صفحات مميزة

شهرين اعتقال


يارا بدر

يجلس عدنان محفوض المعتقل السياسي العتيق باسترخاء أحياناً، وبانتباه شديد في أحيان أخرى، دائماً ينظر في عمق العينين مباشرة، يبتسم بكل حب العالم ويقول: ‘بدكون يا عمي شهرين اعتقال’. لأكثر من عام ردّد عدنان محفوض كلماته هذه، ورحل عنّا قبل محمود درويش بأربع وثمانين ساعة، في ليل آب الدافئ، وكان يسبح حرّاً ووحيداً في بحر اللاذقية.

تفاصيل كثيرة عاودتني منذ غيابه المُفاجئ، إلاّ كلماته هذه، فما الذي سيقود بفتاة مثلي إلى الاعتقال، أنا التي لا تخاف، بل تسكن في الخوف!! إلاّ أنّه، وفي أطار (ما يجري فقط في سوريا) فقد تمّ اعتقالي، ومن قبل فرع المخابرات الجوية، وفي ساعتي الأولى تذكرت عمي عدنان… أعتقد أنّه هو نفسه لم يكن يستطيع أن يتخيلني معتقلة لدى المخابرات الجوية… ففي هذا الكثير من السخرية السوداء…

ومرّت الساعات، وخرجنّا من الزنزانة رقم 4 أنا وصديقاتي بعد ليلتين ونصف ليلة. خرجنا إلى غرفة صغيرة نُعتقل فيها يومياً منذ الساعة التاسعة صباحاً وحتى الساعة الثانية ظهراً، وفي تجربتي الممسوخة عن الاعتقال أدركت بضع أشياء، أوّلها أنّه في المعُتَقل يتعلم المرء الصبر، إذ ليس الغضب سوى استنفاذٍ مجاني للطاقة الإنسانية، وهي طاقة يجب التشبّث بها من أجل النهوض في الصباح التالي.

في المُعتقل تخفت انانية البشر، ففي تلك الليلة التي ساقوني فيها وكان المطر قوياً وريحٌ باردة كنت سعيدة بها لأنها هواء متبدّل، حر، غير مَحفوظٍ في جدران زنزانتنا، ساقوني وأنا لا أعلم إلى اين، في مساء الاعتقال الأول، وحيدة أسندوني إلى الجدار، معصوبة العينين، مقيدة اليدين، ووجهي إلى الحائط… كانت أصواتهم خلفي، خمسة أو ستة حسب تقديري، اثنان أو ثلاثة منهم كانوا يفصفصون البرز، يضحكون ويرفعون صوتهم حيناً، بعضهم كان قريباً مني جداً، وشعرت بالخوف، فدعوت ربي، ثمّ ابتسمت حين فكرت أنّ الآلاف يدعون إلى الله في ذات اللحظة، وبحسب تقديراتي فإنّ وضعي لا يزال جيداً، ومن هنا عليّ أن اصمت وأدع مجالاً للدعوات الأخرى… فالكثيرون لا وقت لديهم حتى للصمت، بل إنّ بعضهم محرومٌ من رفاهية الصمت.

أمّا سناء التي شاركتني ارق ساعات الليل، فقد نزعت، وكما نرى في الأفلام القديمة، جاكيتها السميك وقدمته إلى زميلتنا التي كانت تشعر بالبرد، ولم تطلبه طوال الأيام الثلاث.

ميادة التي تعرّفت علينا في الاعتقال وفي شهرنا الأول وغرفة الزيارات اليومية تحتجزنا، كانت تبدو كالأب وهي توصل كلام هذه بتلك، وكنا نغضب منها كما نغضب من أيّ أبٍ مترفعٍ عن مشاعر أطفاله الآنية، إلا أنّها وفي لحظات كثيرة احتضنت موجات غضبنا الهوجاء، وأخص نفسي بالذكر. في حين لا تزال رزان، وإلى اليوم البسمة التي تضيء الغرفة، حنونة، صارمة، تتمايل بين الطفلة والأم، ونتمايل معها جميعاً. وهنادي تغدق علينا الهدايا الصغيرة…..

في اعتقالنا، صبرنا على بعض، غضبنا على بعض، وتعلمنا تقبّل الرأي الآخر، ليس بالضرورة أن نأخذ به ونغيّر ما بأنفسنا، فهذا شاق، وشاقٌ جداً، ولكننا نسير على أمل أن نتعلم ما تسميه ميادة ‘الحوار الديمقراطي’، إلى اليوم لم ننجح في تنظيم جلسة حوار واحدة، لكننا لا نكره بعضنا في نهاية النقاش. ترتفع أصواتنا، تلوّح ايادينا، المتناقشتان تغضبان، واحدة تصيح لتصمتا، الثالثة تحاول إيجاد مساحة لصوتها، والرابعة تبتسم. في كلّ نقاشاتنا كانت دائماً توجد رابعة تبتسم بهدوء، وهي تتبدّل بتبدل النقاش.

مواضيع النقاش أمر تعلمته في غرفة الاعتقال ذات الشباك المُطّل على ياسمينة ترفض أن تُزهر، أو حتى أن تورق، رغم ما تحظى به من عناية خاصة. تناقشنا في كل شيء، في الكهرباء، في القضايا النسوية، في المرأة السورية ما بين الريف والمدينة، في العنصرية الغربية، في الثقافة الأمريكية والأوروبية والكولونيالية وما بعد الكولونيالية، في طريقة عمل وحياة النحل، في حياكة الصوف، في الأدب وجماليات ‘ماركيز’، ‘اورويل’، ‘ماريو بارغوس يوسا’، وحتى شعر ‘محمود درويش’ و’نزار قباني’، في السياسة والسياسيين، في الأحداث اليومية والفيسبوكية السورية، وصولاً إلى التويتر المصري، في بعض تفاصيل الأديان، إذ اننا جميعاً شبه جاهلات في هذا المجال، في الوضع اللبناني والقضية الفلسطينية، وليس انتهاءً بالافلام والأزياء وقضايا الجمال والابراج. وكان مضحكاً أنّ الدين والطبخ أكثر مجالين أثبتنا جهلاً شبه مُطلق بشأنهما.

رزان بوابتنا إلى التدوين والمدونين من حول العالم، وميادة بوابتنا إلى تفاصيل عن ريف لا نعرفه، وعن زوايا في مدينتنا لها وجهها الآخر بعيني ميادة، هنادي تفتح لنا عوالم الأرض والزراعة والحيوانات كما تفاصيل النشاط الفيسبوكي، وعالم العائلة حاضر دائماً مع سناء، بكل زخمه بين الماضي والحاضر، وأنا أدور بين الأفلام وبعض الروايات والتفاصيل الصغيرة، ونقاشات أخلاقيات منسيّة.

في المُعتقل تعلمت تقدير الأمور بكفتي الميزان، فالحق يُقال، لا أستطيع الأدعاء بأنني قد تجاوزت حدّيتي بين الأبيض والأسود، لكنني تعلمت أن أرى كفتي الميزان.

البارحة أتممنا الستون يوماً على اعتقالنا، الأحد 15/04/2012، أشياء قاسية خرّشت أرواحنا بالتأكيد، وقلق لا يزال يتنّفسُ فينا، لكننا لا نزال ممتلكات لتلك الطاقة التي نحتاجها كي نستيقظ غداً ونذهب إلى غرفة اعتقالنا. حكمة عمي عدنان طافية دوماً، ونحن بهذه التفاصيل التي تعلمناها نرفض أن يكون اعتقالنا خسارة، نرفض أن نستسلم له كفعلٍ قسري يسرق ساعات عمرنا، أجل هم يستطيعوا أن ينتهكوا ويهشموا شكل الحياة التي كانت لنا، ورسم يومنا العادي، لكننا أنتجنا شكل حياة جديد، ورسم يومٍ غير عادي، ولكنه يومٌ جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى