاشيها؛ الفئران هناك اصدقاء لطفاء مؤنسون. كانت تلك هي المرة الاولى والوحيدة التي ضُربت فيها مجدولين، وكانت الليلة ليلة رأس السنة 2012.

[نعيم السجن ورهاب الأبواب

السجن نعيم ان قورن بمنفردات فروع الأمن، تقول مجدولين. السجانة التي تستعطي اضأل الرشى في سجن طرطوس متماهية بالمكان الذي تقطنه وتعمل فيه، حذرت المحامية لكيلا تتمادى في اسداء النصائح، ولا تزيد من تراكم التهم في سجلها الأمني، فدعتها الى الكف عن تلبية استشارات السجينات واسئلتهن. هناك، التقت المحامية بزوجة «رهينة» اعتقلت لأن زوجها متهم بتجارة السلاح، والتقت مخبرة وشت بجارها المعارض فاختطفه الأمن الذي اتهمها لاحقا بطلب الفدية واعتقلها، ولا تنسى ثالثة اسمها «سورية» ظلت اعواما في السجن بتهمة سفاح القربى، بينما اخوها طليق السراح، فقط لأن أوراقها ضاعت ولم يتقدم احد بطلب لاخلاء سبيلها.

ترى مجدولين سجن المعارضات رسالة تأديب، ونهجاً «تربوياً» ليتعظ الآخرون، ولا سيما ابناء الطائفة العلوية «الكريمة» التي تحسب عليها المحامية المنهمكة بتوثيق الانتهاكات، ليصار اخيرا الى تلفيق كذبة يصدقها الكثيرون، وهي ان المعارضين سباقون في الجرائم ومسؤولون مباشرون عن سفك الدماء في البلد. انه جزء من نهج المخابرات في اكمال مسيرة تطييف المجتمع وتمزيقه، وقلب الثورة سنة ضد علويين وشيعة.

تذكر مجدولين ان التهمة الموجهة ضدها، بعد صدور المرسوم الوهمي لقانون الأحزاب، كانت تشكيل حزب سري؛ والدعاوى ترفع غالباً على المتهمين، ثم يخلى سبيل بعضهم بكفالة مالية، ويضطر المفرج عنهم الى مراجعة احد فروع الأمن، من اجل التفقد وانتظار يومين احياناً. قد تسقط تلك الدعاوى بالتقادم، او يشملها عفو رئاسي ليس الا مقايضة تنعت بـ»المكرمة». ومن جهة أخرى، ترى مجدولين في بعض السجانين ورجال الأمن ضحايا غسل الأدمغة الشمولي، بروباغندا روجت بين الفقراء والجهلة والأميين امل التطوع في الأمن، بوصفه مقدمة ستنتهي بالقوة والحظوة والجاه والحصانة، ولا تستغرب كيف لا تزال الثناءات والحسد تحيط بمن يبرع في تدبر نفقات حياته من خلال الارتشاء واللصوصية. كثر ايضا بين هؤلاء من لا يرتجى منهم اي امل.

اي حسم ستجلبه الأسلحة؟ حريصة على صون وجه الثورة المدني ما امكنني، ولست في خندق احد بعد ان كثر اعداء السوريين. لست نادمة ولن أتراجع. لا اكترث بخزي المعارضة السياسية، وعجزها المستمر عن تمثيل الشارع في شتى الأماكن، واقاسم اغلبية السوريين احقاداً لا تحصى ضد الأمن. لا ازال مستمرة في عملي تحت ظروف تفاقمت مشقاتها، بقلب يعتصره احيانا خوفي من اعتقال اصدقائي. اقوم شهريا بايصال تبرعات الراهبات من اديرة طرطوس وريفها، بعد تقسيم المبالغ كرواتب للسجينات، الموصومات المخذولات اللواتي تخلت عنهن عوائلهن. على الرغم من كل المصائب التي تتوالى، على الرغم من كل المخاوف واحتمالات ان اخسر ما اعرفه وما لا اعرفه، فقد تنزل قذيفة هاون في المكان الذي اقطنه، وقد اطرد من عملي في الأمم المتحدة ـ على الرغم من كل شيء، ينتابني احساس لم اعرفه من قبل، احساسي بجدوى ما اقوم به، اذ ما عدت تلك المتفرجة على رتابة الايام. لكني سأغادر سورية اذا سجنت مرة ثالثة. رهابي الوحيد هو العودة الى السجن بما يشبه الخطف، مثلما اختطف عبد العزيز الخير على طريق مطار دمشق، ومثلما اختطفت الثورة التي تحارب الآن على جبهتين على الاقل: ضد النظام، وضد الاسلاميين التكفيريين؛ يخيفني ان اختفي من دون التمكن من اخبار احد، فأؤنب نفسي لأني اقلقت اهلي الذين لا يعرفون كيف سيتصرفون، وأي أبواب سيقرعون ليعرفوا مصيري؛ شيوع النبأ يخفف على الاقل شيئاً من الهلع، لأن كل الاحتمالات في اختلال الموازين تبقى مفتوحة، وعدم وقوعها في الاعتقالين السابقين لا ينفيها البتة، احتمالات البقاء طويلا في السجن والتحرش والانتهاكات وحتى التصفية الجسدية، تقول مجدولين. تضاعف حذرها، اذ لكل سجين بعد اطلاق السراح كوابيسه، ارقه وأحيانا صمته الاقرب الى الخرس؛ عاد مجدداً الخوف من العتمة: العصابة السوداء التي اعمتها مؤقتا وضعت نصب عينيها قتامة المجهول، وحين رفعت عن ناظريها اثناء التحقيق، التحقيق الزاخر بالسخرية من العدالة والمحاماة والقضاة، رأت مجدولين اين كانت، رأت وجه من يستجوبها، وربما بات ممكنا آنذاك ان تتكهن بالتصرفات، فقالت: «نعم، سأنال من هيبة القضاء، ما دمتم قد نلتم من كرامتي. لست كما تكتبون على سياراتكم «هكذا تنظر الاسود». انظر الي، في عيني، هكذا ينظر الانسان العادي»؛ أمست لا تتابع اخبار التلفزيون، سيان القنوات الحكومية أو الجزيرة وسواها، فالأطراف جميعاً، خارجية او داخلية، الحت بطرائقها على قبر الطائفية في سورية ليتغذى سعيرها، وما استقوت به الثورة في بداياتها سعى لاحقا الى دفنها حية. كأي حرب اخرى لن تتوقف رحى هذه الحرب الراهنة الا بالمفاوضات.

لا يزال الهاجس نفسه يراود مجدولين عند ازدياد عدد الملتمين في سهرة او ملتقى؛ انها لا تنسى السهرة التي لفقت جراءها تهمة «تشكيل حزب سري«، إذ ضمت شقة قرابة عشرين شخصا في الضاحية الدمشقية جرمانا، حيث تقيم مجدولين وزوجها الذي خسر وظيفته. كانوا قد التقوا حول مائدة من التبولة والعرق، وهي تعزف على العود وتغني. انها الآن تتجنب الحواجز ما امكن، بالمشي أو تفادي بعض الشوارع، لأن الخوف من تعميم اسمها، ومطالبة الجنود بالهوية الشخصية، لم يبارحها بعد؛ لا تطفئ هاتفها النقال ابداً تجنباً لاقلاق الغير، فليس لخروجها عن نطاق التغطية، مثلما يردد المسجل الآلي، الا تفسير فوري هو الاعتقال؛ أحد اصدقائها المقربين مثلاً، وهو معتقل سابق، اعتقل حين زار أمها ليطمئن عليها. بات المنزل مصيدة، وصارت الأم في عقدها الثامن تجفل من رنين اي هاتف او جرس، ذاك الرنين المشؤوم في الفجر او منتصف الليل. باب البيت الذي كان يبقى مفتوحا في سالف الايام، مثلما كانت معظم الابواب في قرى الساحل السوري، وجدته مجدولين مغلقاً في الزيارة الأولى بعد الافراج عنها. ظلت الأم تقفل باب بيتها على ارقها اثناء اختفاء ابنتها؛ واذا طرق، ما عادت تنادي بصوت عال: «تفضل! الباب مفتوح!»، تدهورت صحتها، وقاطعت من لم يسأل عن ابنتها، وأحدهم ابنها الضابط الذي سمع باعتقال اخته ولم يحرك ساكناً.

(نيسان 2013)

ذات الرداء الأحمر وذات الحجاب الأبيض

[ وصفاء

في اعتصام «أوقفوا القتل»، قطعت صفاء شارع البرلمان وبيدها شمعة. أوقفت السيارات عند إشارة المرور، وهتفت: «الله سوريا حرية وبس»، ليهتف فوج الشبيحة الذين سبقوا المعتصمين القليلين إلى المكان: «الله سوريا بشار وبس». أوقعها أحدهم أرضاً، فظلت تركله، وتركل الهواء، وهي ملقاة تحت قدميه في عرض الشارع. هاربة، أمام مقهى في شارع العابد ليست متأكدة من اسمه «الروضة»، أعادتها إلى الوراء استغاثة فتاة وحيدة، ذات ثوب أحمر ويضربها شخصان: «كرمى لله يا خالة لا تتركيني». كان الشبان قد اختفوا إذ بدأ الضرب. صفاء إحدى السيدات اللواتي تتحول دماثتهن ووداعتهن إلى «شراسة في الحق» حين يخلّصن بعض الفتيات من قبضة الأمن، متشبثات بهن، مثلما فعلت أمام جامع الحسن في الميدان وجامع الإيمان، وتمنت لو فعلت الشيء ذاته أمام الجامع الأموي، لو كانت هناك إلى جوار الفتاة، ذات النظارة الشمسية وعلم سوريا يدثر كتفيها، لتسحبها من التظاهرة الصغيرة التي اعتبرت إحدى الشرارات الأولى لبدايات الثورة. شبيح أحمر اللحية، وعضلاته كلاعبي كمال الأجسام، أمسك بصفاء قبالة البرلمان ونزع حجابها الأبيض. جرّها، وهو يركلها ويصفعها، إلى سيارة انطلقت إلى فرع تسميه فرع حافظ مخلوف، حيث التعذيب على أشده، وشعر الفتيات المقتلع يغطي الأرض في الممرات وغرف التحقيق. تقاسمت صفاء المنفردة مع هبة التي أسمعها الضابط في التحقيق أنه «حتى في أميركا هناك رشى وسرقات يا بنتي. الدكتور بشار، سيادة الرئيس، هو الذي عيّن رجال الأمن، والتشكيك بهم تشكيك به». كانت كلتاهما تتيمّمان وتصليان في السر، تلهجان بالأدعية، وتستظهران ما تتذكران من سورة «يس»؛ هبة الطالبة الجامعية التي كانت تنام كثيراً، فتنعس حين تخاف وتغفو في الخطر، وتخدر بنومها أطراف صفاء التي أراحها الإفراج عن رفيقتها الصغيرة، فقد اتسعت فسحة النوم على الأقل، وصار بوسعها أن تمد أطرافها التي ظلت تحتال على طيها وبسطها أياماً، حائرةً كيف ستنام.

أفرج عن هبة بفردة حذاء واحدة، بعد أن تركت تحت الوسادة سواراً من الصوف، مغزولاً على شكل علم الاستقلال أو علم الثورة، ولفتتها في الخارج كلمة «حلاوة» التي سمعتها بالصدفة، إذ استرجعت على الفور حلاوةَ السجن الأشبهَ بالتراب. كانت قد قرأت فظاعات لا تُنسى في رواية «القوقعة»، واستفادت مما قرأت في التحوط والحذر. سُرق هاتفها في باص الأمن، على الطريق إلى الفرع، وشهدت كيف تحرش عنصر بفتاة كانت تبكي وتتوسل ألا يغتصبوها، فمدّ يده من المقعد الأمامي وقرص رجلها، ثم شد شعرها وانهالت الأكفّ، والفتاة الباكية نسيت كيف تُتلى الفاتحة، في ذاك الهلع الذي زاد عناصر الدورية سعاراً، فبدأوا يعابثونها بفكرة الاغتصاب المروعة حين علموا أنها من حمص. كانت المعتَقلات مرغَمات على التحديق بأرض الباص، وترديد النشيد العربي السوري. ممنوعٌ رفع الرأس. كان الإطراق خيراً من الحملقة بتلك الوجوه البغيضة. المعتقلات لسن سواسية، بعضهن عائدات من سوق الصالحية وعبرن بالصدفة- نائحات أمضين على تعهدات بيض الأوراق وخرجن بعد تدخلات سريعة غامضة، وبعضهن من «المندسات» اللواتي لا يندر بينهن الاعتقاد بأن دورهن قد انتهى، وقد قمن بما عليهن، ويتوجب الآن الرضوخ لإلحاح الأهل بالتوقف عن أية مشاركة في الثورة. أسكت الضابط اللواتي بقين حين بدأن الحكي جميعاً. في لغط الخائفات ذاك وقفت هبة التي إذا خافت ضحكت، كتمت ضحكها لكيلا تشتد الضربات على ظهرها، وهي المحجبة الوحيدة بينهن، الموصومة بـ «أم بقجة»، ترى بزاوية عينها الرقاب التي احمرّت بالصفعات، وكيف تقطع الباكياتُ الممرَّ إلى المهجع حيث أينما التفتن وجدن «يا رب» محفورة في الجدران، وعلى وجوه بعضهن وأذرعهن الخدوش التي تركتها أظافر شبيحات هاجمنْهُنّ أمام البرلمان، وهن يصحن صياح رجال الأمن نفسه: «هاي هي الحرية اللي بدكن ياها؟«.

[ الأب والابن وجسد الأم

اعتصام آخر من أجل أطفال الحولة أمام المستشفى الإيطالي بدمشق. كان مخترَقاً. اعتُقلت نساء عديدات، إحداهن صفاء التي اعتادت لسكناها في الغوطة أزيز الرصاص. اقتربت من عنصر يطلق النار في الهواء، وقالت: «نحن أهلك وأخواتك»، كررت ما قالته من قبل لعنصر أمن آخر أطلق النار أثناء مأتم في القابون، وأتاها الجواب: «انقلعي وإلا قتلتك!» لم يستجب لصيحاتها أحد من المارة أو أصحاب المحلات. لم تكن لتتخيل قط مقدرتها على مواجهة رجل أمن هكذا. العنصر الذي تعرف إليها في فرع الخطيب تشفّى من معاودتها الاحتجاج، فآذى قدمها وأغرقها بالبصاق. ما رُوعيت بتاتاً. تمادى في تحقيرها تحقيراً مضاعفاً: «أنتم الفلسطينيون خونة، بِعتم أرضكم للصهاينة، وتريدون الآن أن تبيعوا أرضنا أيضاً. لُعن أبوك يا بنت الكلب…» يمطرها بالشتائم، هي جالسة على كرسي، معصوبة العينين ويداها مقيدتان وراء ظهرها، وهو يحوم زاعقاً متوعداً بالضرب وما هو أشنع، ما سمعتْ عنه وما لم تسمعْ. أشدُّ ما آلمها، وأبكاها حين عادت وحدها، أنه شتم أباها المتوفى، المترجم الفلسطيني الذي درست الأدب الإنكليزي بمشورته، وكان زميلاً لتوفيق البجيرمي في كلية الآداب بدمشق. عنه أخذتُ الترجمة التي أعيش من مزاولتها، تقول صفاء، وظللتُ أزاولها بالمراسلة من المنزل. لازمتُ البيت بعد أن أنجبت أولادي. أنهى الإنجاب أربعة أعوام من العمل الرتيب في المراسم بوزارة الخارجية. كان المردود معقولاً، وابنتي المقيمة في الإمارات تزودني بالكتب الأجنبية، وحالياً ترسل إلي كل شهر مبلغاً صغيراً، يكاد لا يغطي شيئاً من أبسط النفقات. أعيش على الكفاف، لكنني سعيدة على الرغم من كل شيء. مثلي مثل الذين خسروا منازلهم وباتوا في العراء، لكنني على الأقل تخلصتُ من قيود زواج مبكر أثقل بفشله على حياتي كلها. كان الانفصال محتماً. كنا قد وصلنا إلى نقطة تبدد فيها معنى الأمل. ثلاثون عاماً من التعاسة وضعتُ لها مختلف الأقنعة، ولا أعلم حقاً كيف مرَّ كل هذا الوقت لأقف الآن على عتبة الخمسين.

تتذكر صفاء كيف أغضى أبوها، وتسارعت خطاه حين رأى مع طفلته رجلين يضربان مراهقاً في حديقة السبكي. لم يجب عن استفسارها «من هؤلاء؟»، فظنت رجلي الأمن من أقرباء الفتى. كذلك لا تنسى رجل أمن آخر تفرّج عليها وهي طالبة إعدادية تُضْرب أمامه في غرفة الإدارة، فقط لأنها قالت بطيش المراهقات «أنا أكره حافظ الأسد»، ومديرة المدرسة تنوب عنه في الضرب إلى أن أمرها «كفى». بعد انصرافه اعتذرت منها المديرة. لقد اضطرت إلى القيام بذلك، لأنه هددها شخصياً. صفاء ترعرعت على الكتمان، فالناس اعتادوا أن يخفِضوا أصواتهم، ويتلفتوا عند الكلام في المحظورات السياسية، ولو حتى داخل منازلهم، كأن المخبرين مبثوثون في الهواء. فكيف ستنسى الحقد الذي ربته المظالم والفقر، وأيُّ وعي تفتح على المأساة منذ البداية؟ لو كنا في عهد حافظ الأسد، تقول، لأبادنا أجمعين منذ البداية، مثلما فعل هو وأخوه رفعت، فأبادا أهالي حماة ودمّرا مدينتهم، أما ابنه فاعتمد الإبادة التدريجية. بمتابعة ما جرى في تونس ومصر وليبيا، مثل سوريين كثيرين، ترقبت صفاء في السر وصول الموجة إلى سوريا. استبعدت ذلك، مرجِّحة أن السوريين لن يثوروا أبداً. ومثل كثيرين أيضاً، ترى في بشار الأسد شخصية مهزوزة تتفلسف، لكنهم أذيال نظام أبيه الذين رفعوه إلى سدة الحكم، هُم مَن استماتوا في الذود عن مصالحهم، لأن رحيله سيؤذن بنهايتهم أيضاً، فواصلوا القتل وإطلاق أوامر القتل، وعلى يديه وأيديهم تحققت كل الكوابيس، إذ لم يتخيل أحد الانتهاء عند هذه الأشكال المريعة من الموت. لم تصدّقْ ما رأته على شاشة التلفزيون من تهليل وتصفيق لضحكاته البلهاء، في خطابه بمجلس الشعب بعد مقتلة درعا الأولى. أمام ذاك المبنى نفسه ضُربتْ، وتحت قبته شُرّعت التجاوزات، وجرى تعديل الدستور خلال دقائق ليرث الابنُ كرسيَّ أبيه. ربما اعتدنا القمع، تقول صفاء، وعلينا التخلص من هذا الميراث. لن نصل إلى أية نتيجة سريعاً، لن يلمس نبيٌّ أحوالنا بمعجزة. لا أصدق، ولا أستوعب، كيف لنا أن نظلم بعضنا بعضاً بعد كل هذه المحن، ونتحسّر لأن هذه الأهوال لم تقع في عهود استقرار الأسدين، إذ كنا ضعافاً وجبناء. أيامنا مفتوحة على المجهول، وطموحاتي محدودة وقليلة، إذ ما نفع الآمال الكبرى في واقعٍ أعرفه جيداً؟ لو عاد الزمن إلى الوراء لأقدمتُ مرة أخرى على ما قمتُ به خلال الثورة. أعلم أن العدل سيتأخر كثيراً، ولكن ربما علينا مواصلة الصبر، ومواجهة أنفسنا دون تذمر، وقد يأتي أكفياء لا يهدرون دماء الشهداء سدى.

سُئلت صفاء في فرع الخطيب عن ابنها. «لا بد أنه مع الجيش الكر»، سخر المحقق، متوعداً بأنهم سيجلبونه ويعذبونه أمامها. لم يعرف أحد بما تضمر من ألم. ابنها طالب طب أخّره عن التخرج اعتقاله مرتين، وقد اسبغ الأهالي لقب «دكتور» على أقرانه من طلبة الطب الذين عملوا في المستشفيات الميدانية في الغوطة. اختفى في إحدى التظاهرات السلمية الأولى في حرستا، حين لم يكن للمسلحين أيُّ أثر؛ تم توقيفه يوماً واحداً. ذهبت أمه تبحث عنه بين الجرحى في المستشفى الوطني، ورأت بأم العين كيف أردى رصاصُ الأمن شاباً شهيداً. اعتُقل ابنها مرة أخرى فيما بعد، ثلاثة أسابيع في فرع فلسطين. زار وأصدقاءه أمَّه، بعد خروجها من اعتقالها الثاني، مهنئين محتفين بسلامتها، وعانقها عناقاً مشتاقاً حاراً. لكنه بعد القطيعة بين أبويه، لم يتفهم وجهة نظر أمه بتاتاً. إنه لا يقبل بظهورها كمطلقة في المجتمع، ويرى أن الأنسب هو بقاؤها منفصلة دون طلاق رسمي. اتصل بأزواج النساء اللواتي يدعمن أمه، وأفهمهم ما معناه «إن أمي خطر على زوجاتكم». إثر هذا التحذير من شاب مستقيم مثله، ازدادت قناعاته تزمتاً في الآونة الأخيرة، بتن يخشين الاحتكاك معها، ورفضنها مصدقاتٍ ما سمعنَ، أو مجاراةً لرفض أزواجهن. ما عدن يرسلن إليها التبرعات التي تأتي من أقرباء لهن خارج البلاد مقتنعين بقضية الثورة. لكن رب العالمين لا يغلق باباً إلا ليفتح غيره، فليسامح الله ابني الذي أساء إلي كثيراً، تقول صفاء. إنه قطعة مني ونسخة عني. صادفته منذ أيام في أحد شوارع مسرابا. اندفعتُ نحوه متلهفة لأحضنه، فأمسك بيدي على الملأ، راجياً: «لا تحرجيني». أنا الملامة لأنني عصيته.

حين كان المحقّق يسألها عن أسرتها، ربما لم يكن يعلم أن حياتها تلك قد انتهت تقريباً، ولم يبقَ لها أحد. إنها الوحيدة بين إخوتها وأخواتها مَن شاركت في الثورة، شدّت على يدها أختُها التي هُجّرت من داريا. ابنتها طالبة البكالوريا تقيم مع زوجها، كانت ترعاها وتصحبها حتى إلى باص المدرسة، كما لو كانت طفلة، ولو رأت حقاً أحوال مَن تعمل أمها من أجلهم لغيّرت رأيها وازدادت عطفاً. لعلّ البيت الكبير والدافئ، في كنف والدها وعمتها، أعماها مؤقتاً وأنساها الشظف الذي يقاسيه الناس.

مسَّ قلب صفاء في المحكمة شرطيٌّ شابّ خاطبها «يا أمي»، صعد بها الدرج إلى قاعة المحاكمات في القصر العدلي، معتذراً وهو يضع القيود في يديها، لأن الكاميرات تراقبه. خفّف موقفه من الوقع المهين لتفتيش الشرطية. برجوعها إلى السجن حاولت صفاء بعضاً من المرح، فبدتْ كمَن تستعيد أحلام صباها المسكونة بالأفلام المصرية، كالحلم بالعمل محامية، لتساعد وتفهم أمثال الراقصة «عبدو» التي كانت تُضحك السجينات بالرقص في المهجع؛ نصحتها صفاء بأن تستهدي بالله، وتفتح بقالية عند خروجها، عوضاً عن العمل في الطاحونة الحمراء وملاه أخرى.

فور الخروج من السجن، برائحة المعتقلات التي تغلغلت في ثيابها وجلدها، ذهبت صفاء تعود أمها التي خرجت للتو من العناية الصدرية المشددة. رجتها أمُّها المريضة، مثلما كانت ترجوها دائماً، الكفَّ عما تفعله في الريف، والاعتناء بمظهرها وعدم ارتداء نفس الملابس دائماً. توفيت بعد أيام قليلة، ولامت الابنة نفسها كأنها أحد أسباب ذاك الموت، هي التي حاولت في المعتقل أن تحتوي وتساند المنهارات وتضحك الباكيات، فذلك بالنسبة إليها دورها الطبيعي، غدت بغتة مستنزَفة، وأمامها أيام طوال من الوحدة والنحيب والكآبة البشعة. لكلِّ فعلٍ ضريبته، لقد ابتعدنا عن ذوينا وخسرناهم، ولا بد لنا من بداية. عانيتُ الأمرّين مع زوجي، فهو كرجل شرقي لا يراني نداً له، ولا يجوز لي إبداء رأيي في شيء، تقول صفاء. تفاقمت خلافاتهما تدريجياً، بدءاً من مشاركاتها الأولى في تنظيم تظاهرات صغيرة، فما عاد يصادفها دائماً، مثلما اعتاد في الماضي، عند رجوعه إلى البيت. بدأ يُملي على زوجته صواب السلوك، ويسيء الظن بالنوايا، فالخروج عن رأيه نقيصة لكليهما وعيب مشين. «أرأيت ما ألحقتهِ بنفسكِ وبنا؟» أسمعها موشَّحاً من التوبيخات بعد اعتقالها، وكأن كلَّ مَن اعتُقلت اغتُصبت. الاغتصاب، هذا الهاجس الأفظع، هو ما يتوارد أولاً إلى أذهان معظم الناس حين يُحكى عن اعتقال أية امرأة، لكن صفاء ليست إحدى ضحاياه اللواتي يكتمن رعبهنّ بالتناسي. طلبت مخالعة بالتراضي يستلزم حصولها موافقة الزوجين. رفض الزوج، وأنّب المحامية عندما زارته ليتفاهما، ففي دعوة التفريق يستطيع المماطلة أعواماً، لتظل زوجته لا تدري ما تفعل في هذه الحيرة، والعمر يتقدم والوقت يمضي. القوانين لا تنصف المرأة، والمآسي تتوالى، ولا حب يخفف القليل من شدة وقعها. سُئلت كثيراً عن هذا الانفصال، وما دواعيه الآن. ربما لم أكن الأنثى التي حلم بها، تقول صفاء. ميولها تعاف المكياج والتبرُّج، ولعلها أخطأت بهذا الإهمال الذي لم يطَلْ تدبيرها شؤون المنزل والمطبخ. لم يخدع أي منهما الآخر، ولربما أسعده الارتباط بامرأة أخرى. لكن بعض العلاقات قد تدوم أكثر بالكتمان، وليس من الضروري المصارحة والإفصاح عن كل شيء، حتى لأقرب المقرَّبين.

حدّثتْ إحدى صديقاتها الصغيرات: هل من المعقول أن يرضى الله بممارسة المرأة للجنس مع زوجٍ لا تحبه في علاقة مقرفة للغاية، بينما يتوعدها بالويل إذا مارست الحب مع رجل آخر تحبه؟ أليس هذا بالأمر الغريب؟ حياتي كجسدي ملكي أنا، لا ضرر ولا ضرار، تقول صفاء. ستُغفر الذنوب، إلا الإساءة إلى الآخرين وهتك أعراضهم. لا يغرّ حجابي أحداً ممن يعرفني. لقد وضعته عن قناعة شخصية وأنا في الثامنة والعشرين من عمري. ليس فرضاً أو إكراهاً، وإن تمنّيته لكل النساء. أصلّي ولست بمتعصبة لأحد. لا أتنقّب ولا أرتدي المعطف الطويل، وأدرك معنى أن تحكمنا دولة إسلامية ستكون أولى مهماتها إلغاء أي دور محتمل للمرأة وإقصاءها تماماً، وآنذاك سيبدو أي حديث عن المساواة والحقوق ضرباً من العبث. شهدتُ في الغوطة الشرقية بعض المواقف، فما ظننته أقصى ما أستطيع بذله من أجل الثورة لم يرَه المحافظون والمتشددون إلا شقاً لعصا الطاعة الزوجية، لأن مكاني الطبيعي داخل المنزل. في إحدى المرات، شاركت في دورة تمريض في مستشفى ميداني بمسرابا، وكنت أراقب حالة مريض ينتظر نقله إلى مكان آخر للعلاج حين جاء شخص يغضّ طرفه. سألني الخروج من الغرفة لأن ثمة رجالاً يرغبون في الدخول. ظننته يمزح، فأجبتُه: دعهم يدخلون. ثم عاود الطلب نفسه بخروج «الحرمة»، كلّمني كأنني غائبة لم أقُلْ شيئاً. ما هذه المزحة، قلتُ وخرجت. حادثتُ رجلاً آخر في الممر، فظهر بغتة رجل مسلح لامني: «نساء يكلمن رجالاً. اتقوا الله، القذائف تنهمر، وأنتم تكلمون بعضكم بعضاً!». علا صوتي وقد سمّى المرأة «حرمة» أيضاً؛ ذكّرته بالفتيات الأربع من عائلة الترك في حرستا، كيف اعتقلهن الأمن الجوي ليلاً وهنّ بثياب الصلاة، بسبب عمّهم الشهيد حسان الترك، وهنّ لم يكن قد شاركن في أي شيء. كنتُ قد خرجت وامرأة أخرى فقط للاعتصام من أجل الإفراج عنهن، مع عدد كبير من الرجال. في يوم هادئ آخر، دخل رجل آخر إلى ذاك المنزل نفسه الذي صار مستشفى ميدانياً. وجد ثلاث ممرضات يافعات، والغرف خالية من المرضى أو الجرحى، فوبّخهن: «صار المستشفى كالجامعة». ما أخفى رغبته بأن يقتصر كل عمل على الرجال فحسب، لأن وجود المرأة هنا يعيق سير العمل، بل من غير المقبول أساساً أن تعمل، ناسياً في حنقه احتمال وصول المريضات أو جريحات القصف وغارات الميغ. بعد الصبر والاحتجاجات المتكررة، عوملن أخيراً ببعض الاحترام وإن على مضض. كان فرضُهنّ هذه المشيئةَ البسيطة منقوصاً، إذ جُوزيت المرأة أحياناً بالطلاق الذي ازدادت حالاته بعد الثورة، لأن الرجل لم يستطع أن يتقبل فكرة خروجها عن أمره. لقد خسرت، على الرغم من بعض المكاسب المحدودة التي جنتها، ومشاركتها في الثورة تُظهِرُ طبيعة المجتمع جيداً، فقد ظلت محدودة جداً، خصوصاً بعد موجات النزوح الكبيرة في مدن وبلدات ريف دمشق. الرجل يبدي امتنانه على ما تبذله زوجته، لكنه لا يسمح لها أن تقوم بمثل ما يقوم به. يقلقه أن تغادر المنزل، وربما أهانها وضربها، وربما أيّدته نساء أخريات فيما يذهب إليه. لا يزال عملها يحرجه، فهذا جزء من تنشئته. قد يؤثِرُ إجهادَ نفسه في القيام بعملين على السماح لها بالعمل، تقول صفاء. كنتُ ذاهبة برفقة طبيب مسنّ إلى مدرسة نزحتْ إليها عوائل عديدة. على الطريق نادتني سيدة تحمل طفلها الذي لا يتجاوز عمره بضعة أشهر. استوقفتني على استحياء. «ابني مريض»، قالت، «الله يخليك، خذيه أنتِ إلى الطبيب بدلاً عني، فنقابي ليس معي«.

كانت الجنائز تظاهرات ضخمة أحياناً. ظلت صفاء تخرج في تشييع الشهداء منذ مطلع نيسان 2011، امرأة وحيدة أحياناً بين آلاف المشيّعين في حرستا، فالنساء يلازمن باب الجامع، ممتنعاتٍ عن السير خلف الرجال، ولا تعلم من أين أتى هذا التحريم، وتضييقه على تكريم الشهداء كما ينبغي. الحرستاويات لم يقتدين بالدومانيات الأقرب إلى الرجال، ولا أقصد الشكل، تقول صفاء، بل قوة الإرادة. كانت التظاهرات النسائية في حرستا قليلة جداً، وتخرج عادة بنساء منقَّبات عند حلول الليل. أفتى بعض أئمة المساجد بأن خروجهن خروجٌ عن الشرع، ولا يجوز لهن الكشفُ عن عورة أصواتهن بالهتاف في الشوارع. شاهدها زوجها مرةً في تشييع ليلي، وجاء تأنيبه شديداً، لأنها خالطت الرجال الذين يرى النشاط الثوري حكراً عليهم. لم يسمح لها وجوده في البيت، بعد الإفراج عنها، بأن تستقبل بين المهئنات رجلاً شاركته العمل في الغوطة. يحزّ هذا الموقف في قلبها كلما تذكرت الحديث المقتضب مع ذاك الزائر على عتبة الباب. إنه رجلٌ تقدره بإعجاب، وتراه عصامياً لا يكاد أحد يعرفه، استطاع أن يحافظ على نزاهته واستقامته وهدوئه طوال عشرات الشهور الطويلة المنصرمة.

كرست صفاء وقتها لإغاثة النازحين وأهالي المعتقلين وعوائل الشهداء، توزع التبرعات العينية وسلال الأغذية. المحطَّمون يحتاجون إلى كلمة جميلة أيضاً، كلمة تجنبهم حرج أن يتلقوا ما قد يحسبونه صدقات، في الأقبية والبنايات غير المكتملة والمدارس، فمَن تساعدهم يساعدونها أيضاً، ويزيدون من إيمانها بطيبة الناس ويخففون عنها، إن كانت ثمة راحةٌ ممكنة لأحد. إنهم الآن حياتها، ويؤسفها أن يغترّ بعض المتطوعين أحياناً، وكأنهم ينسبون إلى أنفسهم أفضال المتبرعين، المجهولين غالباً. ولأن حرستا التي عاشت فيها نصف عمرها لا يسكنها الآن غير المقاتلين تقريباً، تبقى صفاء في مكتب جمعية تتبع المجلس المحلي في سقبا، امرأة وحيدة بين جموع الرجال، وبعضهم يعرفون أنها تخلت عن كل شيء من أجلهم، قد تعانقهم وتلثم جباههم كأنها أمهم، فتياناً وكباراً ومسلحين، تطهو لهم وتستغرب كيف لم تتعرف إلى هؤلاء الجميلين من قبل. تسرّها أمومتها، وتفعمها كلما سنحتْ لها فرصة أن تتجلى. شبان مسلحون أتوها بأسطوانة غاز حين عادت إلى منزلها في حرستا لتجده منهوباً خاوياً، فطبختْ لهم وجالستهم وحدها في الشارع، وهم يلقبونها تحبباً «أبو بكر». تراهم طيبين ينقصهم التوجيه، وتبقى مع بعضهم في المنزل نفسه حتى انتصاف الليل، حين يغادرون ليسنح لها في الخلوة خلع الحجاب. عادة لا يتركونها وحدها، بعد انتهاء العمل في المكتب عند السادسة مساء، لكيلا تقتلها الوحدة، تقول، إنهم يحتاجون أمّاً في ظروف هي الأحلك، وأنا أحتاج أبناء لأن الأمومة غريزة وحاجة أيضاً.

لا تستطيع صفاء أن تنسى ما رأته في ممرات السجن، حيث حركات الذهاب والإياب وتوافد المعتقلين الجدد تزوّد بالأخبار. كانت تلمح في كوة الباب طبيباً شائباً يعبر الممر، ويستكمل أشغال الجلادين بخياطة جراح الشبان المعذَّبين دون تخدير؛ كان، في المطبخ القذر المقابل للمهجع، يخيط الأقدام الجريحة التي أنزفتها السياط، ثم يجبرهم على المشي ذهاباً وإياباً في الممر وهم مضمَّدون، بينما النساء عاجزات، ليس لهن إلا دور المنصِتات إلى المتألمين، كأنهن مذنبات لأنهن لا يُعذَّبن مثلهم، ولطالما سمعن توسلات شبان يرجون الجلادين أن يكتبوا ما شاؤوا، ويأتوهم بالإفادات ليمضوها. للمتهمين بأنهم مسلَّحون العذابُ الأشد. مثلهم كانت ميسون، القادمة من فرع الأمن العسكري، بندوب حديثة مرتفعة في معصميها، مشوَّهة بحروق التعذيب الكهربائية، لأنها ساعدت في تهريب السلاح. لا تنسى صفاء الشبان المقرفصين ساعات طوالاً، مواجهين الحائط في الممر، مصفوفين في رتل تحت عين السجان، مكبَّلين معصوبي الأعين عراة الصدور، وعلى أكتافهم حزوز العصي والأكبال الرباعية التي يُسمع صفير نزولها على اللحم. بذهابها إلى الحمام صباحاً، والذهاب إليه مسموح مرتين يومياً، شاهدتِ الذين كانت قد شاهدتهم الليلة الفائتة وهم لا يزالون على الوضعية نفسها. كان في ظهر أحدهم جرح غائر ينزّ دماً. لمست يده، فأجفلته اللمسة. ربما حسب ذاك الحنو العابر انتهاكاً وشيكاً.

(آذار 2013)

 

أصدر جولان حاجي «إلى أن قامت الحرب، نساء في الثورة السورية» (عن دار رياض الريس للكتب والنشر، في بيروت).

هذا الكتاب عمل دؤوب، جامع، متعدد الأصوات، روته نساء سوريات شاركن في الثورة السورية، فشهدن جمال بداياتها الشعبية والمدنية، عبر تظاهرات وخطوات سلمية، ورأين مع الأمل الموت، لينهار أمامهن كل ما هو بشر وحجر، المنازل والأمكنة في مدنهن وبلداتهن التي انتفضت ضد السفاح بشّار الأسد.

نساء شجاعات كابدن في نضالهن، الاعتقال، والتعذيب، والمهانة، والقمع، والاتهامات الباطلة. واضطر بعضهن إلى مغادرة البلاد، وها بعضهن في شهاداتن الحية، تتعاطين مع الحرب بكل جوانبها الاجتماعية والسياسية، فيتحدثن هنا بكل تلقائية وشفافية وصراحة عن مساراتهن الوعرة، فتذكرن عما نجحن في القيام به، وما عجزن عنه خلال هذه الثورة، قبل أن تستحيل حرباً ضروساً، أتت على الأخضر واليابس.

وها هن تشهدن عما كابدن، مصورات عنف النظام، وفساده، ووحشيته. الأسلوب الذي صيغت فيه هذه الشهادات، ميسر، وقوي، ومؤثر، وسردي منساب، خال من كل تزييف وفبركة.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى