صفحات العالم

شيء ما عميق الخطأ في هذا الصمت


جهاد الزين

 في الصمت الذي ساد لدى (بعض) المعارضات حيال بعض عمليات الاغتيال نكهة جو خطر على الأسس المستقبلية لسوريا التعددية التي باتت في طريق اللاعودة.

لا يمر الربيع العربي بدون دم… لا اعني الدم الذي يسفكه الاستبداديون… فهذا “طبيعي”… وانما الدم الذي يسفكه “الديموقراطيون” اي قوى الوضع الجديد. لآخر سَفك “ديموقراطي” سمعنا عنه هو الذي شاهدناه على وجه وجسد احد اعنف الطغاة العرب (بعد صدام حسين) واكثرهم كاريكاتوريةً معمر القذافي. لكن القذافي (وولده) كان “محظوظا” كجثة على الصعيد الاعلامي اذ ان عدد الذين استنكروا قتله بعد القاء القبض عليه كان كبيرا جدا في كل انحاء العالم. لكن بعض الضحايا  لأنهم سياسيا على الجانب السياسي المضاد لـ”الربيع” لم يحظوا باستنكار … بل بأي ترحم حتى.

نجل مفتي الجمهورية السورية الذي اغتيل على طريق مدينته حلب هو احدى هؤلاء الضحايا. لم نسمع استنكارا مباشرا  من اوساط المعارضات السورية لهذه الجريمة حتى من شخصيات لا شك بادانتها العامة لكل اشكال العنف وتحذيرها الدائم منه.

صمت كامل او – كي لا نظلم احدا – شبه كامل في هذه الاوساط. بدا كأن الجريمة محرجة للمعارضة من حيث ان اطرافا  غير معلنة فيها تلجأ لهذا النوع من العنف. فقد آثر الكثيرون فيها الصمت بمن فيهم المثقفون الذين يدخلون السياسة اساسا برصيد ديموقراطي سلمي. هناك امثلة اخرى متفاوتة الاحجام لم يضعها المعنيون في المعارضات على بساط النقاش العلني اصلا، لا الليبراليون ولا اليساريون و لا “الاخوان المسلمون”. لا شك ان حجم القمع السلطوي في بعض الحالات بل في الكثير من الحالات مسؤول عن شكل من رد الفعل العنفي التلقائي في الشارع، ولكن الى الآن لم تولِ الجهات السياسية الرئيسية في المعارضات السورية الاهمية المعلوماتية والسجالية الضرورية لمسألة العنف المنظم ضد عنف السلطة وبقي تناول ذلك اما تحت وطأة مواقف عامة غير واضحة او… اللاكلام… مع معرفة الجميع الاكيدة بالمستويات المتعددة لهذه المسألة.

مهما كنا مؤيدين للانتفاضات العربية فإن جوهر موقف رفض الاستبداد هو رفض استخدام العنف. لهذا ثمة في الصمت الذي ساد لدى (بعض) المعارضات “المشرقية” حيال بعض عمليات الاغتيال، ومنها اغتيال نجل مفتي سوريا نكهة جو خطر وخاطىء بالاسس المستقبلية لمشروع بناء النظام الديموقراطي او على الاقل سوريا التعددية التي باتت امرا في طريق اللاعودة.

***

اتذكر كيف ساد الصمت في الاوساط السياسية اللبنانية المؤيدة لنهاية الوجود العسكري السوري في لبنان عامي 2005 و2006 بعد بدء عمليات قتل انتقامي لعدد من العمال السوريين في عدد من المناطق اللبنانية. عنى ذلك يومها نوعا من التواطؤ على غض النظر عن ممارسات عنصرية وطغيانية، لكن كان ما هو اخطر من ذلك ان الصمت عن هذه الممارسات كان يُظهر عجزا بنيويا واخلاقيا عميقا عن بناء المعارضين اللبنانيين لمشروع سياسي مختلف عن ممارسات الوصاية التي كانوا يومها في ذروة رفضها. وقد ثبت هذا العجز لاحقا.

و كما ان الخوف المتراكم على مدى عقود في المجتمعات العربية من اجهزة القمع قد افلت من عقاله في الاحد عشر شهراً الماضية ولم يعد بالامكان اعادته الى الوراء، فان اي شكل من الارهاب الثقافوي والسياسي باسم دعم الانتفاضات يجب مواجهته. لقد قدمت تونس ومصر نموذجا سيسميه معلق اميركي في معرض حديثه عن حركة “احتلوا وول ستريت” في نيويورك بانه الفارق بين “العصيان السياسي” و”العصيان المدني”. فقد اعتبر نموذج ميدان التحرير المصري الذي تأثرت به الاعتصامات الاميركية المستمرة والمتسعة خارج نيويورك وخارج اميركا بأنه العصيان السياسي وليس المدني لانه بقي تحت سقف القانون رغم رفضه الجذري للنظام السياسي.

هذه نقطة العِقد في جاذبية الحدث المصري رغم العنف الذي انفجر وينفجر احيانا على بعض ضفافه والذي – مع وجود احتقاناته المحلية – نميل الى نظرية المؤامرة حوله، النظرية التي لا يبدو البابا شنوده بعيدا عن الاقتناع بوجودها في تفسيره لصدامات الجيش مع الاقباط. اذاً، مع ان مصر ولاّدة تطرف احيانا، غير ان جاذبية تاريخ نخبها المعاصر هي في هذا النزوع السلمي العميق الذي جعلها تقدم مشهدا مدهشا وفريدا في التاريخ الحديث من حيث قوته الشكلية لم يأخذ بعد ما يستحقه من التقييم “الفني” الابداعي: رئيس الدولة السابق وحاكم احدى اكثر الدول مركزية في العالم محمولا على سرير طبي وفي وضع متمدد كليا على ظهره ومغطى بالكامل ما عدا رأسه الى داخل قفص المحكمة المحتشدة والمفتوحة على كاميرات التلفزيون.

اي روحية سلمية عميقة وصارمة في آن معا يحملها هذا المشهد الديموقراطي المصري و الذي سيُسجل رصيده لهذه الثقافة النخبوية المصرية التي صنعت الثورة؟

هذا السؤال سيرغمني على “ختم” المقال بسؤال مقلق اطرحه للتفكير ولا أدعي انني املك اجابة عليه هو: هل ثقافة نخب الهلال الخصيب والعراق اكثر عنفا من ثقافة النخب المصرية وهل نسبة الاستبداد تعكس بالضرورة نسبة العنف؟!

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى