صفحات مميزة

شهران على إخفاء عبد العزيز الخيّر


ليليان يوسف

منذ اختطاف (اعتقال) الدكتور عبد العزيز الخيّر في ٢٠ أيلول والجهود المبذولة لجلاء مصيره متواضعة. وبرغم النفي الرسمي المشبوه الذي اقتصر على إعلان يتيم حمل توقيع «وزارة الإعلام»، فإن الوقائع والأدلة (وكذلك المعلومات المسرّبة)، تؤكد على مسؤولية النظام ورجال أمنه.

استهداف الخيّر، هو استهداف مباشر لقيم الثورة السورية التي تصدّر صفوفها، واستمرار اعتقاله جريمة تضاف إلى جرائم النظام المتهالك. أما الصمت المخزي (حتى لا نقول التشفي) لبعض المعارضة أو»ناشطيها» فيمثل إدانة قوية تكشف، في بعض ما تكشف، عن وضاعة أهدافهم وخساسة مراميهم، وتؤكد على كونهم جزءاً من ثقافة التخلف والاستبداد، ومن الماضي الذي يجب أن ينطوي عاجلاً أو آجلاً، لا جزءاً من الثورة وقواها الحقيقية.

أسباب اختطاف (اعتقال) الخيّر كثيرة، ويكمن، بعضها، في نصاعة السيرة النضالية وغناها، وبعضها الآخر في دوره المفصلي في حماية الحراك وتأطيره، بعيداً عن التوظيف السياسي الرخيص وإملاءاته التي تتربّص بسوريا الدولة وسوريا الكيان وسوريا الناس. فالرجل، الذي أفنى ردحاً من عمره في مقارعة لا كلل فيها ولا ملل، وخلافاً لكثيرين، أدرك أن القطع مع النظام والعمل الجدّي على إسقاطه لا يعني القطع مع الدولة وإسقاطها. وانطلاقاً من وضوح العناوين تصدّى للعابثين الصغار ومموليهم، وثابر على تنقية الوعي وحشد الطاقات وتنظيم الصفوف وقيادة المعارك، من خلال دوره البارز في تأسيس «هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديموقراطي في سوريا» (14 حزباً و4 تجمعات حزبية والعشرات من المستقلين ورموز المعارضة السورية) في 30/6/2011.

الخيّر أحد أصلب الرجال وأقدرهم. قيادي بارز ومثقف نقدي واضح العبارة، دقيقها. ماركسيته وعي عضوي عميق وسؤال جدلي مقيم. وهو علامة وطنية ونضالية فارقة في التاريخ السوري الحديث، بل ورمز لأجمل ما في هذا البلد الذي يدفع اليوم، ومعه المنطقة، ومن دماء أبنائه، ثمن الموقع وثمن الدور وثمن الرغبة بالحريّة الحقيقية.

في سيرته المعلنة ما يؤكد على أنه أحد أبرز حاملي الأسئلة وصانعيها، ولأن أسئلته من أسئلة الحريّة والديموقراطية والمستقبل، طورد 11 عاماً قضاها متخفياً داخل سوريا متابعاً، من موقع الرجل الأول في الحزب (حزب العمل الشيوعي)، دقائق التنظيم واستمرارية النضال. وحين اعتقل تعرّض لصنوف من التعذيب الوحشي أشرفت عليه أرفع قيادات النظام السياسية / الأمنية، وصدرت بحقه أقسى الأحكام البعثية وأطولها (22 عاماً).

عبد العزيز الخيّر المناضل وصاحب الوعي المطابق، مساهم بارز في وقائع الثورة السورية وملاحمها، بل أحد أبرز بناة قيمها. لديه أن «تحقيق التغيير الوطني الديموقراطي (يتمّ) بقوّة الشعب السوري وثورته أساساً». وبما «يصون البلد من أخطار التدخّلِ العسكريّ الخارجي، والطائفية، وأخطارِ عسكرة الثورة والحرب الأهليّة».

منذ شهرين والرجل في قبضة الأمن السوري. ملابسات الاختطاف (الاعتقال) وظروفه وإصرار النظام على التملّص من المسؤولية، من خلال تسريبات وفبركات عن مسؤولية المسلّحين، تنذر بأخطار جسيمة قد تطال حياته.

وفي ظل الاستعصاء الذي يهدد بمخاطر كبيرة، ليس أقلّها استمرار النزف ومعه احتمالات ضياع الكيان وتبدد الدولة، تأتي أهمية التذكير بمواقف الخيّر، القائد الذي استشرف مخاطر العسكرة وحذر منها، لا لراهنيتها الواضحة وحسب، بل لمستقبليتها الأكثر وضوحاً، كما لجهة القدرة الفائقة على تعيين المخارج، بعيداً عن إملاءات الخارج وأجنداته المدججة بالسلاح والعصبيات، وبما يحفظ وحدة الأرض والشعب. ومن هذا الباب يسلّط هذا التذكير الضوء على واحد من أهم رجالات الثورة السورية الموشكة على التبدد، بفعل جرائم النظام وجرائم أشباهه من الفريق الذي امتطى الثورة من منافيه القريبة والبعيدة.

التأكيد على قيم الحراك السوري وتطلعاته الأساسية مهمة بالغة الأهمية، وتزداد هذه الأهمية بالنظر إلى طبيعة اللحظة السورية القاتمة، ومن حال الاستعصاء السياسي والعسكري، الذي يهدد بمخاطر استمرار النزف ومعه احتمالات تشرذم الكيان وتبدد الدولة. وهذا التأكيد هو ما يبرز في مجمل مواقف وحوارات الخيّر السابقة على الاعتقال الأخير.

في حواراته تبرز الرؤية الواضحة والعميقة التي تقرأ الحراك الشعبي بوصفه «ثورة سياسية ذات صلة بالتاريخٍ السياسي الطويل، نقلها اجتماع الظروف الموضوعيّة من الفضاء الثقافي السياسي إلى فضاء المجتمع. وهي ثورة جمهور من طبقات وسطى وشعبيّة، انفجرت لأن القمع عجز عن إلغاء توق السوريين إلى الحريّة».

والحريّة التي يسعى إليها السوريون تقضي «بالعمل على تحقيق التغيير الديموقراطي بالكيفية التي تضمن وحدة الشعب وسيادة البلاد، ونقلها في المحصلة إلى وضعٍ تاريخي أفضل، لا بالسعي إلى تحقيق التغيير بصرف النظر عن وسائله وقواه وعن البديل الذي سيقوم على أنقاض النظام».

حرص الخيّر ورفاقه على تحقيق التغيير الذي يقطع مع النظام القائم، ترجم بإعلان قيام «هيئة التنسيق» التي شكلت»في برنامجها وفي ثقافتها وفي ممارستها النقيض الديموقراطي الحقيقي للنظام»، والتي أكدت من خلال الممارسة «تمسكها بأن يكون بديل النظام نظاماً ديموقراطياً يلبي مطالب الشعب والثورة، ورفض الانزلاق في أي سياق للتغيير يهدّد بوضع البلاد تحت الاحتلال الأجنبي، أو بزجها في حرب أهليّة. والتأكيد على رفض «مشاريع تغييرٍ» تقود فعلياً إلى بديل للنظام الديكتاتوري الراهن لا يقل عنه ديكتاتورية».

إصرار الخيّر وانسجامه مع متطلبات التغيير التي تقطع مع الاستبداد، عرّضته ومن معه من رفاق «الهيئة» لحملات طعن «جاءت من أطراف سياسية تتميز تاريخياً باعتمادها مفاهيم التخوين والإقصاء». أما تفسيرها فعائد إلى أن «احتكار النظام للحياة السياسية والنشاط الإعلامي والثقافي، ترك آثاراً قوية في وعي الجمهور وثقافته السياسيّة أيضاً، ومن الأكيد أن تجاوز ثقافة الاتهام المجاني والتخوين والإقصاء يتطلب عملاً جاداً وطويلاً في حقول كثيرة».

وبموازاة تصدّيه للنظام ولخياراته التدميرية، تصدى لدعاة التدخل العسكري الخارجي ولرافضي الحوار بالقول «ليس «الحوار» في حد ذاته قضية يمكن اتخاذ موقف مبدئي منها، فأنت تستطيع أن تجلس إلى طاولة الحوار مع عدو أو خصم، وتظل جذرياً ومتمسكاً بأهدافك وعاملاً لتحقيقها، ويمكن أن تستسلم وترفع الراية البيضاء في أرض المعركة أيضاً من دون أي حوار. جرى كل هذا في التاريخ في أماكن كثيرة من العالم. فرفض الحوار أو قبوله ليس مقياساً لجذريتك، ولا دليلاً على قوتك أو ضعفك. المقياس والدليل هو ما تفعله وما تتخذه من مواقف على طاولة الحوار أو بعيداً عنها، بحيث تخدم أهدافك على أفضل شكل ممكن».

ومتسلحاً بموقف الإدانة الكاملة للنظام رفض سعي «المجلس الوطني السوري» إلى اختزال المعارضة السورية، وبيّن حقيقة هذه التركيبة التي شاركت النظام في الإساءة إلى الثورة وقيمها. فقرأ أن فيه «شخصيات وقوى تريد نظاماً ديموقراطياً ليبرالياً، وفيه قوى أبعد ما تكون عن مثل هذه الإرادة: بعضها إسلامي أصولي متشدّد، وبعضها طائفي صريح، وثمة أشخاص يصعب تصنيفهم ومعرفة ما يريدونه سوى مصالحهم الشخصية الضيقة، وثمة من هو غير هذا وذاك. وسلوك «المجلس» بمحصلة قواه لا يدل على أنه يجسّد نموذجاً ديموقراطياً صالحاً، لا في الفكر ولا في الممارسة. بل ثمة خشية حقيقية من أن تكون القوى المهيمنة في المجلس من طبيعة لا ترى في الديموقراطية إلا شعاراً للوصول إلى السلطة».

وللإحاطة بالحراك وتبيان أهميته التاريخية ردّ منابعه العميقة إلى سببين تاريخيين: إلى «ديكتاتورية النظام وفساده، بما يعنيه من قمعٍ معمّم وشديد ضد كل نشاط أو تفكيرٍ سياسي مستقل، ومن ممارسة للحكم على أساس مراسيم وأعراف وأوامر كثيراً ما تكون شفهية وخرقاً للقانون المكتوب أو تحريفاً له. وإلى السياسات الاقتصادية، التي تم اتباعها منذ بداية التسعينيات، عندما تسارع تحرير نشاط رأس المال الخاص، وبدأ فتح الأبواب للرأسمال العربي والأجنبي، في تجاوب مع شروط صندوق النقد الدولي ومراكز الرأسمال العالمية الأخرى. ومن تكيّفه مع حاجات السوق العالمية، لا مع حاجات التنمية والمجتمع السوري، وقد أدّى تسارع الفرز الطبقي إلى إنتاج نخب ذات ثروات خياليّة، بينما انحدر المستوى المعيشي والاجتماعي للشرائح الوسطى والدنيا بشكل قوي، وتوسعت دائرة البطالة بسرعة كبيرة».

واجه منتقدي غياب مطلب «إسقاط النظام» في بيانات «هيئة التنسيق»، وبيّن أن «الانتقال من النظام الشمولي القائم، إلى نظام تعددي برلماني ديموقراطي يتمسك بالوطنية السورية، يعني حكماً القول بإسقاط النظام، مع إضافة نوعية، تعنى بطرح البديل.

سوريا الغد، هي سوريا القائد عبد العزيز الخيّر وسائر المعتقلين. وهذا يتطلب من كل المخلصين تعزيز الضغوط وتكثيفها، والمباشرة بأوسع حملة تضامن دفاعاً عن غدنا القادم لا محالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى