صفحات سوريةميشيل كيلو

شو استفادوا؟

 


ميشيل كيلو

لكل شعب فلسفة في الحكم تعبّر عن نظرته إلى نفسه ووجوده، وتترجم قيمه في العيش والعلاقات بين البشر .

كان الإغريق يرون في الحرية أساس الحكم، سواء كان ملكياً أم أرستقراطياً أم ديمقراطياً، أي أكان حكم فرد أم قلة أم كثرة . بينما كان العرب يرون في “العدل أساس الملك”، أي ملك وأي علاقة تراتبية تقوم على حاكم ومحكوم أو قيادة وأتباع . والحق، لو أنك سألت أي عربي أو مسلم في أقاصي المعمورة عن أساس الملك لأجابك من دون تردد: إنه العدل .

عند الإغريق، تساوى البشر في الحرية، وعندنا نحن في العدل، والأصل في هاتين الحالتين التاريخيتين، اللتين تعدان بين الحالات الأبرز في تكوين السياسة وفكرها وتأسيس الدول، هو: المساواة، ولها مدخلان: الحرية هناك والعدل هنا، لا يستقيم من دونهما وجود إنساني، خاصة على الصعيد السياسي، حتى إن قرآننا الكريم يتحدث عن الناس باعتبارهم سواسية كأسنان المشط، أو هو يريد لهم أن يكونوا كذلك، حتى إن كان الله قد جعلهم بعضهم فوق بعضهم طبقات .

يبدأ الانحراف السياسي عندنا بمجرد ابتعاد أولي الأمر منا عن العدل . أما كل ما عدا ذلك، فهو ينضوي في إطار ما هو شرعي أو قابل للإصلاح . ما أن ينحرف الحاكم عندنا عن العدل، حتى يفقد حقه في الملك، في الشرعية، ويصير طاغية يعتبر خلعه فرض عين على الرعية، وإلا فإن الأمور لن تعود إلى نصابها شرعياً وواقعياً: بالنسبة إلى الحاكمين والمحكومين في آن معا . بالمقابل، كان الإغريق يرون في النظم قيوداً على الحرية أو دعما لها، فحكم الواحد يضمر عندهم أعلى القيود، وحكم القلة أوسطها، وأقلها حكم الكثرة، الذي يصير حكماً سيئاً بمقدار ما يفقد صفته ويصير حكم قلة ثم فرد . من هنا، كانت مشكلة الإغريق تتلخص في وضع دستور يكفل حرية الفرد: معيار كل فكر وواقع، ويكفلها في مواجهة النظم السياسية، حتى إن أرسطو، أحد أكبر فلاسفتهم على الإطلاق، أجهد ذهنه لتطوير دستور وسط، يضم محاسن أشكال الحكم المختلفة من دون مساوئها، وأمضى جزءاً من عمره في محاولة تلفيقه . بالمقابل، كان كتاب الله دستور العرب والمسلمين، الذي ضمن العدل بينهم وألزم من يحكمونهم بمراعاته، وجعله جزءاً من نص منزّل، هو تدبير حكيم من الكفر الخروج عنه، أو الاحتيال عليه، أو التلاعب بأوامره ونواهيه، مهما كان شكل الحكم، فالعدل هنا واجب شرعي يلزم الحاكم، سواء أكان فرداً أم قلة، ملكاً أم أرستقراطية . من أجل ألا يخرج الحاكم عن النص فهماً وتطبيقاً، فرض عليه مشاورة أهل النص وعارفيه، وأصحاب الخبرة الحياتية من المحكومين، أو من القلة المقرية منه، على أن تضم خيرة الناس وأكثرهم إيماناً وورعاً، وبالتالي أكثرهم تمسكاً بالعدل وعملاً على تحقيقه . وما يحكى عن عدل سيدنا عمر (رضي الله عنه) ليس من قبيل التفاخر، بل هو تذكير بالعدل كأساس للملك، وتأكيد أن العدل يبقى هدفاً قائماً بذاته، يقتضي التقيد به وتحقيقه الابتعاد عن الفخفخة والبطر، والتمسك بالزهد والتقشف، ويتطلب توفر هاتين الصفتين في صاحب الملك، لكونهما أفضل تعبير عن تطبيقه على الذات قبل الآخرين، وإيمان فعلي بأن من لا يأخذ نفسه بالعدل لا يؤتمن عليه في المجال العام: في علاقته كحاكم مع المؤمنين .

صار عدل عمر مضرب الأمثال، ليس لأنه كان شخصاً عادلاً وحسب، وإنما لأنه كان قبل كل شيء حاكماً أخذ شخصه وأهل بيته والمقربين منه بالعدل، بأقصى قدر من العدل، حتى إنه نشر العدل بين الناس حتى صار ينام تحت شجرة من دون حراسة أو رفقة، كما ينام أي شخص آخر من المسلمين .

والغريب أن قيمة العدل التي اعتبرت أساس الملك، انحدرت في حياتنا الحديثة، حتى صارت غريبة عنا وصرنا غرباء عنها، كأن عمر الفاروق لم يكن منا بل كان أجنبياً وغريباً، أو كأن فكرة العدل انتقلت إلى مجتمعات العالم الأخرى، التي عرفت قيمتها فأرست حياتها عليها، وبلورتها وطورتها وجعلتها ركن وجودها الركين وأساس ملكها وعيشها . حدث هذا عند غيرنا، بينما أخذنا نحن نتجاهل ميراثنا وتاريخنا، ونغذ السير نحو واقع لا يجوز أن يربطنا معه أي رابط، بدا وكأنه يقوم على مقولة وحيدة هي: الظلم أساس الملك، لذلك رأينا الظلم ينتشر في غير مكان من عالمنا العربي، كأن عواقبه ستكون سليمة دوماً، أو كأن الناس ستألفه وتتعايش معه وتقبل تحكمه بمقدراتها . ومع أن كثيرين لفتوا أنظار الظالمين إلى عواقب ظلمهم، فإنهم تنكروا للحقيقة التي نصحوا بالسير على نهجها، ولمن قدم لهم النصح، وبطروا وعاثوا فسادا في الأرض، هم وأولادهم وزبانيتهم، وتجاهلوا أمثلة تجسمت أمام أعينهم لعدل الحاكمين، وجدت في عالم العرب أيضاً، فنجحت في تحويل بلدانها إلى واحات ازدهار وأمان، بينما غرقوا هم وأغرقوا بلدانهم في الفساد والبؤس، حتى صاروا فراعين يطغون ويبغون، بلا حسيب أو رقيب، همهم أن تدوم أحوالهم على ما هي عليه، وينجحوا في تشويه عقل وروح بنات وأبناء الأجيال الجديدة وتكدير عيشها وإذلالها، توطيداً لحكمهم وإدامة لفسادهم، وتعظيما لثرواتهم .

. . . واليوم، ونحن نراقب ما يجري لبعض حكام تونس ومصر السابقين، على سبيل المثال لا الحصر، نتساءل بحسرة عليهم وعلى إخوتنا، الذين تعرضوا لظلمهم وبطشهم: شو استفادوا؟ . لقد جمعوا الثروات، وكدسوا الكنوز، وخزنوا المال، وسرقوا الأرض، واستولوا على الخزينة، فماذا كانت النتيجة، وماذا أفادهم هذا كله، وهل حماهم وأتاح لهم فرص النجاة بأنفسهم؟ . كلما سمعت أنباء أسرة رئيس مصر السابق حسني مبارك، وكيف يمنعون من السفر، ويحجر عليهم في المستشفيات والسجون، وتصادر أملاكهم وأموالهم، وتؤخذ قصورهم وسياراتهم، وتنشر فضائحهم، وتوجه إليهم الشتائم المقذعة، أطرح على نفسي السؤال: ماذا أفادهم مالهم؟ . أما كان من الأفضل لهم لو أنهم عاشوا حياة عادية، وختموها بطريقة عادية: كبشر محترمين يعيشون وسط أناس يحبونهم، يعودونهم إن هم مرضوا، ويسألون عن أحوالهم عندما يصادفونهم في الطريق، ويدعونهم إلى فنجان قهوة أو كأس شاي بين حين وآخر؟ . لقد تهافتوا على الثروة اعتقادا منهم بأنهم سيحافظون على السلطة التي ستمكنهم من حمايتها والتمتع بعزها والتفوق بواسطتها على غيرهم من خلق الله، وها هم يضيعون كل شيء ويجهدون كي يعيشوا يوما عاديا واحدا مقابل كل ما يملكون، بعد أن فقدوا السلطة وأصبحوا ضحايا لها، وأخذت تطاردهم وتنتزع منهم ما كانوا يظنون أن فيه نجاتهم، فتحول إلى عبء مخيف يشدهم إلى قاع هو درك أسفل لا نجاة لهم منه، لا يفيدهم فيه مال أو كنوز أو أراض أو قصور .

ألم يكن من الأفضل لمبارك وأسرته لو أنهم ساروا على صراط العدل وجعلوه أساس الملك؟ ترى، لو خير الرجل اليوم بين ثروته وكرامته، أما كان سيختار الثانية؟ . لماذا فعل إذن ما فعل، وأساء إلى نفسه ودمر سمعته بيديه؟ . وهل هناك أي مسوغ إنساني أو شرعي لما فعله في الماضي، وأوصله اليوم إلى حيث هو: طريد العدالة، شقيقة العدل؟ .

بعد سقوط نظام ألمانيا الشرقية، قال مدير مخابراتها السابق، الجنرال ماركوس، في حديث تلفزيوني من شقته الصغيرة في برلين: لماذا فعلنا ما فعلناه بالناس؟ . لماذا لم نفكر بأننا كنا على خطأ، وبأن الظلم لا يدوم؟ .

ترى: هل سيقول حسني مبارك أو زين العابدين بن علي شيئاً مختلفاً، لو قيض لهما أن يتحدثا ذات يوم بصراحة إلى محطة تلفاز؟ . أليس من الحكمة أن يتعلم غيرهما منهما، قبل فوات الأوان، وأن يفهم أن الملك يدوم بالعدل وكثيراً ما ينهار تحت وطأة السلطة والمال، إن هما تناقضا مع العدل .

الخليج

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى