صفحات سورية

شوارع سورية و أزقة الفيس بوك: محاولة غير مؤامراتية لفهم ما يحدث!

 


“في البيوت المضاءة جيدا يمكن رؤية اعشاش العناكب بوضوح.. ويمكن كنسها ببساطة”… محمد صارم

تحذير هام: هذه المقالة من النوع الدسم، يرجى عدم قراءتها إذا كان دماغك متخماً بالأفكار الجاهزة..

ليس البيت الواحد منقسماً هذه الأيام في سورية، بل حتى القلب الواحد. تتنازعه الرغبة في سورية تتقدم أكثر و تتخلص من أمراض الظلم و الفساد و المحسوبية، و تتغلب على ما بقي من أفكار اقصائية و متطرفة تعشش في بعض الزوايا، و بين الرعب من حالة استقطاب و عنف تهدد كل ما تحقق من انجازات في السنوات الماضية، و هي ليست قليلة، بل و حتى النسيج الاجتماعي لسورية.

لمعرفة الطريق الأمثل للتقدم للأمام، و تلافي كل الألغام التي تكمن في الطريق و القنابل التي ترمى فيه كل يوم، لا بد من محاولة فهم ما جرى حتى صارت سورية لا تشبه نفسها. لكن المشكلة اليوم هي أن أحداً في العالم كله لا يعرف ما الذي حصل و يحصل. لدى كل طرف أجزاء من صورة يبنى عليها قراراته، لكن الصورة الشاملة غائبة تماماً، و لا يمكن الوصول إليها في ظل التراشق بالأدلة و البراهين “المفحمة” بين الطرفين و التقاذف بالآراء المقدسة لدى الطرف الذي يستشهد بها. لذلك ستركز الأسطر التالية على فهم بعض اﻵليات التي أدت إلى ظهور هذا الاستقطاب من منظور علمي، اكاديمي.

نقطة الانطلاق لا بد أن تكون مفهوم العقلانية المحدودة Bounded rationality و الذي يقول أن المعلومات المتوفرة أمام الفرد، و الوقت المتاح أمامه لاتخاذ القرار، إضافة الى القدرة العقلية هي عوامل أساسية تؤثر على مدى عقلانية القرار. فالفرد الذي يسمع أن هناك حصاراً غذائياً على منطقة ما أو أن قتلاً يحدث في منطقة أخرى لابد أنه سيحاول فعل شيء ما، هذا متفق مع الروح الوطنية السورية التي كانت دائماً إلى جانب غزة و لبنان و العراق، بل أن تركيز من تظاهر سلمياً في مدن سورية على نبذ الروح الطائفية و التفريق بين السوريين على هذا الأساس يشكل وساما و نموذجاً يفخر فيه كل سوري. المشكلة التي ظهرت إذاً ليست في الدوافع، فكل السوريين يرغبون في المزيد من الحرية و كلهم يأبى الذل بكافة أشكاله. المشكلة كانت في كمية المعلومات التي كانت تصل إلى كل فرد و التي يبني عليها قراراته و التي بدأت بتشكيل اتجاهين متمايزين في النظر إلى الأمور، و هو ما يبدو جلياً عند النظر إلى الحوارات على الفيس بوك.

فاليوم، هناك انفصال شبه تام بين مجموعتين سوريتين على الفيس بوك، تسميان استسهالاً “المؤيدين” و “المعارضين”، و يكاد من المستحيل العثور على من يقف في المنطقة الفاصلة بين الطرفين. كل مجموعة تتبادل فيما بينها المزيد من المعلومات التي تعزز من وجهة نظرها و تعتنق أي معلومة تتفق مع وجهة نظرها بينما تتجاهل المعلومات اﻵتية من الطرف اﻵخر، و تسخر منها دون تحقق. كل مجموعة تعتقد بوجود مؤامرة لدى الطرف اﻵخر و تعتقد أن مجموعتها هي التي على يقين مطلق، و المشكلة أن تقنيات الانترنت و الفيس بوك خصوصاً تعزز من هذه المشكلة.

فمن المعلوم أن عمليات البحث في الجووجل أو اليوتوب لا تسفر عن نتائج متماثلة حتى بالنسبة لنفس البحث، حيث تتأثر النتائج بمكان الباحث ونظام التشغيل الذي يستخدمه، و تاريخه السابق من البحث في جووجل و غير ذلك من العوامل.كما أن تعديلات حديثة طرأت على الفيس بوك فاقمت من مشكلة فلترة ما يراه كل شخص على صفحته على الفيس بوك، فبدل أن يتلقى كل ما يتشارك به أصدقاءه و الرسائل من كل الصفحات التي يشترك بها، فقد بدأ الفيس بوك بالفلترة الاوتوماتيكية. يعني هذا أن الخيار الافتراضي في الفيس بوك أصبح تلقي الرسائل من “الأصدقاء و الصفحات التي تتفاعل معها أكثر من غيرها”، و تختفي بقية الصفحات و الاصدقاء و ما يقولونه. هذا نابع من نظرية مارك زوكربرج، مؤسس الفيس بوك، أن “سنجاباً يموت أمام منزلك قد يكون أكثر أهمية لك اﻵن من موت الناس في أفريقيا”.

خيارات الفيس بوك لالغاء الفلترة الاوتوماتيكية

و بالتالي أصبحت صفحة الفيس بوك لكل شخص مرآة و مكبرة تكرر أصواتاً تزداد تماثلاً يوما بعد يوم. فإن كنت ممن بادر في البداية لتتبع أخبار المظاهرات و سلميتها فأنت في غالب الظن لم تسمع باسم نضال جنود، و لم تر التحريض الطائفي على بعض المنابر و في بعض المظاهرات ،و أنك تسخر و تهزأ ممن يقول بأن هناك مندسين “Agent provocateur” يريدون تحويل المظاهرات عن سلميتها، و إن كنت من المشككين منذ البداية فإنك في الغالب لا ترى اليوم إلا ما ذكر أعلاه، و لا تمر أمام عينيك أي صورة لمظاهرات سلمية تدعو لمطالب محقة من حرية و عدالة، و تعتبر أن أي صورة تمر أمامك تتحدث عن انتهاكات لحقوق المتظاهرين السلميين أو معاناة لمدنيين مزورة و جزء من المؤامرة. و الحال مشابه خارج الفيس بوك، بين متابعي الدنيا و متابعي الجزيرة. و يصبح لدينا مجموعتين منفصلتين تماماً تتناقشان داخلياً و يزداد تطرف كل منهما تدريجيا، و هنا نصل إلى ما يسمى في علم النفس الاجتماعي بحالة استقطاب الجماعة Group polarization.

استقطاب الجماعة هذا قد يكون نتيجة لحالات التغير السريع في الأفراد و المجتمعات، أو ما يسمى بالتداعيات Cascades. و المثال عليها هو التالي، إذا كان الرجل (أ) غير متأكد فيما لو كان هناك خطر معين من ظاهرة ما، فإن وجود الرجل (ب) الذي يبدو أنه يعتقد بوجود خطر من هذه الظاهرة سيدفع الرجل (أ) للجزم بخطرها، و بالنسبة للرجل (ج) فهو يحتاج الكثير من اليقين و الأدلة ليخرج عن اجماع سابقيه، و بالتالي ينتشر اليقين بوجود هذا الخطر على شكل تداعيات اجتماعية واسعة تشبه انتشار الموجة، و ينتهي الأمر بوجود عدد كبير ممن يصدق بوجود هذا الخطر حتى لو لم يكن موجوداً في الحقيقة. و هذه الظاهرة تحدث أيضاً فيما يتعلق بالمواقف “الأخلاقية” و “الصحيحة” في مجتمع ما. تاريخياً فقد أسفرت هذه الظاهرة عن نتائج ايجابية و سلبية، فهي التي أدت الى حركة القضاء على العبودية و على التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، و لكنها في الوقت نفسه أدت إلى الثورة الثقافية في الصين و الى بزوغ النازية في ألمانيا.

تقول أدبيات علم النفس الاجتماعي واصفة حالة استقطاب الجماعات أن تبادل الآراء مع اﻵخرين بغرض الحوار و التناقش بشأن أمر معين، يؤدي تدريجياً إلى أن تتخذ مجموعة الأفراد التي تقوم بالحوار مواقفاً أكثر حدة و تطرفاً من مواقفها كأفراد، مما يفسر بعض حالات التطرف و الراديكالية و العداء العرقي، و سلوك بعض الجهات السياسية و الدينية.

فرغم أن الفكرة الأساسية من الحوار و التداول بشأن قضية ما تستهدف ان يتشارك الجميع بما لديهم من معلومات للوصول إلى قرار أفضل، فإن الاستقطاب التدريجي يدفع بأعضاء الجماعة شيئاً فشيئاً الى التردد في الادلاء بأي رأي أو اعطاء أي معلومة يرون أنها قد تؤدي إلى عرقلة الاجماع الناشئ بين أفراد الجماعة، و بالتالي يزداد تحيز الحوار تدريجيا مع توقف أعضاء الجماعة عن مشاركة الحقائق التي”لا تخدم القضية”، فـ”لا صوت يجب أن يعلو على صوت المعركة”، بل أنها ستبدأ في اعتبار أي معلومة لا تتفق مع هذا الاجماع و التوجه جزءاً من مؤامرة لتبرر تجاهلها و السخرية منها، و يصبح موقف الجماعة أكثر تطرفاً من معظم أفرادها و بالأخص عندما يكون مطلوباً منها اتخاذ قرار جماعي، كما أن الأفراد ضمن كل مجموعة سيزداد تطرفهم أيضاً تدريجياً.

اسباب ظهور هذه الحالة ترجع إلى آليتين أساسيتين: التأثير الاجتماعي على سلوك الأفراد، و اقتصار المعلومات المطروحة في المناقشة على مجموعة جزئية من الحجج الاجمالية. التأثير الاجتماعي على السلوك قد يكون مبنياً على المعلومات أو على السمعة. فعندما لا تكون لدى الشخص معلومات كافية بشأن ماذا يفعل، فإنه ينظر إلى ما يفعله المحيطون به و يعتبره دليلاً على ما يجب فعله فيفعله، أو قد يعتبر الشخص أن أفعال اﻵخرين تخبره بما يتوقع اﻵخرين منه أن يفعل، و بالتالي يتصرف كذلك لحماية سمعته ضمن هذه الجماعة.

و قد أثبتت تجارب علمية مشهورة أن 70% من الأفراد خالفوا الجواب الصحيح عن مشكلة جوابها واضح أمام أعينهم، في سبيل الاتفاق مع رأي الجماعة (الخاطئ) على الأقل لمرة واحدة. و أكدت النتائج أن هناك تفاوتاً في الشخصيات بين من ينقاد بسهولة و في كل مرة، و من هو مستقل تماماً في رأيه رغم الضغوط الاجتماعية. كما أكدت أن وجود “صوت عاقل” واحد ضمن المجموعة يؤثر إلى حد كبير على التحرر من الضغط و الثقة بالمعلومات الشخصية للفرد. بيد أن الاستقطاب و التطرف يزدادان عندما يكون أفراد المجموعة مؤمنين أن قدرهم واحد، و عندما توجد مجموعة أخرى “مضادة” قبالتهم.

و من نافل القول أن نفي وجود مؤامرة كبرى لا يعني عدم وجود مؤامرات متعددة، فمن الطبيعي في حالة الانقسام أن يستغل الأعداء و أصحاب المصالح ذلك، و يتسربوا كالنمل من عيوبنا كما قال نزار قباني. السلاح الأمضى حتى اﻵن لم يكن البنادق و الأسلحة، بل كانت حرباً إعلامية من البروباغاندا القذرة، و كما تقول الدراسات فإن معرفة هذه التقنيات تساعد الأفراد في التغلب على تأثيرها، لذلك نسرد هنا على عجالة أهم هذه الاساليب:

1- الأستروتورفية Astroturfing: و هي نوع من النشاط السياسي أو المؤيد لجهة ما و الذي يحاول أن يظهر بشكل حركة شعبية من خلال اظهار تحركات الجهة صاحبة النشاط على أنها ردة فعل شعبية على سياسي أو حزب أو منتج أو حدث ما.

2- بث المعلومات المزيفة Disinformation: و هي معلومات مزيفة أو غير دقيقة يتم نشرها بشكل متعمد لدفن المعلومات الحقيقية ضمنها.

3- البروباغاندا السوداء Black propaganda: و هي نشر معلومات مزيفة تبدو و كأن مصدرها هو الطرف اﻵخر من النزاع لاحراجه أو اظهاره بصورة غير حقيقية.

4- اثارة المخاوف الاخلاقية Moral panic: و هي اثارة مشاعر الجماهير الواسعة بشأن قضية لاظهارها على أنها تهدد النظام العام.

5- الخوف و الشك و الظنون FUD: و هي نوع من بث المعلومات المزيفة لمحاولة التأثير على الرأي العام من خلال توزيع معلومات سلبية لزعزعة قناعاتهم بشأن شخص أو شيء ما.

6- التعميمات البراقة Glittering generalities: و هي استخدام مصطلحات ايجابية و مبهمة (مثل الحرية، الديموقراطية، الوطنية، الاصلاح…) بهدف دفع الاخرين في اتجاه معين دون أن يفكروا في سبب أو منطق ذلك.

7- اخراج الأمور من سياقها Contextomy: و هو اخراج مقولة معينة من السياق التي قيلت فيه لتعطي معنى مخالفاً، على طريقة “لا تقربوا الصلاة”.

و أسوأ الأنواع فيما يتعلق بالحالة الراهنة:

8- الانسياق مع الجماعة Argumentum ad populum: و هي التسويق للفكرة على أنها صحيحة بدليل أن غالبية الناس تعتقد ذلك.

9- المعضلة الزائفة False dilemma: و هي التفكير بالابيض و الاسود فقط، حيث يتم تقديم بديلين فقط في حالة ما، رغم أن الحالة هي أكثر تعقيداً من هذا الخيار المزيف الثنائي.

الأولوية الآن إذن هي لازالة هذا الاستقطاب الثنائي، فضح دسائس المتآمرين و الأكاذيب و البروباغاندا مهم، لكن الأهم منه هو بناء منصة يتحاور بها الطرفان و يتبادلان فيها الهواجس و المعلومات دون خوف أو خطوط حمراء إلا بما يرسمه القانون من تجريم للنعرات الطائفية و العرقية و الحض على الكراهية. فبقاء كل طرف متقوقعاً في شرنقة من متماثلي الرأي لا يؤدي إلا الى ازدياد الاستقطاب و الشرخ. نقطة البداية في ذلك أن لغة التخوين و التجريم من الطرفين يجب أن تتوقف و يجب العمل على بناء محطة اعلامية – تشاركية – تصارحية دون خوف ثم منصة أعمق فكرية و سياسية تطلق ورشة الاصلاح، فهذا وحده جدير بالعمل على جسر الفجوات التي يرسخها الانفصال التام بين المعلومات التي يتداولها كل طرف، و بالتالي إعادة بناء الثقة التي غابت بين الفريقين.

الحقيقة أن الانقسام ليس بين هذين الفريقين، فالاتفاق معقود بينهما على الغالبية العظمى من المسائل، لكن الانقسام الحقيقي و الذي يجب أن يكون هو بين من يريد مصلحة سورية و شعب سورية و تقدم سورية، و بين القلة الضئيلة من الفاسدين و الظلاميين الذين يريدون جر الأمور لمصالحهم على حساب الغالبية الكاثرة. كل منا عليه أن يسعى إلى العثور على ما يزعزع قناعاته بشأن ما حدث و يحدث، و يصغي بقلبه قبل لسانه لهواجس اﻵخر لا ليفندها بل ليعرف من أين أتت، و كما قالت العرب: أعقل الناس أعذرهم للناس، فهذا وحده الكفيل بطرد حالة الانقسام التي و ان كانت تبدو حادة حالياً فهي مبنية على أسس أوهى من خيط العنكبوت، و طرح جميع القضايا على طاولة الحوار في مجموعة واحدة هو من سينبذ أصوات العنف و الاجرام و يعيدها إلى حجمها الضئيل.

عنوان البناء في المرحلة المقبلة هو توحيد الجهود، فهناك تحديات اقتصادية و سياسية و ثقافية كبيرة، و ثمن غال دفعته سورية من دماء خيرة شبابها و جنودها و حماته، و من اقتصادها و سمعتها و الكثير مما بنته عبر السنوات. هذا الدم يجب أن يكون قرباناً لحرق المراحل في تطوير سورية، بلدنا جميعاً، معاً، بقيادة السيد الرئيس. و عار على كل من يهدر هذا الدم الغالي بعزل نفسه في قفص يعزله عن شركاءه في الوطن و يجمعه باصحاب أجندات أنانية سوداء.

مراجع للاستزادة:

1- مقالة أكاديمية تفصيلية عن ظاهرة استقطاب المجموعات

2- محاضرة قصيرة من مؤتمر تيد عن الفلترة اﻵلية في الانترنت، و خصوصاً جووجل و الفيس بوك (شكرا للصديق فادي)

http://kassariyat.blogspot.com/

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى