راتب شعبوصفحات مميزةلن ننساكم -بمثابة تحية الى شهداء سورية -

شهداء الحياة – راتب شعبو

 

راتب شعبو

يتميز الصراع الدائر في سوريا اليوم بأنه يحصد أرواح مدنيين أبرياء وعسكريين أبرياء أيضاً. من كان من الشباب السوريين في فترة خدمته الإلزامية أثناء اندلاع انتفاضة السوريين وجد نفسه، لا شك، بين نارين: نار البقاء في قطعته العسكرية كجزء من جيش تم زجه مبكراً في مواجهة الانتفاضة، ونار الانشقاق عن الجيش تجنباً لوقوفه في وجه متظاهرين سلميين لا يجد معنى لقتلهم أكان مع ما يقولون أو ضده. وقد كان الخيار أقل كلفة قبل التحول المسلح للحراك السوري. حينها كان بقاء الجندي في قطعته يكلفه راحة ضميرة، بعد ذلك صارت حياته في خطر سواء اختار أن ينشق عن قطعته العسكرية أو أن يبقى فيها.

 قليلة هي المواقف الأكثر صعوبة التي يمكن أن تفرضها الحياة على المرء. بين أن تَقتل أو تُقتل. وإذا كان هذا هو الحال في كل الحروب، إما أن تقتل عدوك أو يقتلك، فإنه هنا يعني أن تقتل أهلك أو يقتلونك. هذه هي المشقة التي وجد نفسه الجندي السوري بين نابيها.

الجيش السوري ليس جيشاً محترفاً وليس حزباً سياسياً ينتمي إليه المرء طوعاً بعد اقتناعه بفكره السياسي، حتى المتطوعين بالجيش هم في الواقع باحثون عن وظيفة وآخر ما في بالهم القتال والدفاع عن الوطن وما إلى ذلك من إنشاءات كلامية، ولاسيما بعد الركود الطويل الذي مر به الجيش السوري وأحاله إلى مستنقع للفساد والتحيزات القائمة على اعتبارات سلطوية وفئوية ومالية وحتى شخصية لا وزن فيها لاعتبار الدفاع عن الوطن و”حماية الديار”.

لا شك أن هذه “البراءة” لا تشمل العسكريين السوريين جميعاً، لكنها تشمل، من بين غيرهم، أشخاصاً يؤدون خدمة العلم ويعدّون أيامها كي يعودوا إلى بناء حياتهم المهنية والأسرية ولا يحمل أحدهم في وعيه من السياسة وهمومها ما يسوغ لنفسه العمل مع أي جهة ضد أخرى. ولا يجد معنى ربما في كل هذه الانقسامات والصراعات والتضحيات. هؤلاء ليسوا قلائل. هؤلاء وجدوا أنفسهم في مصيدة لا تتيح لهم الخيار. ولو أتيح لهؤلاء الخيار لوجدوا أنفسهم في صف الحائرين والنائين بأنفسهم عما يجري والخالين من أي رأي أو تحيز يبنون عليه موقفاً. ولكنهم غير مخيرين فهم يؤدون خدمة إلزامية وقد اكتشف أحدهم فجأة أن هناك جهة أهلية مسلحة من خارج الجيش تتعامل معه أكثر فأكثر كعدو، وأن من داخل الجيش تتبلور نواة من العسكريين الأكثر ولاء ومناصرة للنظام تضعه وأمثاله تحت المراقبة وتتعامل معه كجبان أو كخائن محتمل. ويكتشف أحدهم فجأة أن البارودة التي تعلم فكها وتركيبها ليست مجرد درس عملي ينتهي ويعود بعده إلى تقطيع وقت خدمته. لقد صار عليه فجأة أن يستخدمها على جبهة داخلية جنودها من أهله وأبناء بلده. أو أن تُستخدم ضده. بارودة موجهة إلى صدره من “عدو” غامض وأخرى موجهة إلى ظهره من “عدو” كامن محتمل كان للتو يقضي معه سهرات ويسارره ويقاسمه العيش والهموم. هؤلاء الشباب البريئون صارت تتوافد نعوشهم إلى مدنهم وقراهم وبلداتهم دون أن يدري أهاليهم من أين جاءت الرصاصات التي اغتالت أرواحهم. من أي جهة من المصيدة التي وجدوا أنفسهم فيها.

أعرف من هؤلاء شخصاً ممن يشكلون مادة الشعب، ممن إذا سألتهم ما معنى الحياة قالوا لك “أن تحيا”. ممن لا يريدون من الحياة إلا أن ينسلوا من خيوطها عشاً ويمارسون فيه حياتهم. لكن الحياة أدخلت هذا الشخص في التجربة بما يشق على نفسه. لا يعرف أن يكره أحداً ولا يقدر على إيذاء نمله، هكذا أعرفه وهكذا كانت تردد أمه اليائسة في عزائه الذي عُقد دون جثمانه. غادر بيته ليلتحق بالخدمة الإلزامية (إلزامية حقاً) مصحوباً كالعادة بكل ما يضعه قلب الأم على لسانها من دعوات بأن ينهي خدمته على خير. لكنه لم يعد. كل ما عاد لأمه منه هو خبر موته. لا نظرة أخيرة ولا حتى اطمئنان بوجود لحمها ودمها في نعش تدفنه. ولو كان اطمئناناً كاذباً. لقد مات. هذا كل شيء. حين ترى أماً في هكذا محنة لا بد لك أن تتساءل: هل حقاً “لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”.

صحيح أن أمثال “بطلي” لا يحملون قضية سياسية يلتزمون بها ويموتون في سبيلها. هؤلاء ليسوا شهداء قضية، إنهم شهداء الحياة. فهم دفعوا حياتهم قسراً وكرهاً وعلى غيرما اختيار، لأنهم حرموا بقوة الأقوياء من أن يختاروا. هؤلاء لم يقاتلوا طمعاً بدنيا أو بآخرة، وأشك في أن “بطلي” وأمثاله يقاتلون أصلاً. هؤلاء لم يختاروا الضفة التي ماتوا عليها، فهم لا يعرفون ربما معنى لضفة. هؤلاء كالبحر الذي لا يعترف بالضفاف، وهؤلاء وأمثالهم في كل مكان هم مادة الشعب وبحره اللامحدود. إن شهداء الحياة هؤلاء جديرون بالعرفان من الثورة التي هي في الجوهر أقرب فعل سياسي إلى معنى الحياة.

خاص – صفحات سورية –

اللوحة للفنان السوري بشار العيسى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى