صفحات مميزة

شهادات عن الرقة : حصار وتشرّد واحتجاز وموت

 

يوميات النزوح من الرقة: أربعة أيام في حراسة سيارة مفخخة/ ملكة العائد

قلت: لا بدَّ أنه قصف الطيران. كانت بعض أجزاء الدرج مكسورةً، وأمام باب البيت، تهدمت جدران بيت الدرج تماماً. على اليمين، بعض قشور البرتقال اليابسة، وفي منتصف الفسحة أطلت النظر في زهرة حمراء رقيقة كانت تنهض من شق في البلاط. كان هذا حلماً، أو كابوساً بارداً غير مفزع يذكِّر بمشاهد من “ذهب مع الريح”.

يوم الخروج

يشبه يوم خروجنا من الرقة يوم القيامة، حسب وصف القرآن؛ الناس سكارى، وما هم بسكارى. في ذلك اليوم سرت إشاعة انفجار سد الفرات. الذهول مرعب، ومكبرات الصوت في الشوارع، والجوامع، أنذرت الناس من موت مقبل بعد ربع ساعة إذا لم يخرجوا من المدينة. بدأ سباق الخروج في سيارات تزاحمت واصطدمت ببعضها. نساء نسيت خوفها من الحسبة وخرجن بثياب البيت، وبالبيجامات. من يملك سيارة تحرك فوراً، ومن لا يملك سيارة حاول التعلق بأي سيارة مارة. الصراخ يأتي من كل الاتجاهات. امرأة حملت خوفها أثناء الهروب، لكنها نسيت أحد أولادها، فصرخت “مين صاحب المروة يجيبلي ابني”.

بدأ السباق في اتجاه شمال المدينة في الطريق إلى الريف. هنالك سيارة نفد منها البنزين. نزل السائق بسرعة إلى “بسطة بنزين” لم يجد صاحبها، فكسر القفل وملأ خزان السيارة وتحرك. رجال يركضون بذعر ممسكين بأيدي أطفالهم بحثاً عن سيارة تنقلهم.

بعد ساعة من خروجنا، قطعنا مسافة تقارب 35 كيلومتراً، وفي ظننا أن مياه السد لن تصل إلى هذا المكان. بعض السيارات تابعت إلى مناطق أبعد من تلك المسافة، ووصلوا حتى آخر حاجز لـ”تنظيم الدولة”، أو داعش، أي على تماس مع القوات الكردية، أو “قوات سوريا الديموقراطية”. الفاصل بين القوتين كان العدد الكبير جداً من السيارات، والغضب الذي عصف بالناس في لحظات رعبهم. الغضب والخوف على حياتهم وأولادهم جعلهم يتجاوزون خوفهم من عناصر داعش. كانوا يصرخون مطالبين بفتح الحاجز “رح نغرق بالمي.. بدنا نعبر”، فسمح الحاجز لكثير من السيارات بالعبور حتى ساعة معينة.

يومها، سرت إشاعة تقول إن الحاجز سمح للسيارات بالعبور إلى “بلاد الكفر” بشكل مقصود، وليس رأفة بالناس، لأن “أبو بكر البغدادي” عبر مع جموع الناس.

بجوار المفخخة

لم نكن ممن عبروا حواجز داعش في ذلك اليوم. ذهبنا إلى قرية “كُبش” التي كانت لا تزال تحت سيطرة التنظيم في الريف الشمالي. وصلنا إلى بيت لأحد الأقارب، فاستوقفنا رجل من القرية ليخبرنا أن أصحاب البيت غادروا لأن عناصر من داعش أوقفوا سيارة مفخخة في دكان ملاصق للبيت!

سمعت ذلك، ولم أسمع. فقدت أي شعور. وعندما نزلت من السيارة، حاولت التفكير بأي شيء فلم تستوطن أي فكرة في دماغي، حتى فكرة الخوف لم أشعر بها.

هذا الإحساس جرَّبته وعرفته من قبل، عندما كانت طائرات النظام الأسدي تلقي البراميل المتفجرة بمظلات قبل عهد داعش، وقبل سيطرة التنظيم على مطار الطبقة. كنت أراقب البراميل تتدلى ببطء ويأخذها الهواء في اتجاهه، دون أن يعرف البرميل نفسه أين سيقع. كنت أنظر إلى الأعلى جامدة في مكاني، ليصبح قياس الزمن نفسياً فقط، دون أي امتداد.

كان لدينا خياران، إما أن نبقى بجوار المفخخة، أو العودة إلى الرقة المهددة بالغرق. ولأن بداية معركة الرقة كانت متوقعة في أول نيسان، حتى قبل إشاعة انهيار السد، وكان يفصلنا عن هذا الموعد خمسة أيام فقط، سألت من حولي ماذا نفعل؟ كان الخوف من حصار طويل للمدينة أكثر ما دفع معظم الناس للخروج، وليس الحرب في حد ذاتها، فالخوف من الموت البطيء في الحصار كان أقوى من الموت السريع بالصواريخ وقذائف الطائرات.

بعد نصف ساعة من سماع خبر المفخخة، اعتزلت التفكير حين قررنا البقاء. أصحاب البيت تركوه، ونحن بقينا لنحرس السيارة المفخخة، تحت سماء لا يفارقها الطيران، والسيارة إن لم تنفجر “ذاتياً” قد تكون هدفاً لمقذوف طائرة.

وبحس بدائي، لزمنا الطرف الأبعد من البيت عن مكان المفخخة، حتى سمعنا بعد أربعة أيام صوت باب الدكان وهو يفتح. عندها كان عنصر من داعش يبتعد بسيارة جيب مطلية بالوحل إلى أطراف القرية، أو أبعد.

لم يحدث خلال تلك الأيام ما يخيف، ففي فكرة مجاورة سيارة مفخخة ما يكفي من الخوف.

سوق الشائعات

في يوم شائعة انفجار السد، انقطعت المياه والكهرباء. واستمر انقطاع الكهرباء لأيام، أما المياه فتتوافر ليوم، وتنقطع لأيام. مولدات الكهرباء كانت تعمل حتى المساء لساعات قليلة، نشحن فيها بطاريات الإضاءة، ونتابع أخبار مدينتنا من التلفزيون.

ولعدة أيام، كان خبر انهيار السد الأبرز على الفضائيات. أما على الأرض فكانت الأحاديث تدور حول تفسير إشاعة انهيار السد، ومن الذي أطلقها. قيل إن داعش هو من ابتدع الإشاعة كي يتمكن بعض عناصره من الهروب مع جموع الناس دون أن يكونوا أهدافاً للطائرات. وقيل إن الأكراد أطلقوا الشائعة كي يخرج المدنيون من الرقة ويقصفوا “على راحتهم”.

مضت أيام دون أن تَصدق الإشاعة، ودون أن تنطلق معركة المدينة في أوائل نيسان، فبدأ معظم الناس بالعودة إلى بيوتهم في الرقة. بعض الناس اشتروا خيماً ونصبوها في الأراضي الزراعية. يذهبون إلى الرقة عند هدوء القصف، ويعودون إلى الخيمة عندما يشتد قصف الطائرات على المدينة. ومن كان يمتلك بيتاً في الريف استقر فيه.

على طرفي القناة

القرية التي لجأنا إليها كانت تحت سيطرة داعش، دون وجود ظاهر لعناصره. كانت سيارة الحسبة تزورنا بسرعة وتغادر بسرعة. وما سمعناه من الأهالي أن عدد عناصر داعش في القرية ثلاثة فقط “يرابطون”، حسب التعبير المستخدم من قبل التنظيم، عند قناة الري الآتية من بحيرة سد الفرات، أي في الحد الغربي للقرية. وتفصلهم عن الطرف الآخر الذي يتواجد فيه الأكراد مسافة عشر دقائق مشياً (حوالي كيلومتر واحد)، وهم على هذه الحال منذ ثلاثة أشهر. ولأن حالة الهدوء على طرفي القناة استمرت لأشهر، كان أهل القرية مقتنعين أن قريتهم ستسقط تلقائياً في يد الأكراد قبل أن يتابعوا طريقهم إلى الرقة من الجهة الغربية. ولذلك لم يخافوا من هدير الطائرات المستمر فوق القرية نهاراً وليلاً، فالطائرات لم تقصف هنا سوى الجسرين الموجودين فيها، من ضمن غارات استهدفت كل الجسور في الرقة وريفها.

الحاووز المفخخ

بقينا على هذه الحال عشرين يوماً. ومما لا أنساه حركة أحد عناصر التنظيم وهو يصعد إلى “حاووز المي”. كان العنصر يستخدم منظاراً غريب الشكل لرصد الحركة في محيط القرية. وما سمعناه من أهل القرية أن الحاووز كان مفخخاً.

صوت الطائرات المتواصل هنا اعتيادي وليس مخيفاً، على عكس ما عرفته في الرقة. فالصوت هناك كان يعني القصف بالتأكيد. أما احتمال القصف هنا فكان ضعيفاً، إذا استثنينا أشباح الذكريات. النوم العميق يزورني في الصباح، بعد دقائق متفرقة متباعدة من نوم متقطع مرهق.

في أوقات الصحو، كان يتبادر إلى ذهني عندما أرى مدى كثافة الطيران وحركته المستمرة أن هذه المعركة إما وهمية ضد عدو وهمي، أو أن هذا العدو الموجهة ضده كل قوى العالم لا توجد وسيلة أكيدة للقضاء عليه، أو حتى لتحجيمه.

معركة أول نيسان

بدأ الترقب في بداية نيسان الماضي: ماذا سيحدث؟ ومتى ستبدأ المعركة؟ كنا نسمع في نشرات الأخبار تفاصيل عن معارك في الطبقة، ومحاولة السيطرة الكاملة على السد، وأن الخوف من حالة السد هو ما أخَّر المعركة. سمعنا أيضاً أن المناطق الشرقية من ريف الرقة قد تمت السيطرة عليها بشكل سريع من قبل “قوات النخبة”.

لم يكن أهل هذه المناطق ممن تخلصوا من سيطرة داعش راضين عن الأكراد. تحدثوا عن أعمال السلب والنهب، والضغط على الشباب لتجنيدهم في “قسد”. سكان المناطق الذين ما زالوا تحت سيطرة التنظيم لم يصدقوا هذه الأخبار، واعتبروها مجرد إشاعات.

نحن في منتصف شهر نيسان، ومعركة السيطرة على الرقة لم تبدأ. لكن الضربات الجوية لطيران التحالف تصاعدت منذ أواخر آذار، وأصبح القصف اليومي يستهدف الجسور والمباني الحكومية، خاصة. مات مئات المدنيين في الشوارع والبيوت القريبة من مراكز غارات الطيران. والآن بدأ تدمير البنية التحتية للمدينة بشكل كامل، وبدأت معالمها تتغير. وبعد أن كانت الأماكن المدمرة مجرد ندوب في وجه المدينة، أصبح الدمار واضحاً، في كل شارع في المدينة تقريباً. ومع ازدياد التدمير، تنامى خوف الناس من طائرات التحالف.

في بدايات تشكيل التحالف ضد داعش، كانت الضربات الجوية دقيقة، ولم تسجل إصابات بين المدنيين، ولذلك لم يشعر الناس بالخوف من قصفهم. كان الخوف من الطيران الروسي، ومن طيران النظام، ومن القصف العشوائي الذي يصيب المدنيين بدقة تصل إلى درجة وصفه بـ”العامد”.

مع ذلك، أصبح صوت الطائرات في الأشهر الأخيرة كابوساً بالنسبة للجميع، ومصدر قلق وإرهاق يكاد يشكل معظم تفاصيل الحياة اليومية لسكان الرقة.

جبهة القناة

كنا نسمع أصوات القصف الآتية من الطبقة. الأبواب والشبابيك تهتز مع كل ضربة. وبعد مضي نحو أسبوعين على وجودنا في القرية، بدا أن هدنة جبهة القناة المائية انتهت، وأصبحنا نسمع أصوات قصف المدفعية بوضوح. كانت الأصوات قريبة، فقدرنا أنها في منطقة أقرب من الطبقة. فالصوت الجديد نسمعه صوتين متتاليين، الأول صوت انطلاق القذيفة، والثاني صوت انفجارها. كنا نترقب بخوف الأصوات المتتالية، ولا نعرف ماذا يجري بالضبط، وهل القصف ينطلق من القرية، أم موجهاً إليها؟ أحياناً، يتخلل القصف المدفعي صوت قصف طائرة. استمر ذلك حتى الصباح. وفي اليوم التالي، كان أهل القرية يتحدثون عن هجوم التنظيم على الأكراد. الرواية تقول إن حوالي 18 عنصراً من التنظيم عبروا القناة لينفذوا عملية انتحارية، لكن الطائرات قصفتهم قبل أن يصلوا إلى موقع الأكراد.

استغربت، وسألت من أين لهم هذه المعلومات، وكيف حددوا عدد العناصر إذا كانوا في الطرف الثاني.

في المساء، كالعادة، يأتي بعض أهالي القرية ممن لا يملكون مولدات إلى البيت، حيث نسكن، ليشحنوا بطاريات الإضاءة، ويتابعوا نشرات الأخبار على التلفزيون. كانت هذه فرصة للحديث عما جرى البارحة من قصف. تحدث أحدهم أن مصدر القصف كله من الأراضي الزراعية عند طرف القرية المحاذي للقناة، حيث دخل عناصر من التنظيم إلى هناك وقصفوا مواقع الأكراد بالمدفعية، تمهيداً لعبور القناة من أنفاق تحت قناة الماء، فالجسر دمره قصف الطيران في وقت سابق. كانوا يتحدثون عن هذا الهجوم وأنا أحدث نفسي: كلامهم أقرب إلى الخيال. كيف يعرفون هذه التفاصيل، وهل توجد حرب فعلاً بين التنظيم من جهة، والأكراد وداعميهم من جهة ثانية، أم أنها مجرد مسرحية؟ كيف يحصي التحالف قتلى التتظيم، وكيف يعرف من قتل، وكم قتل، خاصة أن القصف يحول الأرض وما عليها إلى رماد. سألت أحدهم كيف عرفتم ما جرى، وكيف حددتم أعداد القتلى؟ فقال إن بعض العناصر لم يصابوا، وعادوا إلى القرية، وطلبوا من راع هناك تحت التهديد أن يذهب بأغنامه وحماره ليرعى عند مكان الجثث، حيث أن الرعاة لا يكونون بالعادة هدفاً للأكراد. وهكذا تمكن الراعي من نقل الجثث إلى داخل القرية. ثم حملهم من تبقى من عناصر داعش في سيارة وأخذوهم إلى الرقة.

التحليل السياسي

معظم الناس في القرية، وفي الرقة، كانوا على قناعة أن الأكراد تابعين للنظام، وأنهم عندما يستعيدونها من التنظيم ستسلم للنظام.

هذه كانت قناعتهم. ولذلك ارتبكوا عندما قصف الأمريكان مطار الشعيرات بالصواريخ، لكنهم برروا الضربة بأنها كانت مجرد مسرحية، كون النظام كان على علم مسبق بها.

أيضاً، يرى محلل سياسي في القرية أن ترامب كان يحاول أن يقنع الأمريكيين أنه وبوتين ليسا على وفاق، وأن لا دخل لبوتين بنجاحه في الانتخابات. هو تحليل التقطه أحدهم من التلفزيون وصاغه بطريقته.

في المجمل، الناس يريدون أن تنتهي الحرب بأي شكل. يسبون جميع الأطراف، من النظام إلى داعش، وما بينهما. يريدون طرفاً ينهي الحرب وسنوات القصف والخوف.

أكراد يشبهوننا

أمام البيت في القرية فسحة كبيرة محاطة بسور. كنت أخرج لأمشي فيها ملتزمة بتنبيه أصحاب البيت بعدم الاقتراب من الباب الرئيسي للسور، لأنه مكشوف على الشارع، ويمكن أن تراني الحسبة فجأة. كنت أنظر إلى الطرف البعيد من القرية من فتحات السور، حيث من المفترض أن يتواجد الأكراد. الأطفال في البيت يلحقوني. كانوا يقولون إن الأكراد هناك خلف بيت عمنا عند طرف القرية. كنا في السابق نذهب إلى هناك في الربيع عند أطراف القناة نحش النباتات البرية (نقطف النباتات البرية). الآن أطراف القناة مليئة بالألغام. قال أحدهم: عمي يرى الأكراد من سطح البيت. كنا نتحدث عن كائن مجهول خلف القناة، غير الكائن الأسود الذي نعيش معه الآن. كنت أسألهم أحياناً، هل رأيتم الأكراد، هل يشبهوننا، أم هم مخلوقات من المريخ؟ فيقولون: لا، لم نرهم. كنت أقول لهم مازحة هم مخلوقات صفراء فضائية، وهم أصدقاء للطائرات. عندها، يشطح خيالهم الطفولي، فيسألني أحدهم إن كان الأكراد يحبون الألوان، فأقول إن الأكراد الأرضيين مثلنا، أو يشبهوننا. أما الأكراد الفضائيين فلا يحبون إلا اللون الأصفر.

نزوح مضاعف

في منتصف شهر نيسان، أي بعد مضي عشرين يوماً على وصولنا إلى “كُبش”، وبعد الهجوم الذي قام به عناصر التنظيم بحوالي أسبوع، تجدد القصف المدفعي على القرية. كان عنيفاً، والفاصل الزمني بين كل قذيفتين متقارباً تهتز له الأرض أحياناً، فأترك فراشي وأركض إلى الممر المحاط بالجدران، على الرغم من إدراكي أن هذا لن يفيد إذا أصابت قذيفة أحد الجدران، لكنني كنت أكرر الأمر نفسه في كل مرة. كنت أمشي على طول الممر جيئة وذهاباً، وعندما تخف وتيرة القصف أعود لأتدفأ، فأجد أن كل من في المنزل يجلس في فراشه. بقينا على هذه الحال حتى الصباح. وعندما انتهى القصف المدفعي بعد حوالي نصف ساعة، بدأت قيامة الطائرات في الثامنة صباحاً، وهذه المرة لم تكن عابرة إلى الرقة. لم أسمع مثل هذا الصوت منذ أن بدأت الحرب. الطائرات تحلق فوق البيوت تماماً، حتى تكاد تلامسها، لدرجة أن الناس الذين كانوا في الخارج ينبطحون كلما مرت، خاصة عندما تخترق جدار الصوت. كانت تبتعد ثم تعود، وتنزل لدرجة أننا نتخيل أن قذفها بحجر يمكن أن يصيبها، لكنها لم تقصف أي هدف في القرية. نظرت من النافذة عندما سمعت صراخاً. كان كل من في القرية يركض، والنساء والأطفال يصرخون. عاد صاحب المنزل مستفسراً عما حدث ليلة البارحة، وعندما فاجأته الطائرة، صرخ من الخارج طالباً منا ركوب السيارة. كنا متأهبين من الذعر، فخرجنا نركض دون أن نحمل شيئاً. لبسنا أحذية ما على عجل، دون أن نميز ماذا لبسنا، وركبنا السيارة. كانت الطائرة فوقنا، والسيارة مسرعة للخروج من القرية، وكل من في القرية كان على هذه الحال. خرجوا بأي وسيلة، بعضهم يركض، وبعضهم ساق أغنامه على عجل وخرج. ابتعدنا مسافة حوالي خمسة كيلومترات في الأراضي الزراعية البعيدة عن مكان الاشتباكات، فرأينا ثلاث خيام نصبها بعض سكان القرية تحسباً لمثل هذا الطارئ.

خرج رجل من إحدى الخيام فرحب بنا. وفي خيمة صغيرة وجدنا امرأتين وعدداً من الأطفال نزحوا من ريف حماة. كانت إحداهن قد ولدت طفلة منذ أسبوع، ويبدو عليها التوتر والخوف على طفلتها المريضة، وهي تغير الكمادات الباردة للطفلة وتنظر إلينا، قالت “أخاف من الطيارة.. أموت من الخوف من صوتها.. صارلنا خمس سنين على هذه الحال بالخيم.. ننتقل من منطقة إلى أخرى.. اشتقنا لديرتنا”. قالتها بحسرة. وأضافت “لأن أهلنا بالجيش الحر طلعنا من هناك. النظام يقصف مناطقنا دايماً، ولا يفرق بين صغير وكبير”.

كانت الطائرة ما تزال تحوم ويعلو صوتها عندما تقترب من القرية، فنصم آذاننا ونختلج في كل مرة. بعد قليل، غاب صوتها لأكثر من نصف ساعة. يبدو أني غفوت في هذه الفترة وأنا جالسة من شدة تعبي. أدركت ذلك حين استيقظت مذعورة على صوت الغارة العنيفة الوحيدة خلال ذلك النهار. في تلك الأثناء، ذهب الرجال إلى البلدات المجاورة ليشتروا الخيام ولوازمها. غابوا عنا حوالي ساعتين في “المنصورة” القريبة من الطبقة ليشتروا، أو يستعيروا، خيماً.

بدأ عدد الخيام يزداد شيئاً فشيئاً. قال أهل القرية “نهارين أو ثلاثة ونعود عندما يهدأ الوضع”. كانوا متأكدين أن هذه الجبهة لن تتحرك.

ومع غروب الشمس، اكتمل بناء الخيام، واستغل الناس هدوء الأجواء ليعودوا على عجل إلى القرية ويحضروا بعض الفرش والأغطية والمؤونة وأدوات للطبخ على قدر ما تتسع الخيمة.

نمنا الليلة الأولى في الخيمة متلاصقين، دون أن يقطع نومنا أي صوت. وفي الصباح، شربنا الشاي المعد على بابور الكاز في جو ربيعي معتدل. بعدها انشغل سكان المخيم بإكمال تجهيز الخيام. كانوا يحفرون الأرض حولها لمنع دخول مياه الأمطار، ويربطون في أطرافها أكياس مليئة بالتراب لتصبح ثقيلة أمام الريح. وقبل أن يكتمل ذلك، بدأ هطول المطر بغزارة شديدة، وأخذت الريح تعصف بالخيم، فأمسك كل واحد منا بجهة من الخيمة كي تصمد أمام الريح. بعضنا من الخارج، وآخرون من الداخل. أمسكت بعمود عند باب الخيمة محاولة إغلاق باب الخيمة برجلي من الأسفل، بينما أمسك الطرف العلوي بيدي، لكن الماء بدأ يسيل على طول يدي المرفوعة ليتسلل إلى جسدي ويصل حتى قدمي، قبل أن أنتبه إلى أن الماء بدأ يدلف من سقف الخيمة، فتركت الباب على عجل وطويت أطراف الحصيرة الممدودة على الأرض، ونقلت الفرش والأغطية والخبز وكومتها فوق بعضها في منتصف الخيمة.

جلسنا في المنتصف فوق الأغراض مستسلمين. كانت ثيابي الوحيدة مبللة، فاكتفيت بنزع جواربي والجلوس مع البقية فوق كومة الأغراض منتظرين هدوء العاصفة.

في تلك الساعات، استغل داعش العاصفة فأدخل عشرات من عناصره إلى القرية. وما إن هدأت العاصفة حتى بدأنا نسمع أصوات القصف المدفعي.

رفيقتي في العاصفة

كنت مبللة بالماء والخوف في وسط مجهول ليس له أفق. أمي الثمانينية رفيقتي في رحلة الخوف والهروب لم تتوقف عن التسبيح والدعاء بالستر وحسن العاقبة. أكثر ما يؤلم في هذه الحرب معاناة كبار السن والأطفال، وما يختبرونه من مشاعر الخوف. منذ قليل، عندما عصفت الرياح بالخيمة، صرخت “مرام”، ابنة العاشرة، وقد تراكب صوت الرعد مع ما تختزنه ذاكرتها من أصوات القصف والانفجارات، فاحتضنتها أمها بالعاطفة والمنطق “إنه مجرد مطر، مثل كل مرة، لكننا في خيمة هذه المرة، وليس في بيتنا. إنه مجرد مطر!”.

استمر القصف المدفعي قرابة نصف ساعة. وبعد أن هدأ، عدنا، سكان المخيم، لإصلاح ما أفسدته العاصفة. أعدنا ربط الخيم وتثبيتها ونحن ننتزع أقدامنا من الوحل في كل خطوة. وعندما غربت الشمس التزمنا خيمنا. وكالعادة، تناولنا العشاء الجماعي، وقد أصبحنا عشرين شخصاً في خيمة. أكلنا ما نملكه من طعام يكفي آلات أجسادنا كي تقاوم البرد والخوف قبل الهروب التالي. كانت متعتنا الوحيدة القدرة على إعداد الشاي مرات كل يوم، لكننا انتبهنا لاحقاً إلى ضرورة اختصار عدد مرات هذه المتعة.

في اليوم التالي، سمحت الشمس بنشر ما ابتل من فرش وبطانيات، دون أن نغفل عن ترقب ما سيحدث، فمنذ أن هدأت مدفعية البارحة لم نسمع شيئاً يدل على وجود اشتباكات. الرجال تجمعوا في أعلى التلة ليراقبوا قريتهم ويفهموا سبب الهدوء، أو ليتوقعوا ما سيجري. لم يستعملوا في كلامهم تسمية “قوات سوريا الديموقراطية”، كونها تسمية رسمية تقتصر على التصريحات، والمؤتمرات الرسمية على التلفزيون. التسمية الشعبية هي “الكراد” في كل مرة يشيرون فيها إلى من يوجد خلف القناة. لم يكن لوجود مقاتلين عرب ضمن هذه القوات على ما يبدو أهمية تذكر، فالأكراد يتصدرون المشهد، ووجود المقاتلين العرب في “قسد” هامشي، فهم ليسوا أصحاب قضية، بل مجرد أرقام ضمن هذه التركيبة. حتى الرأي الشعبي كان يرى في هذا الوجود مجرد غطاء لشرعية القيادة الكردية ضمن مشهد التركيبة “الديموقراطية” للسيطرة لاحقاً على الأراضي المنتزعة من داعش، وللتفرد بحكمها وقيادتها، ووسمها بالطابع الكردي البعيد عن الديموقراطية المفترضة في تسمية هذه القوات. عند الظهيرة، حلقت طائرتا أباتشي بشكل متقابل على علو منخفض. كانتا تطيران ببطء، فوق القرية. أكد بعض الرجال على التلة أن “قسد” يمدون جسراً حربياً على القناة بحماية الأباتشي. بعد ساعات، سمعنا صوت انفجار وحيد وقوي. وبعد أن انزاح الدخان والغبار، أدرك المتفرجون من أهل المخيم أن “حاووز المي” اختفى من مشهد القرية. عندها، بدأنا بترقب بداية دخول الأكراد إلى القرية.

ليلاً، وبعد ثلاثة أيام على وجودنا في المخيم، عندما كنا نستعد للنوم، بدأ القصف. خبرتنا أشارت إلى أنه لم يكن مدفعياً، وليس قصف طائرات. كان مصدر القذائف الصاروخية قريباً، لأننا سمعنا صوت إطلاقها، وراقبنا مسارها فوق الخيم، ثم صوت انفجارها في مكان ما قريب. كنا نأمل أن تكون الجولات قليلة، لكن القصف استمر، ولم يعد في استطاعتنا أن نحصي عدد الضربات. من المؤكد أنها تجاوزت الخمسين. وفي كل مرة كنا نتوقع أن تسقط التالية فوقنا، في ظلام الليل حيث لا يفصلنا عن السماء سوى قماش الخيمة.

التساؤلات المشتركة كانت: من هو العدو في هذه الحرب، وهل يوجد أحد يحارب من أجلنا، هنا، أو في أي مكان في سوريا؟ هل تهتم أي من الدول والتنظيمات المتصارعة بحقنا المهدور في أن نبقى أحياء؟

عني، كنت مصرة على “العيش” في هذا المخيم، أستهلك الوقت ويستهلكني في انتظار المنتصر الجديد. كنت أرتجف كالورقة، أحاول أن أثبت أطرافي دون أن أستطيع. اللغة المشتركة بين سكان الخيمة كانت نظرات الخوف بين كل صاروخين، ثم الصراخ لثوان في كل مرة ينطلق فيها الصاروخ، ثم الصمت والخوف حين يهبط. لا نملك إلا أن نبقى في مكاننا.

استمرت غيبوبة الخوف هذه أكثر من ساعتين، ثم بدأ تحليق الطائرات. كانت الطائرات تتناوب ذهاباً وإياباً. لا نعرف من أين تأتي، أو إلى أين تذهب، ترافقها طائرة تصوير نميزها من صوتها الضخم. أدركنا ذلك في ما بعد، لكننا كنا نتوقع أن تقصف الطائرات في كل مرة تمر بها فوق مخيمنا الصغير.

استمرت حالة الترقب حتى الصباح، دون قصف. علمنا، لاحقاً، أن الطائرات قصفت مكاتب بيع السيارات في الرقة. أما القصف على القرية فلم يكن حقيقياً. فمعظم الصواريخ سقطت في البساتين والأراضي الزراعية المحيطة بالقرية.

الخبز والماء

في اليوم التالي، اصطبحنا ببائع خبز أتى من بلدة مجاورة، فاشترى سكان كل خيمة ما أمكنهم من الخبز. الرجال أحضروا صهاريج ماء مملوءة من السواقي القريبة. هي سواق ترابية تستخدم لتصريف الماء الزائد عن حاجة السقي، وتتجمع فيها المياه من سواق أخرى إسمنتية قرب مخيمنا. لاحظنا منذ اليوم الأول لنا هنا انقطاع جريان الماء، الذي استمر عشرة أيام. كنا نملأ ما لدينا من أوان من هذه الصهاريج ماء أصفر تطفو على سطحه بعض الشوائب. طريقة تعقيم وتصفية المتوافرة كانت باستخدام حبوب دوائية أحضرناها معنا، وسبق أن استخدمناها في بيتنا في الرقة، لعدم ثقتنا بنظافة مياه الشرب. كنت أنظر إلى منظر الماء، ولا أستطيع شربه. لكنني بعد يومين استسلمت وشربت متجاوزة شعوري بالقرف من لونه.

روى الرجال أن هذه السواقي، أو المصارف، استخدمها عناصر داعش للاختباء فيها مثل خنادق الميدان في حربهم مع “الكراد”. لاحقاً، روى بعضهم أنه شاهد جثثاً منتفخة لعناصر من داعش قرب هذه السواقي، وأكد أحدهم أنه رأى جثة في إحدى السواقي.

الأسود والأصفر

عصراً، قصفت طائرة أحد بيوت القرية. ركض بعض الشباب إلى التلة ليحددوا المكان. وبعد أن انقشع الدخان والغبار، حددوا مكان القصف في مدخل القرية. البيت اختفى تماماً.

في أماكن قريبة من القرية، كان بعض الشباب يتسلل كي يشاهد القرية، وربما كي ينقل معلومات للأكراد عند القناة. وحسب قول بعضهم، أن البيت قُصف في لحظة دخول عناصر من داعش بأسلحتهم، فأصبحوا جثثاً هامدة تحت أنقاض البيت الذي لم يبق منه غير الدرج. ويبدو أن بيتين أو ثلاثة دُمرت بالطريقة نفسها.

هذا الحدث شغل أهل القرية لساعات، قبل أن يقعوا في حيرة من قصف مدفعي بدأ مع غروب الشمس، قصف كان يأتي من مكان يفترض أن التنظيم لايزال يسيطر عليه ضمن أراضي القرية: هل يتبادل عناصر داعش القصف؟ شيئاً فشيئاً أصبحت أصوات القصف أقرب، وسقطت قذائف قرب خيامنا، ولأن الفاصل الزمني بين كل قذيفيتن ضاق، كان لابد من الهروب إلى مكان أبعد. انتقل الخوف والصراخ بيننا كالعدوى، وعندما ركض أحدهم إلى سيارته هو وعائلته وركبوا وأسرع فيهم وهو يصيح بالكل للهروب إلى قرية أبعد، بدأ سباق ركوب السيارات والجرارات الزراعية، للابتعاد عن القذائف التي كانت لاتزال تتساقط.

ركبنا على عجل إحدى السيارات، لكن الخوف جعل تلك اللحظات طويلة جداً. كنا نحاول الإسراع، غير أن الزمن اللازم للوصول إلى السيارة كان يبدو طويلاً ومبهماً.

سارت سيارتنا خلف سيارات انطلقت نحو جهة لا أعرفها، فأنا لست من أهل هذه المنطقة. انطلقت السيارات بمحاذاة أحد مصارف الماء الترابية. كانت الشمس قد غربت، واستطعنا أن نرى مشهد نبات الزل (القصب) في القناة العميقة على أضواء السيارات. الطريق ضيقة، وبالكاد يتسع عرضها لسيارة واحدة، وعلى طرفها الآخر ساتر ترابي عالٍ. كنا نبتعد عن مكان المخيم بسرعة، على وقع أصوات القذائف الذي أصبح بعيداً شيئاً ما، وأنا أراقب قناة الصرف العميقة التي سايرتها السيارة للحظات طويلة. كنت وكأنني أراقب مشهداً لست موجودة فيه، هل يعقل أن ما يحدث يحدث، وهل أنا موجودة داخل فيلم، أو أشاهد فيلماً؟ هل يعقل أن تسقط إحدى القذائف فوقنا قبل أن نبتعد مسافة كافية؟ ففي الموت، لا أحد يصدق موته. دائماً نحس أن الموت يمكن أن يصيب الآخرين، ولكنه بعيد عنا. في مثل هذه اللحظات، تحس أن الموت يلاحقك. تنكره وهو يحدق فيك.

هنا، توقفت السيارة، وأخرجتني من دوامة الأفكار المتلاطمة. لقد تعطلت قبل أن نقطع نصف المسافة إلى هدفنا الذي لا أعرفه. هل يعقل ما يحدث، تجاوزتنا إحدى السيارات، ثم عادت لتجر سيارتنا بحبل. جرتها لأمتار عدة، قبل أن ينقطع الحبل. وعندها تركنا صاحب السيارة وتابع سيره. حاول سائق سيارتنا تشغيلها بلا فائدة، إلى أن جاء جرار وسحب السيارة بحبل لمسافة لا بأس بها. في نهاية القناة، وصلنا إلى طريق إسفلتي، وعندما استدار الجرار ليسلك الطريق المسفلت، انقطع الحبل مرة أخرى ونحن لا نزال نساير القناة، فكادت سيارتنا أن تهوي في القناة، لو لم ترجع السيارة بسرعة إلى الوراء. بقينا في مكاننا وتابعت بقية القافلة طريقها.

في تلك اللحظات، حل شعور آخر لدي مكان الخوف، أحسست أني وحيدة، ليس لي أحد في هذه الدنيا. حلقي يؤلمني من شدة الشعور بالظلم وليس العطش، لماذا تهدر كرامتنا بهذه الطريقة، ولصالح من؟ ولماذا أمر بكل هذا؟ لماذا لا يوجد أحد تعنيه حياتي؟ لماذا لا أعامل كإنسان، وأسقط كرقم في هذه الحرب؟ هل وجودي في هذه البقعة من الأرض جعل من يديرون هذه الحرب يحولوني إلى كائن يصارع على عاتقه للبقاء حياً؟

تحت وصاية الوقت

التتابع السريع للأحداث لن يفسح لأي شعور أن يصل بك إلى العودة لصورتك الأولى كإنسان، فلا وقت للتوقف في سباق البقاء هذا. عادت سيارة كانت قد أوصلت بعض النازحين إلى المكان المقصود لتأخذنا. تركنا السيارة المعطلة وركبنا فيها. كنا آخر الواصلين، حين امتلأت الغرف بالناس، ولفظ البيت الفائض منهم خارجه. رحبت بنا صاحبة البيت العجوز، ودعت الجميع للدخول. وجود شخص يعود بسيارته ليساعدك، وبشاشة هذه السيدة المسنة وكلماتها الرقيقة، خففا خليط التوتر والخوف واليأس والظلم الذي جعلني لا أقوى على النزول من السيارة عند وصولنا، حتى جاء شخص وساعدني على ذلك. كنت في حالة من العصبية بحيث عجز دماغي عن إعطاء الأمر اللا إرادي لرجلي للنزول، فلم أعد أعرف أين أضع قدمي لأنزل. رحبت بنا السيدة وهي تبث فينا ثقتها أن الله سيفرجها. قالتها بهدوء وثقة. توزع سكان المخيم على البيوت المجاورة. كان الظلام يخيم على المكان، وحذرنا أصحاب البيت من تشغيل أي مصباح خارجاً، فقد كانت حركة الطيران كثيفة. تمددت في الفراش كما فعل حوالي ثلاثين شخصاً بين نساء وأطفال في هذه الغرفة. لم يكن بإمكاننا النوم، كنا نلتقط في الظلام أصوات الطائرات التي تذهب وتعود، ونسمع أصوات انطلاق القذائف الصاروخية بين كل ثانية وأخرى.

كانت وتيرة انطلاق القذائف متقاربة جداً، بحيث فقدت الإحساس بالزمن وأنا متكورة على نفسي في حالة من الخدر بسبب تداخل أصوات الطائرات والقذائف واهتزاز الأبواب والشبابيك، وإلحاح السؤال إلى أين سنذهب لو امتدت المعارك فجأة إلى هنا، وهل هذا المكان آمن؟

حدث ذلك في اليوم الرابع منذ خروجنا إلى المخيم. كانت مناطق سيطرة داعش عامة، وفي الرقة خاصة، مستثناة من أي مفاوضات كانت تجريها المعارضة مع النظام وداعميه، وكأن هذه المناطق قد عزلت سلفاً عن سوريا. كانوا يتجاهلون هذه المناطق وكأنها خالية من المدنيين. وجود داعش فيها جعلها مستباحة للجميع، ولا تحتاج لأي مبرر من أي دولة للتدخل بالقتل العشوائي، وبأي نوع من الأسلحة، فحجة مكافحة الإرهاب والقضاء على داعش هي رخصة غير مشروطة للقتل لجميع الدول والتنظيمات.

لا أعرف متى هدأت الأصوات، فنمت، أو لم أنم. لم أستطع أن أحدد نومي من عدمه. أعرف أن شخصاً دخل من باب الغرفة وقال: حل الصباح، انهضوا لنذهب، القرية “تحررت”.

حوالي السابعة صباحاً، عدنا كما جئنا على عجل إلى مخيمنا ونحن نترقب أن نعود إلى القرية بعد يومين أو ثلاثة على أبعد تقدير، بعد أن يتم تفكيك الألغام كما كان يعتقد الجميع.

علم “الكراد”

تأكد دخول الأكراد إلى القرية برفع “العلم الأصفر” المعروف رسمياً بعلم “قوات سوريا الديمقراطية”، وعلى الواقع “علم الكراد”. كنا نشاهده من بعيد ونحن في المخيم وسط جهتين متحاربتين، حيث يقع مخيمنا في أرض منخفضة بالنسبة للقرى التي لاتزال تحت سيطرة التنظيم، لتشكل نصف دائرة تقريباً تحيط بالمخيم على مسافة حوالي ستة كيلومترات من القرية. كنا نسمع أن التنظيم جهز مدفعاً أعلى إحدى التلال. لاحقاً، قصفت طائرة المدفع قبل أن يبدأ عمله.

مضى اليوم الأول بعد “التحرير” كله، حتى ما قبل الغروب دون أي تحركات. ومع بدء غروب الشمس، بدأت مدفعية الأكراد بقصف القرى الواقعة خلف المخيم. كنت في هذه الأثناء أتمشى، وابتعدت مسافة مئة متر عن آخر خيمة تقع بعد خيمتنا. كنت قد سمعت الضربات السابقة، ولم أرجع. كانت في الجهة الأخرى، وبعيدة نسبياً، لكن قذيفة سقطت أمامي على مسافة قريبة على الطريق الترابي الذي يذهب إلى القرى المجاورة، فعدت راكضة نحو المخيم، وسقطت قذيفة أخرى على الطريق نفسه بعد مضي خمس دقائق. أحد الرجال عاد ركضاً وهو يؤكد أن الأكراد سيتحركون باتجاه هذه القرى، بعد قصف تمهيدي، وأن علينا الابتعاد عن الطرق المؤدية إلى تلك القرى.

أين سنذهب هذه المرة؟ هنالك شخص من القرية بنى بيته في أرض الزراعية بعيداً عن القرية، قريباً من مخيمنا. ولذلك ركض بعض سكان مخيمنا نحو البيت للاحتماء من احتمال سقوط القذائف فوق الخيم، فالبيت يبقى أفضل حماية من خيمة.

الدخان الأسود

خلال عشر دقائق، كان الجميع قد غادروا المخيم عدا بعض الرجال الذين فضلوا البقاء. وصلنا جميعاً إلى بيت “أبوعلي”، وهو البيت الوحيد الموجود في هذه المنطقة، بالإضافة إلى بيت صغير يعود لابنه. كانت أمي تمشي ببطء شديد، فالطريق أرض زراعية مفلوحة ومزروعة تجعل المشي فيها صعباً جداً على سنواتها الثمانين. أمسكت بيدها، وباليد الأخرى حملت كيس الأدوية وبطانية. وكلما نزلت ببقعة منخفضة كنت أسحبها سحباً لتتابع، والقذائف ما تزال تتساقط في مكان بعيد قريب. كنت أحثها على الإسراع، بعد أن سبقنا الجميع، فتجيبني أنها لا تستطيع. بدت المسافة القصيرة أمامنا لا نهائية، وكانت تسري في جسدي قشعريرة كلما سقطت قذيفة جديدة، لأتمنى أن نصل ولا تسقط إحداها فوقنا. لم يكن بإمكاني الركض، فهذا سيزيد من توتري. عندها رأيت طفلاً في عمر السابعة يركض نحونا، قائلاً “خالة هاتي البطانية، خليني أساعدك”. أخذ البطانية ومشى أمامنا. بقي هذا الطفل في ذاكرتي، وكلما كنت أراه لاحقاً كنت أقبله.. وأدعوه “يا بطل”.

تجمعنا في غرف البيت، وأمضينا ليلتنا هذه أيضاً على أصوات طائرات الاستطلاع، والطائرات الحربية، وأصوات القذائف. وبين حين وآخر نسمع أصوات رصاص، بما يوحي أن هنالك اشتباكات قريبة تجري. كان زجاج النافذة يلمع كل حين إثر انفجار قذائف، أو كلما قصفت الطائرة هدفاً. وكلما رأينا لمعاناً في ظلمة الليل فوق القرية الواقعة أمامنا، كان يأتينا الصوت متأخراً لنتأكد من نوع القذيفة.

في هذه الحرب الدائرة، لا يوجد طرف نحن معه، أو هو معنا. نحن المدنيين علينا أن نخضع لقوانين المنتصر، نأخذ ما يقدم لنا، ويعمل بعضنا معهم لأننا تحت وصايتهم. ومهما اختلفت الأسماء والألوان والعقيدة، تظل طريقة الحكم واحدة.

بحلول الصباح، كانت أصوات الانفجارات تهدأ، ليعود سكان المخيم إلى خيامهم. بعض الخيام أصابتها شظايا الصواريخ . وكان بإمكاننا رؤية القناصة على أسطحة المنازل في القرى الواقعة أمام المخيم، ورؤية “علم الكراد” الأصفر. لقد تمت السيطرة على القرى الثلاث التي تشكل نصف دائرة أمام المخيم.

وعند العصر، قاموا بإحراق إطارات فتصاعد الدخان كإعلان عن الانتصار، وهو أمر يقومون به مع كل سيطرة لهم على أي مكان جديد.

بعد يومين من هذه المعارك، وعند حلول المساء، هبت عاصفة رملية شديدة ومفزعة. كان الهواء شديداً، لدرجة أننا أمسكنا بأعمدة الخيمة المغروزة في الأرض، وحاولنا تثبيتها بدفعها عكس اتجاه الرياح. الرياح كانت تهز الخيام بعنف، وكثافة الغبار ازدادت لدرجة الاختناق، والكل كان يستغيث بلطف الله. ومع ازدياد كثافة الغبار، بدأنا نسمع أصوات الرصاص. كنا أصلاً متوجسين من ذلك، فمن المعروف أن التنظيم يستغل هذه الظروف ليهاجم.

استمرت العاصفة قرابة الساعة، على وقع أصوات الاشتباكات، وخوفنا من الطرفين المتحاربين. تشنجت أيدينا من محاولات تثبيت الخيمة، لكن العاصفة مرت وصمدت خيامنا.

عند الصباح، عرفنا أن التنظيم هاجم القرى الواقعة أمامنا، فرد الأكراد بالقصف العشوائي لانعدام الرؤية، فقتلوا خمسة مدنيين من سكان المخيم المجاور لهذه القرى، وهم من سكان هذه القرى. كان أحد القتلى طفلاً رضيعاً بين يدي أمه، قُتل هو وبقيت أمه حية.

اقتصاد الضرورة

وسط غضبات الطبيعة، وهياج المسلحين، أصبح المخيم أشبه بسجن، فقبل عدة أيام كان يمكن الذهاب باتجاه هذه القرى، وإلى البلدات الأبعد منها، أو حتى الذهاب باتجاه الرقة. الآن، لم يعد بالإمكان شراء الخبز، فأصبح تأمينه مهمة النساء والأطفال. كانوا يذهبون لجمع ما يمكن من الحطب أولاً، بينما تتولى نساء أكبر سناً تحضير العجين من طحين قامت كل عائلة بشرائه تحسباً لمثل هذه الظروف. كان لدينا ما يكفي لأسبوعين على أبعد تقدير.

وفي جو خانق من الدخان والحر، كانت النساء تنجز هذه المهمة المتكررة بشكل يومي. مع ذلك، كانت مهمة تأمين الحطب الجزء الأصعب كونه يتطلب الابتعاد عن المخيم تحت تهديد القصف المفاجئ. أما نفاد كمية الطحين فكان هاجساً آخر لكنه مؤجل. مهمة الرجال كانت تأمين الكاز بالمغامرة بالذهاب على طرق ترابية بعيدة عن الحواجز إلى المخيمات في قرى أبعد.

بعض التجار كانوا يصطحبون بضاعتهم معهم في رحلة الهروب إلى المخيمات. وفي كل عودة مع بضائعهم، كان الغبار يغطيهم تماماً.

مااااااء

في صباح آخر في المخيم، سمعنا صوت جريان ماء. وكنت قد سمعت الصوت ذاته أثناء نومي في ما يشبه الحلم. لكن عندما استيقظنا صباحاً عرفنا أنه ليس حلماً؛ لقد تدفق الماء في القناة المجاورة للخيمة. ماء بعد عشرة أيام من شرب مياه المستنقعات.

لقد أفرج الأكراد عن الماء، ماء وفير. صحيح أنه ليس صافياً بالكامل، ويمكن أن يعيدوا اعتقاله في أي لحظة، لكن الفرح به كان كيوم عيد.

مر شاب بجانب خيمتنا، ولما رأى عمته بجانب القناة أشار إلى الخيمة وردد أغنية متهكماً “يا مسعدة وبيتك على الشط”، فردت عليه ضاحكة بأغنية ثانية “لهجر كصرك واسكن بيت الشعر”. وكنا نقول لو أن هذه المغنية سكنت في مثل هذا المخيم لما هجرت كوخه، وليس قصره.

سبح الصغار والكبار، وكانت فرصة للجميع لأخذ حمام بالتناوب داخل الخيمة.

الكفيل

المخيم كان أشبه بقرية معزولة عن العالم الخارجي طوال أيام، حيث لم نر أحداً من الأكراد. لم يكن مخيمنا، وكل المخيمات التي على شاكلته، في حسابات أي منظمة، أو جهة إغاثية، فالناس هنا تعيش على عاتقها. بعض الرجال حصل على إذن خطي بعد تقديمه كفيلاً للأكراد ليعبر إلى “غرب القناة” المسيطر من قبل الأكراد منذ أشهر. كانوا يذهبون لجلب الطحين، أو مواد للأكل، ضمن زمن يحدده الحاجز الذي يعطي الإذن، وعلى الشخص أن يذهب ويعود قبل أن يتم تغيير الأشخاص الموجودين على الحاجز. وبهذه الطريقة، كنا نؤمن بعض المواد، بعد أن نفدت مؤونتنا. وبهذه الطريقة، تخلصنا من استغلال أصحاب المحلات الذين نقلوا بضاعتهم معهم، وباعوها بثلاثة أضعاف سعرها، أو أربعة أضعاف حتى. كان أي شخص يخرج من المخيم مجبراً على العودة إلى المخيم، وإلا سيرحل إلى مخيمات “عين عيسى”. وسكان المخيم يريدون البقاء بجانب قريتهم أملاً في العودة سريعاً، وخوفاً على ممتلكاتهم التي بقيت هناك.

قربهم من ممتلكاتهم لم يحمها من النهب، فقد جاء شخص كان قد ذهب إلى أقرب نقطة يمكنه الذهاب إليها وعاد يسب الأكراد “هذول جايين يحررونا ولا ينهبونا”. كان يتحدث عن سيارات خرجت من القرية محملة بمحتويات البيوت والدكاكين. لدى سماع هذا الخبر، بكت بعض النساء على “شقا العمر”، كما كنَّ يرددن. بعض الرجال حاول الذهاب في اتجاه القرية، ظناً منهم أنها “ديموقراطية”، ويمكنهم التظاهر والاحتجاج ضد تصرفات قوات سوريا الديموقرطية، ولكنهم عادوا خائبين وخائفين.

“قوِّص مدني يصطفل”

يبدو أن هذا التصرف أو محاولة الاحتجاج من قبل الأهالي استدعت رد فعل من الأكراد للإعلان أنهم القوة المسيطرة الجديدة، وكان يجب كبت محاولة هز الهيبة الأمنية. فعندما استيقظنا في صباح اليوم التالي، وكنا نعد الشاي، تراكض بعض الرجال صارخين “الكراد.. الكراد”. خرجنا جميعاً من الخيام لننظر إلى الكائن الجديد الذي ظهر أخيراً أمامنا وجهاً لوجه. سيارة البيك أب كانت تتقدم مسرعة من أول الطريق باتجاه المخيم. قطعت المسافة بسرعة شقت فيها الهواء وأثارت عاصفة من الغبار لدى توقفها السريع والدرامي بحركة نصف دورانية هوليوودية. نزل منها خمسة مسلحين بسرعة وأيديهم على السلاح في حالة تأهب، تاركين أبواب السيارة الأربعة مفتوحة. تحدث قائدهم بلسان عربي ولكنة كردية، موجهاً كلامه لسكان المخيم “الكل برا الخيم.. الكل صف هون”، مشيراً إلى جهة بعيدة عن الخيم. سألت من كان بجواري أن ينقل السؤال إليه: الأمر يشمل الرجال والنساء، أم الرجال فقط؟ فأجاب باللهجة الغاضبة نفسها “الكل هون يصف رجال ونسوان”. بقيت أمي جالسة بجوار الخيمة على كرسيها، وكأن الكلام لا يعنيها، وتقدمت بعض النساء خطوتين أو ثلاثة من خيمتنا والخيمة المجاورة الواقعتين في أول المخيم. أما باقي النساء في الخيم التالية فركضن منذ قدوم المسلحين واختبأن في الجزء الأخير من المخيم. شكل الرجال صفاً، فاقتربت من الصف لأسمع أو أميز ما يقول هذا الغاضب منا. قال: “قوص”. كان يوجه الحديث إلى المسلحين: “خليك مستعد وإزا حدا قوص إنت قوص. قوص مدني يصطفل”.

في هذه اللحظة، أيضاً، عاودني الشعور نفسه الذي عانيته عندما كان النظام يلقي براميل متفجرة بمظلات. دخلت في دوامة عدم الشعور بأي شيء، فالصاروخ حاسم وخاطف لا يترك لك فرصة الدخول في متاهات المشاعر، يأخذك من أول الخوف المميت إلى آخر الخوف المميت في لحظة، ويرميك بين ضفتين متشابهتين لا تملك الوقت لتعرف الفرق بينهما. أما هذا الشعور، أو “اللاشعور”، فيفرغك من محاولات التفكير والفرار، لتتسمر في مكانك منتظراً لحظة انفجار العدم، هذا الشعور “المتدلي المتأرجح” كالبرميل، والصادم بهدوئه، يأخذك إلى نقطة معينة من حياتك يربطك بها، نقطة مركزة ووحيدة تستغرق فيها وكأنها زمن مديد: “قوص مدنية يصطفل”. ولدى سماعي هذه العبارة تذكرت فوراً مشاهد الإعدام الجماعية في الأفلام على يد المستعمرين.

تابع الزعيم حديثه المعجَّم “ادخل فتش خيم”. تابع حديثه “وصلتنا أخبار إنو في سلاح مخبا”. دخل مسلحون وفتشوا على عجل، وداسوا أطراف الخيم للتأكد من ذلك. وخلال خمس دقائق، أنهوا عملية التفتيش، وعادوا إلى قائدهم “ما في شي”. ركب المسلحون السيارة، بينما وجه قائدهم الحديث للنساء الموجودات مع حركة بيده ورأسه “لا تواخزونا اخواتي.. نعتزر.. الزاهر مخربطين بالمخيم”.

وبعد أقل من عشر دقائق من ذهابهم، عادوا من أمام المخيم وفي صندوق السيارة ثلاثة شبان معصوبي الأعين، شعرهم ولحاهم الطويلة واضحة من بعيد.

قال أحدهم وهو يمر “هدول داعش كانوا متخبين بالمخيم”، فاحترنا في أمرهم، هل كانوا يبحثون عن سلاح، أم عن عناصر داعش، أم هي مجرد مسرحية بقصد إرهابنا.

إثر هذه الحادثة، وقبل أن يعود “الكراد” بهؤلاء المعتقلين من داعش، حسب روايتهم، حسم رجال المخيم أمرهم وقرروا حلق لحاهم وشعر رؤوسهم. قبل ذلك كانوا محتارين، هل يبقونها تحسباً لعودة داعش، أم يحلقونها خوفاً من الأكراد؟

وعندما مرت سيارة الأكراد من أمام المخيم وهي تحمل عناصر داعش، رأى عناصرها كيف بدأ الرجال بحلق لحاهم، فأشار أحدهم ماداً يده من باب السيارة “ليك.. ليك.. عم يحلقوا”. قالها وهو يضحك، أو كما لو أنه يقول: انتصرنا”.

 

ملكة العائد

كاتبة وصحافية من الرقة لها عدد من المواد المنشورة بالاسم المستعار “فرات الصافي”.

http://alaalam.org/ar/society-and-culture-ar/item/571-627210817

 

 

 

 

يوميات الرقة… حصار وتشرّد واحتجاز وموت/ أحمد حاج حمدو

أكثر من ثمانين يوماً على معركة الرقّة وحال المدنيّين هناك تزداد سوءاً، وسط قصف التحالف الدولي والحصار والنقص في الأغذية والعلاج والرعاية الصحية. تُضاف إلى ذلك معوّقات النزوح والتشرّد ومخيّمات النازحين ذات الصيت السيئ التي تؤمّنها قوات سورية الديمقراطية (قسد).

في السادس من يونيو/ حزيران الماضي، بدأت معركة الرقّة بقيادة قوات سورية الديمقراطية التي تمثّل وحدات حماية الشعب الكردية عمودها الفقري، وبدعم جويّ مباشر من طائرات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. الكلفة تأتي كبيرة جداً بالنسبة إلى المدنيين، سواء بالأرواح التي سقطت أو بالمعاناة التي يعيشها الأحياء من بينهم.

في انتظار الموت

تتضارب المعلومات حول العدد الدقيق للمدنيين المحاصرين داخل المدينة وكذلك حول أوضاع هؤلاء ومعاناتهم هناك من جرّاء المعارك أو الممارسات التي يرتكبها تنظيم “داعش” بحقّهم. وفي اتصال مع “العربي الجديد”، يقول مجاهد أبو حسين (اسم مستعار)، وهو ناشط يعمل في مجال الإغاثة، إنّ “ما لا يقلّ عن 25 ألف شخص ما زالوا داخل المدينة وهم يعانون من ظروفٍ قاسية”. يضيف أنّه حصل على “معلومات مؤكّدة تفيد بوجود عدد كبير من الجرحى والمصابين بأمراض مزمنة في حاجة ماسّة إلى العلاج، من دون أنّ يتلقوا أيّ رعاية صحية داخل المدينة. فكلّ مشافي المدينة الرسمية والخاصة متوقّفة تماماً عن العمل، والطبابة محصورة في المشافي الميدانية التي أستحدثها التنظيم في أقبية المنازل بغرض علاج مصابيه الذين يقاتلون على الجبهات”. ويلفت إلى أنّ “المدنيين مُنعوا من الحصول على العناية الطبية في تلك المراكز، وكثيرون منهم لم يحصلوا على أي من الأدوية الضرورية لبقائهم على قيد الحياة”. ويصف أبو حسين حال المدنيين داخل الرقّة قائلاً إنّهم “محاصرون في انتظار الموت، إلّا في حال فتح خط إنساني لإخراجهم”، إذ إنّ “مصير الجرحى والحالات الطارئة هو الموت في حال البقاء وعدم الخروج العاجل”.

لا تتوقّف المشكلة عند الرعاية الصحية فحسب، ويشير أبو حسين إلى “نقص حاد في المياه راح يعاني منه المدنيون بعد أيام من انطلاق المعركة. وهو الأمر الذي أسفر عن انتشار الأمراض بصورة أكبر، في حين يتعمّد التنظيم احتكار السلع الغذائية والضرورية لتوفيرها لمقاتليه وعائلاتهم”.

دروع بشرية

يقول أبو حسين إنّ “المشكلة الرئيسية داخل الرقّة تتمثّل في أنّ التنظيم يستخدم المدنيين دروعاً بشرية، ويمنعهم من الخروج إلى مناطق آمنة. ومن المتوقّع أن يستخدمهم كورقة رابحة في معركته، لأنّه يحاول استثمار الأزمة الإنسانية وحاجة المدنيين إلى الأغذية والأدوية والمياه ووقف القصف، حتى يتمكّن من تحقيق نصر ما في المعركة”. ويلفت إلى أنّ “التحالف الدولي وقوات سورية الديمقراطية قاما بما يريده التنظيم تماماً وهو مفاقمة معاناة المدنيين لتحقيق الغاية التي يريدها”، شارحاً أنّ التنظيم “تعمّد عدم علاج المدنيين وقطع عنهم ما يتوفّر من مياه وأغذية ليُفاقم تلك الأزمة”.

على الرغم من هذه المعاناة ومن الدعوات التي وجّهتها الأمم المتحدة لهدنة إنسانية تسمح بخروج نحو 20 ألف محاصر من الرقّة، فإنّ التنظيم وقوات سورية الديمقراطية لم يستجيبا حتّى الساعة لتلك الدعوات. وكانت منظمة العفو الدولية قد نشرت تقريراً حذّرت فيه من خطورة الأوضاع التي يواجهها المدنيون العالقون في الرقّة، إذ رأت أنّهم يعيشون حالة من التيه وسط نيران المعركة بين التنظيم وقوات سورية الديمقراطية وجيش النظام والتحالف الدولي. أضافت المنظمة أنّ “تعمّد تنظيم الدولة استخدام المدنيين دروعاً بشرية لا يبرّر انتهاك الأطراف الأخرى للقوانين الدولية”، مطالبة “قوات سورية الديمقراطية والولايات المتحدة بحماية المدنيين وفتح طرقات آمنة وتجنّب الهجمات غير المتناسبة والقصف العشوائي”.

الخروج من الجحيم

“من يريد الخروج، عليه أن يعيش أجواء المعركة أوّلاً”، بحسب ما يقول عبد الله، وهو شاب ثلاثيني نجح في الفرار. يضيف لـ”العربي الجديد”، أنّ “ثمّة طرق عدّة للخروج وكلّها من دون إرادة التنظيم، إذ هو يمنع المدنيين من ذلك. وأولى تلك الطرق وأفضلها هو أن ينسحب التنظيم من الشارع أو الزقاق من دون قتال، وهنا في إمكانك الخروج مباشرة وتسليم نفسك بعدما توحي وتدلّ على أنّك مدني ولا علاقة لك بالتنظيم. وفي حين نجح البعض في ذلك، وقع مدنيون كثر ضحية عدم تصديق قوات سورية الديمقراطية بأنّهم مدنيون”. أمّا الطريقة الثانية، بحسب عبد الله، فهي “استغلال أيّ ثغرة تتوقّف خلالها الاشتباكات للتمكّن من الخروج من المنطقة التي يُسيطر عليها التنظيم. لكنّ من الممكن أن تتجدّد الاشتباكات في أيّ لحظة ويتحوّل الهارب إلى ضحية، أو من الممكن أن تشعر الجهة التي قصدها لتسليم نفسه بأنّه عنصر مفخّخ في تنظيم داعش فتقتله بالتالي من دون تردّد”.

وعن طريقة خروجه من الرقّة، يخبر عبد الله أنّه بقي مع شقيقته في المنزل ولم يخرج منه حتّى بعد هدوء المعارك في الشارع حيث يعيش. لكنّ قوة من “قسد” داهمت المنزل، فأخبر عناصرها بأنّه مدني فعمدوا إلى إخراجه بعد تفتيش بيتهم بمنتهى الدقّة. ويوضح عبد الله أنّه “بعد الخروج من المدينة، قد يضطر الهارب إلى المشي لساعات طويلة حتّى يتمكّن من الوصول إلى منطقة تضمّ مخيمات لقوات قسد منتشرة بكثافة في محيط مدينة الرقّة من معظم جهاتها. ثمّ يخبرهم بأنّه مدني، فيُفتَّش مجدّداً بطريقة دقيقة قبل نقله إلى مخيمات للنازحين”. ويشير إلى أنّ “مدنيين كثيرين قُتلوا خلال محاولتهم الهروب من الرقّة، لأنّ التنظيم يمنع خروج المدنيين بطريقة طوعية”، داعياً إلى “فتح شارع واحد على أقل تقدير بتوافق الأطراف لإخراج من بقي عالقاً”.

مخيّمات الموت

في السياق، يقول أبو حسين إنّ “الخروج من الرقّة سالماً لا يعني حتماً أنّك سوف تكون في مكان آمن”، مشيراً إلى أنّه شهد على “ممارسات قامت خلالها قسد باحتجاز عائلات في مخيمات مؤقّتة لأيام قبل إعادة فرزهم وتوزيعهم على مخيّماتها الرئيسية، وبذلك يتفرّق أفراد العائلات في المخيّمات”. يضيف أنّه “خلال النزوح بعد اشتداد المعارك داخل المدينة، فإنّ النازحين يصلون على دفعات”.

تجدر الإشارة إلى أنّ قوات سورية الديمقراطية أنشأت ثمانية مخيّمات للنازحين في المنطقة الشمالية الشرقية، ومن بينها مخيّم “الكرامة” في الرقّة، الذي يأوي 30 ألف نازح من ريفَي الرقّة ودير الزور، ومخيّم “عين عيسى” مع نحو ثمانية آلاف نازح، ومخيّم “السد” مع نحو ستّة آلاف نازح، ومخيّم “المبروكة” مع ثلاثة آلاف نازح، ومخيّم “رجم الصليبي” مع نحو 10 آلاف نازح، ومخيّم “الهول” مع نحو 10 آلاف نازح. لكنّ العيش في تلك المخيّمات لم يكن أفضل أو أهون من العيش تحت سيطرة التنظيم وغارات طائرات التحالف، إذ إنّ المدنيين الذين وصلوا إلى هذه المخيّمات عُوملوا بطريقة سيئة وقد افتقروا إلى أبسط متطلّبات الحياة.

أبو يحيى، ربّ أسرة سوري، كان محظوظاً، إذ اتخذ قراره بالخروج من الرقّة قبل بدء معركة “قسد”، ولم يغامر بالبقاء هناك مع عائلته المؤلفة من خمسة أفراد. اليوم يعيش إلى جانب أكثر من ثلاثة آلاف نازح في مخيّم “المبروكة” في الحسكة، معظمهم من الرقّة، في حين أنّ جزءاً آخر منهم هرب من محافظة دير الزور. يقول أبو يحيى لـ”العربي الجديد”، إنّ “منظمات تابعة للأمم المتحدة تقدّم مساعدات للمدنيين وتسلّمها إلى إدارة المخيّمات التي تُشرف عليها قسد التي توزّعها على هؤلاء”. لكنّه يلفت إلى أنّ “المواد الغذائية غير كافية ولا تتوفّر أيّ أدوات أو مستحضرات للتنظيف، الأمر الذي أدّى إلى انتشار الأمراض بسبب تلاصق الخيم بعضها ببعض من دون مراعاة للمعايير الصحية”. يضيف أنّ “المخيّم لا يحتوي على مياه صالحة للشرب ولا على دورات مياه أو أماكن استحمام صالحة للاستخدام. نحن نعيش في صحراء وفوق رؤوسنا أقمشة يسمّونها خيماً”.

ويتحدّث أبو يحيى كذلك عن “معاملة سيئة يلقاها المدنيون في تلك المخيّمات، إذ إنّ أيّ اعتراض أو مطالبة بأبسط الحقوق التي يحتاجها الإنسان، سوف يجعلانك أمام شخص يحمل سلاحاً فردياً أسود اللون ينعتك بأنّك داعشيّ. لذلك يفضّل الناس السكوت في هذه الحالة”. يضيف أنّ “عناصر أمنية مدججة بالسلاح تنتشر في محيط المخيّم وتهدّد المدنيين في حال أيّ تحرّك، كأنّنا في سجن وليس في مخيّم إيواء”.

يُذكر أنّ ناشطين سوريين داخل سورية كانوا قد أطلقوا حملة تحت عنوان “مخيّمات الموت”، حاولوا من خلالها تسليط الضوء على وضع المدنيين في المخيّمات، لكنّ الحملة لم تلقَ أيّ استجابة محلية ولا دولية.

العربي الجديد

 

 

 

 

سكان الرقة دروع بشرية وأهداف للطائرات في أرض يباب/ علي العائد

يحدث الآن في الرقة وفي تلعفر في العراق أن نسبة صغيرة من سكان المدينتين لا يزالون يحتمون في بيوتهم التي ستتحول إلى أنقاض قريبا ليموت عدد كبير منهم بالقياس إلى نسبة عددهم إلى عدد الدواعش حيث تتفق التقديرات الاعتباطية على أن ما تبقى من السكان في الرقة وتلعفر هو ما بين 20 و25 ألفا، وأن عدد مقاتلي داعش ما بين 1500 و2000، وأن التكتيك المتبع للسيطرة على المدينتين هو التمهيد للقوات المهاجمة بقصف الطيران والمدفعية، مع الإشارة إلى أن المدنيين سيحاولون الاحتماء بالبيوت والملاجئ، على خلاف “المدافعين” الذين سيتحركون وفق مجريات القصف، على اعتبار أن الحصار مطبق حول المدينتين، والمتوقع وفق أقل التقديرات أن فناء “المدافعين” سيرافقه قتل عشرة أضعاف من المدنيين، أي قتل 15 ألف مدني على الأقل وربما أكثر، بالنظر إلى غياب العناية الطبية بشكل شبه تام (في الرقة على الأقل)، وأن أيّ إصابة بسيطة قد تكون قاتلة، وأيّ إصابة في الأطراف يكون علاجها البتر في محاولة للحفاظ على حياة المصاب.

كان “المنطقي والإنساني” أن يتم إخراج المدنيين جميعا من مدينة الرقة وقبلها من الموصل ومنبج وعين العرب-كوباني وتل أبيض وتلعفر الآن وقبل “تحريرها” حتى نبرّئ داعش من استخدام المدنيين كدروع بشرية ونبرّئ قوات سوريا الديمقراطية وطيران التحالف من التسبب في قتل المدنيين بالجملة.

عند هذا الافتراض سيقصف المهاجمون بالمدفعية والطائرات المدن الحجرية ليقتلوا ألف داعشي أو ألفين أو ستة آلاف في أعلى الأرقام المقدرة عن عدد الدواعش الذين سيطروا على المدن المذكورة. وفي النتيجة ستحقق نظرية الأرض المحروقة هدفها كي يعود المدنيون إلى الأرض اليباب ويسكنوها كأفضل ما يمكن مقارنة مع الواقع الذي عايشته المدن التي طرد منها المهاجمون داعش على مبدأ “بالمال ولا بالعيال”.

هكذا، وكأن المال، أي البيوت، والشوارع والبنية التحتية أشياء مستقلة عن حياة البشر وأن الأحياء عندما يعودون إلى أنقاض مدينتهم وبيوتهم ستعود المدينة حية لأنهم أحياء.

الأمم المتحدة لا تتوقع أسوأ من الرقة الآن مكانا للعيش، مطالبة بهدنة لم تقل شيئا عن طرفيها وعن مبرر طلب الهدنة إن كان إخراج المدنيين لتستمر المعركة بين مقاتلين فقط أو تزويد المدنيين بالطعام والدواء كي يستمروا بالموت بـ”شروط أفضل” إذا فضل بعضهم الموت في بيته ودفنه في حديقة عامة على أن يعاني مرارة النزوح والتعرض للموت برصاص قناصة الطرفين، وخاصة داعش، ممن لا يلتزمون بهدنة أو غيرها.

أما الواقع فيقول إن المدنيين متهمون من الطرفين فهم من طرف دواعش ومن طرف آخر مرتدّون ومتعاطفون مع “الكفار المهاجمين”، ومع التحالف الدولي المعادي لـ”الدولة الإسلامية” إذا قرروا التخلي عن بيوتهم ومدينتهم بالمقارنة مع داعش التي صمدت للدفاع عنهم (كذا).

لعبة الدروع البشرية مجرد محاولة تبييض ضمائر في الوقت الضائع ما بين موت المدنيين ووقت وصول الأخبار إلى مسؤولي الأمم المتحدة

ولأن ذلك لم يحدث، أي عدم إخلاء الرقة من المدنيين قبل تدميرها، ولن يحدث، فالتهمة تلبس الطرفين بقدر متساو، حتى دون أن نساوي بين داعش، كـ”شرٍّ مطلق” و قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كـ”شرٍّ نسبي”.

وأمام 250 غارة جوية للتحالف على الرقة ومحيطها شمال وشرق نهر الفرات، خلال الأسبوع الماضي (بمعدل ثلاث غارات كل ساعتين)، عدا الغارات الروسية جنوب النهر على المخيمات العشوائية التي أقامها النازحون انتظارا للعودة إلى مدينتهم، واجه المدنيون نيران القناصة من الطرفين، “قسد” وداعش، وألغام داعش التي زرعها مبكراً لاصطياد مقاتلي “قسد” و”المرتدين الهاربين” ولاحق القدر بعض الهاربين ليموتوا في طريق هروبهم.

ليس الموت وحده ما يعانيه النازحون، ففي تفاصيل يوميات الهروب معاناة قد تكون حتى أكبر من موت عزيز أو قريب. ومن تلك المعاناة نجد معاناة الأطفال وكبار السن حتى لو لم يكونوا مرضى حيث نتابع في كتابات شحيحة تفاصيل ترصد الحياة اليومية للنزوح تبتعد قليلاً عن أصوات القصف وأرقام الموت لتعلن أن الناس يحاولون البقاء على قيد الحياة ليس أكثر بالانتقال من أرض يسيطر عليها داعش إلى أرض تسيطر عليها “قسد”. هذه الأرض هي نفسها بفارق أيام أو ساعات لكن باختلاف القوة المسيطرة بمن عليها من السكان المقيمين أو النازحين.

يبدو كلام المستشار الخاص للمبعوث الأممي لسوريا يان إيغلاند خارج المنطق والسياسة و”إنسانية” الأمم المتحدة، فحديثه عن 25 ألف مدني عالقين في الرقة كدروع بشرية بيد داعش وأن أيّ هدنة لن تشمل الحديث مع التنظيم حديث لا حظّ له من النجاح في إنقاذ ما يمكن من المدنيين، فكيف سيتخلّى داعش عن دروعه البشرية يا سيد إيغلاند ليبقى مكشوفاً لقذائف المدفعية والهاون وصواريخ الطائرات وقذائفها الفوسفورية، هذا إذا كانت الأمم المتحدة تضمن أيّ هدنة من طرف طيران التحالف ولو لساعة واحدة!

الصّور وأفلام الهواتف المحمولة التي بدأت تصل من الرقة تقدم أدلة غير قابلة للإنكار عن استخدام الفوسفور الأبيض، فالنيران تظلّ مشتعلة منذ منتصف الليل حتى ظهيرة اليوم التالي. أما الدمار الشامل فلا يحتاج إلى أدلة ما يعني أن لعبة الدروع البشرية مجرّد محاولة تبييض ضمائر في الوقت الضائع ما بين موت المدنيين ووقت وصول الأخبار إلى مسؤولي الأمم المتحدة.

تقول صديقة هربت مع أهلها من الرقة إلى إحدى القرى شمال غربي الرقة، ومن ثمّ هربوا من القرية إلى مخيّم عشوائي بناه أهل القرية على عجل: عاد رجل كان قد ذهب إلى القرية ليحضر بعض ما يحتاجه في المخيم من بيته حاملا رسالة من عناصر داعش. قال الرجل إن عناصر كانوا ينتقلون من بيت إلى آخر كل بضع ساعات وإن العناصر حمّلوه رسالة إلى سكان المخيم بأن يعودوا إلى بيوتهم وإلا أحرقوها “أرواحكم ليست أغلى من أرواحنا.. نحن ندافع عنكم ضد الخنازير.. وبدلا من أن تأتوا للجهاد تتركوننا هدفا للطيران”.

في هذه الأيام، وفي كل الحالات المماثلة، وقع المدنيون بين خيارين فإما أن يكونوا دروعا بشرية لداعش القريب منهم أو يكونوا دريئة تصوّب عليها الطائرات والمدفعية قذائفها بتمييز شديد فالرقة مدينة صغيرة وكلما تناقصت المساحة التي يتحصن فيها داعش كانت إصابات المهاجمين أشد دقة. هذا ما يحدث الآن تماما.

كاتب وصحافي سوري

العرب

 

 

 

مجلس مدني لإدارة الرقة يتهيأ لما بعد طرد تنظيم {داعش}

أبرز التحديات… إزالة الألغام ورفع الأنقاض وإعادة عملية التربية والتعليم

عين عيسى (الرقة – سوريا): كمال شيخو

عند التجول بين المناطق المحررة من تنظيم داعش في الرقة، تبدو مظاهر الدمار التي حلت بها واضحة جراء المعارك العنيفة، إذ يمكن رؤية بعض المنازل التي غادرها أصحابها لتصبح أثراً بعد عين ولم يتبقَ منها سوى الأطلال؛ أما التي نجت من القصف، فلم تسلم من تكسير زجاج أبوابها ونوافذها جراء ضغط الانفجارات في المناطق المحيطة بها.

ولا تزال الكثير من كتابات التنظيم منتشرة على جدران المنازل والمرافق العامة، تذكر أبناءها بحقبة سوداء. ويسود شعور بين الأهالي أن إعادة الاستقرار والأمن إلى المناطق التي تخرج عن سيطرة «داعش» ونشر الطمأنينة والسلام بين الأهالي؛ تتوقف إلى حد بعيد على انضباط قوات الأمن الداخلي، ومدى قدرتها على الدفاع عن هذه المناطق، إلى جانب وجود إدارة مدنية تحظى بقبول أبنائها.

وفي المبنى المؤلف من طابقٍ واحد وسط بلدة عين عيسى الواقعة غربي مدينة الرقة (شمال سوريا)، يعمل أعضاء مجلس الرقة المدني الذي تشكل منتصف شهر أبريل (نيسان) العام الحالي، في اجتماع ضم مائة شخصية اجتماعية وعشائرية من أبناء المدينة، وانتخب مجلساً مدنياً لإدارة المحافظة بعد طرد عناصر تنظيم داعش منها، وانتخبوا الشيخ محمود شواخ البرسان والمهندسة ليلى مصطفى للرئاسة المشتركة، إلى جانب 3 نواب و10 شخصيات في عضويته الرئاسية، ثمانية منهم عرب واثنان من الأكراد.

ثلاث مهمات رئيسية

يتألف المجلس من 14 لجنة تخصصية، ومن بين أبرز التحديات التي تواجه عمله، إزالة الألغام وتفكيك المفخخات التي زرعها عناصر التنظيم، وكذلك رفع الأنقاض جراء الحرب المحتدمة في شوارع المدينة، أما المهمة الثالثة فهي إعادة عملية التربية والتعليم. وتقع مدينة الرقة على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وتبلغ مساحتها نحو 27 ألف كيلو متر مربع، وكان يسكنها قبل اندلاع الحرب قرابة 300 ألف نسمة، فرَ غالبيتهم ونزحوا إلى مخيم عين عيسى والمناطق المجاورة، وتحتاج المدينة إلى خدمات وجهاز شرطة وغيرها من الأمور الأساسية، ليتمكن هؤلاء من العودة إلى ديارهم.

غير أن منسق العلاقات الخارجية في المجلس المدني للرقة عمر علوش، اعتبر أن البنية التحتية في الرقة قد انهارت بشكل شبه كلي نتيجة الحرب، الأمر الذي قد يؤخر عودة النازحين إلى ديارهم. وقال: «عودة الناس إلى ديارهم ليس بالأمر السهل، فالحرب لم تنته بعد، ونحن نتطلع قريباً لبدء الأعمال والأشغال ضمن مدينة الرقة بعد طرد (داعش)، وهناك لجان فنية تدرس عملية إعادة إعمار المدينة بعد التحرير».

وسيطر تنظيم داعش على مدينة الرقة بداية عام 2014، وعمد خلال فترة حكمه إلى تحويل المدارس والأبنية العامة لمقرّات أو سجون له، كما منع تدريس التلاميذ وفق المنهاج الرسمي المعتمد في سوريا، وفرض على الطلاب والشباب الخضوع إلى دورات تعليم دينيّة. وستواجه الإدارات المقبلة إشكالية التعامل مع الأطفال دون سن 18، لا سيما الذين خضعوا إلى تلك الدورات الشرعيّة. يقول رئيس لجنة القضاء بالمجلس المدني المحامي إبراهيم الفرج، إنهم يتابعون الآن حالة أكثر من 700 شاب. ويتابع: «كان بينهم متطوعون في جهاز الحسبة، وسائقون أو موظفو حراسة عملوا في مقرات التنظيم، ونظراً لأنهم غير مقاتلين ولم تتلطخ أياديهم بالدماء أفرجنا عن 300 شخص حتى اليوم، وبعد استكمال التحقيقات حولهم». وأضاف أن المجلس خصص برامج وأنشطة خاصة لإعادة دمج هؤلاء في المجتمع لممارسة حياتهم الطبيعية.

وبين أبرز العقبات التي واجهت عمل مجلس الرقة المدني أيضاً، في مجال التعليم، اعتماد منهاج دراسي، وتأمين الكتب المدرسية. وشرح رئيس لجنة التربية والتعليم في المجلس غازي مضحي الحمد، كيف أنه تقدم باقتراح لرئاسة وأعضاء المجلس، يتضمن اعتماد المنهاج الحكومي الحالي، والبحث عن حلول لاستجلاب الكتاب المدرسي من مديرية تربية النظام. وكشف غازي المضحي «الشرق الأوسط» أن المجلس وافق على إبقاء المنهاج الحكومي، وبادر بالاتصال مع مسؤولين من مديرية التربية في الرقة، ليكونوا وسطاء بين المجلس المدني ووزارة التربية في حكومة النظام.

منهاج رسمي وعودة المدرسين

وقال المضحي: «قلنا للوسطاء إننا سنلغي كل الدروس والصفحات التي تدعو إلى التطرف الديني، وتمجيد الأشخاص، وتقديس الحزب الحاكم. أوضحنا لهم أن هدفنا منح الطالب كتاباً مدرسياً وقراءة منهاج سوري».

بدوره، أكد مصدر مسؤول من مديرية التربية في مدينة الرقة، طلب عدم الكشف عن هويته ولا يزال على رأس عمله، أنّ رد وزارة التربية في دمشق كان إيجابياً، ورحبوا بفكرة عودة الطاقم التدريسي لأبناء الرقة إلى مدارس المدينة، وتدريس الكتاب المدرسي الرسمي في الرقة وريفها.

وقال المصدر: «بحسب خطة الوزارة، سيعاد كل المدرسين والمعلمين المسجلين في قوائم وزارة التربية إلى مدارس ومعاهد الرقة وبلداتها كما كانت قبل عام 2011، باستثناء بلدتي تل أبيض وسلوك»، ونقل المصدر عن وزارة تربية النظام، أن رواتب المعلمين ونفقات المدارس والمجمعات التربوية، ستوزع بدءاً من العام الدراسي الجديد (2017 / 2018). وأخبر المضحي أنّ المدرسين والعاملين في المعاهد الدينية والدعوية التابعة لتنظيم داعش، سيخضعون إلى اختبارات وتقييم، وقال: «من كان غير متأثر بدعاية التنظيم، ولا يحمل فكره وعقيدته التكفيرية، سيعاد إلى التدريس».

إعادة هيكلة ما بعد التحرير

ولا تزال الكثير من كتابات التنظيم منتشرة على جدران المنازل والمرافق العامة، تذكر أبناءها بحقبة سوداء في تاريخ مدينتهم، فإعادة الاستقرار والأمن إلى المناطق التي تخرج عن سيطرة «داعش»، ونشر الطمأنينة والسلام بين الأهالي؛ يتوقف ذلك إلى حد بعيد على انضباط قوات الأمن الداخلي، ومدى قدرتها على الدفاع عن هذه المناطق، إلى جانب وجود إدارة مدنية تحظى بقبول أبنائها.

وذكرت ليلى مصطفى رئيسة المجلس لـ«الشرق الأوسط»، أنّ قوات سوريا الديمقراطية؛ تعهدت بتسليم إدارة المدينة بعد تحريرها للمجلس المدني. وأضافت: «اتخذنا من بلدة عين عيسى مقراً مؤقتاً لعملنا، لكن بعد التحرير سنقوم بإعادة هيكلية المجلس ليضم جميع أبناء المحافظة من ذوي الكفاءات والاختصاصات دون تهميش أحد، لتصبح الرقة نموذجاً للتفاهم والعيش المشترك».

وفي بداية شهر يونيو (حزيران) الماضي، بدأت قوات سوريا الديمقراطية معركة تحرير مدينة الرقة من قبضة عناصر التنظيم، حيث باتت تسيطر على أكثر من 60 في المائة من مساحتها، وحررت الكثير من أحيائها وشوارعها.

وتابعت المهندسة ليلى حديثها بقولها: «تمت دراسة ومسح كل المناطق المتضررة من الناحية التعليمية والصحية وكذلك الخدمية، وجميع النواحي التي تخص الحياة المعيشية لمحافظة الرقة، وبناءً عليها قمنا بوضع الحلول والخطط الاستراتيجية وبرامج قيد التنفيذ».

تدريب ثلاثة آلاف شرطي

وأفاد المحامي إبراهيم الحسن نائب الرئاسة المشتركة للمجلس المدني، أنّ التحالف الدولي والقوات الأميركية تقوم بتدريب قوات الأمن الداخلي لتنتشر في مدينة الرقة بعد التحرير، وأشار إلى أنّ: «الخطة تشمل تدريب ثلاثة آلاف شرطي من أبناء الرقة وريفها لحفظ الأمن والسلام في المحافظة بعد طرد مقاتلي التنظيم».

وقد بدأ الجهاز عمله بشكل فعلي وانتشرت عناصر الشرطة في معظم القرى والبلدات والمناطق المحررة، حيث تلعب دوراً رئيسياً في عملية إعادة الأمان والاستقرار، وأضاف الحسن: «يجري تدريب 50 شاباً بمعدل أسبوعي لهذا الغرض، إلى أن يتم الانتهاء من تدريب العدد المطلوب وفق الخطة المعتمدة للتحالف الدولي والمجلس المدني».

الشرق الاوسط

 

 

 

عن “تحرير” الرقة/ سلامة كيلة

يبدو أن كلمة “تحرير” باتت تعني شيئاً آخر غير ما نعرفه، باتت تُعطى معنىً جديداً، فالتحرير، كما نعرف، هو إنهاء وجود قوة تحتل بلداً أو مدينةً أو حيّاً، بطرد هذه القوة منها، لتبقى البلد أو المدينة أو الحي، بعد أن يتخلص أهلها من المحتل. هذا هو المعنى المتعارف عليه، على الأقل إلى ما قبل سنة 2011.

ما نشهده منذ بدء “الحرب على داعش” بات يعطي هذه الكلمة معنىً آخر، حيث بات علينا أن نضع كلمة مقاربةً مرادفاً لها: التدمير. بالتالي، نحن نتحدث الآن عن “تدمير” الرّقة. حيث نشهد، كل يوم، مدى التدمير الذي يلحق بها، وعدد القتلى الذي يسقط تحت حجة “تحرير” الرّقة من داعش. هل التدمير ضروري لتحقيق هذا “التحرير”؟

هذه المقالة عن الرّقة الآن، وسبقتها مقالات عن الموصل، كما جاء صاحب هذه السطور على الرمادي والفلوجة وتكريت، وانتظار “تحرير” تلعفر، ودير الزور. وليس المراد هنا الحديث عن “تحرير” المدن والقرى والأحياء السورية الأخرى التي يقوم بمهمتها طرفٌ آخر، هو النظام السوري ومجموعات إيران، وأخيراً روسيا، والتي يبدو أنها تعتمد المعنى الجديد لكلمة “تحرير”، على الرغم من أن الهدف يختلف، حيث بدأ النظام هنا (وأكمل الباقون) حرق شعبٍ تمرّد عليه. وإنما المراد هنا هو الحديث عن “قائدة الحرب ضد الإرهاب”: أميركا وتحالفها. فهل كانت هزيمة “داعش” تفترض كل هذا التدمير والقتل، ولماذا قتاله في المدن بهذه الطريقة، من دون قطع طرق الإمداد؟ بمعنى، أليس هناك “خطة عسكرية” لا تودي إلى كل هذه الكوارث؟

أولاً، ما يملكه تنظيم “داعش” من أسلحة خفيفة أو متوسطة، ويمكن بسهولة قطع طرق الإمداد عنه، فالصحراء تتيح للطيران أن يقطع كل الطرق المؤدية إلى المدن التي سيطر عليها. كما أن عدد أفراده، وفق أكبر تقدير، وفي كل مناطقه (أي في سورية والعراق) وصل إلى ثلاثين ألف “جهادي”، وهو عدد لا يستطيع ضمان أمن كل هذه المنطقة الشاسعة. وكان عدد “مقاتليه” في المدن لا يتجاوز ألفاً أو ألفين أو ثلاثة (أعلنت الولايات المتحدة عن وجود ألفين في الموصل، ويعلن الآن عن وجود ألفين في الرقة)، وهو عدد ضئيل للسيطرة على مدينةٍ. ووفق الأسلحة التي يمتلكها، يمكن بسهولة السيطرة عليه بدون طيران، وبوحدات خاصة (مع قصف مدفعي محدود على مناطق تمركزها فقط).

ثانياً، جرى التهويل من خطر المفخخات، والكيماوي، وهو تهويلٌ لا معنى له، لأنه يمكن كشف الأمر بعد حصار المدن. وكذلك يجري التهويل من القناصة، على الرغم من أنه يمكن معالجة الأمر من دون قصف البنايات على من فيها. والغريب أنه، بعد كل هذا القصف والتدمير والقتل للمدنيين، لا يعتقل أو يقتل من عناصر “داعش” سوى القليل القليل، بينما يخرج الآخرون سالمين.

ثالثاً، يمكن أن يجري التقدم بشكل مختلف، خصوصاً أن تنظيم داعش غير قادر على حماية كل محيط المدن أصلاً، لا بالتفخيخ ولا بالعناصر ولا بالسدود. ويمكن أن يستخدم الطيران عند الضرورة، وربما تكون المروحيات هي الأفضل لأنه يمكن استخدامها بالقنص.

لا تستأهل القدرة الواقعية لداعش (كما تظهر في آخر الأمر) هذا الشكل من الحرب، ولا شكّ في أن الحرب هي ليست ضد داعش، بعد أن يظهر أن جلّ عناصره قد خرج سالماً (أو أُخرج سالماً)، بل هي ضد المدن والشعوب، كما يظهر في آخر الأمر. فهي تقع تحت سيطرة داعش، من أجل أن تُدَمر بحجة “الحرب ضد داعش”. ولا شك في أن تضخيم قدرة داعش تهدف إلى استخدام كل هذه الأسلحة، وإطالة الحرب كل هذا الزمن الضروري لتدمير المدن فقط. لهذا نعيد تأكيد أن داعش “شركة أمنية خاصة” لها دور في إظهار وحشية الشعوب باسم الإسلام، ولكي تكون مبرّراً للتدخل من أجل تحقيق سياسات. وفي هذا السياق، تجري ممارسة أبشع مجزرة، حيث ترى الطغم الرأسمالية أن هناك “شعوباً زائدة” لا بدّ من حرقها.

إذن، داعش عنصر مُدْخَل من أجل أن نرى مدناً وقد باتت أطلالا.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى