صفحات الرأي

شياطين الدين وملائكة العسكر/ أحمد بيضون

 

تقلّبت بقاع كثيرة من العالم الإسلاميّ، لا سيّما منها المنطقة العربيّة، ولأكثر من نصف قرن، بين المؤسّسة العسكريّة والإسلام السياسيّ اللذين تمكّنا واستوليا على مستويات الوجود الاجتماعيّ الكثيرة. فالسلطات السياسيّة وأجهزتها الأمنيّة كانت مُستَقَرّ الجيوش من دون أن تُعدم هذه الأخيرةُ القوّةَ في دواخل المجتمعات وتضاعيفها. هكذا أتيحت للعسكريّ جمال عبد الناصر قوّة شعبيّة جبّارة، وحظي عسكريّ كعبد الكريم قاسم بقوّة ملحوظة، وهو ما تمتّع به أيضاً صدّام حسين الذي أقام أحد أعتى الأنظمة الأمنيّة من دون أن يصدر هو نفسه عن صفوف الجيش والأمن.

وفي المقابل، استقرّ الإسلام السياسيّ في دواخل المجتمعات وفي ثناياها، إلاّ أنّه لم يكن مطلق القطيعة مع السلطة السياسيّة. فإلى النظام السعوديّ الذي ينيط بالفقيه مباركة الحاكم، والنظام الأردنيّ الذي درج على توزير واحد من الإخوان المسلمين بين فينة وأخرى، استولى إسلاميّو إيران على سلطتها في 1979، وبعد عشر سنوات وقع السودان في قبضة الإسلاميّين، ثمّ وقع قطاع غزّة الفلسطينيّ، في 2007، في القبضة نفسها. أمّا تركيّا فتعيش، منذ 2003، تجربة يصفها كثيرون بلقاح إسلاميّ-ديمقراطيّ، بعد عقود من “إشراف العسكر على الديمقراطيّة”. وإذا وسّعنا البيكار قليلاً، استرجعنا حكم “المجاهدين” ثمّ “الطالبان” لأفغانستان، والصيغة التي كان قد أسّسها الجنرال الباكستانيّ ضياء الحقّ جامعاً في يديه سيفي الجيش والإسلام.

وهي حالات شديدة التفاوت يكاد لا يجمع بين واحدتها والأخرى إلاّ ما قلّ من العوامل والأسباب، من غير أن يحول تصارع تيّاريها الغالب دون تقاطعهما العابر هنا وهناك.

بيد أنّنا اليوم، ولا سيّما في المشرق العربيّ، نعيش انكشافاً باهراً لهذين الطرفين اللذين تعاقبا حكماً ونفوذاً، وأحياناً تشاركا. وهذا ما يضعنا أمام أزمة في المعنى والتعريف، يطيب للبعض وصفها بالأزمة الحضاريّة الشاملة.

والحال أنّ الإثنين، الجيش والإسلام السياسيّ، يستعرضان اليوم إفلاساً بات يتعدّى تعابيرهما السياسيّة إلى مرتكزات دعوتيهما والتبريرات والذرائع العميقة التي تستندان إليها.

ففي سرعة قياسية، ومن ركام الوضعين العراقيّ والسوريّ، شبّت حركة “داعش” التي نجحت في احتلال الموصل، ثانية المدن العراقيّة، وفي إطاحة الحدود بين دولتي سوريّا والعراق. ومع “داعش” والطريقة المتوحّشة والبدائيّة التي تسوس بها مناطقها، انتشر عفن التكفير والقتل صلباً وإعلان الخلافة والعدوان الصريح على سائر المختلفين.

وتنمو هذه الظاهرات البشعة فيما يسطع النزاع المذهبيّ داخل الإسلام، فيتحوّل العراق خصوصاً، ولكنْ أيضاً سوريّا ولبنان والخليج واليمن، خطوط تماسّ حادّ بين السنّة والشيعة. وإذ يتخلّى حاكم كنوري المالكي، صدرَ عن حزب إسلاميّ كـ“الدعوة”، عن آخر مظاهر الحياد حيال النزاع الأهليّ في بلده، تتكفّل مشاركة “حزب الله” في الصراع السوريّ تفريغ “المقاومة الإسلاميّة” المفترضة من كلّ معنى، ما خلا إعادة تدويرها في النزاع الطائفيّ المفتوح.

وانحطاطٌ كهذا على مستوى المنطقة، أجّجه بالتأكيد قمع استثنائيّ مارسته أنظمة أمنيّة كالنظام السوريّ، كما رفدته أعمال الاقتلاع والتهجير المليونيّ للسكّان، في العراق ثمّ في سوريّا. إلاّ أنّه أيضاً يتغذّى على عشرات السنين من الضخّ التربويّ والإعلاميّ الذي هبّ من الخليج على سائر المنطقة، ناشراً أسوأ صور الإسلام وأردأ تأويلاته، ومستفيداً من العوائد النفطيّة الضخمة لتعميم تلك الجهالات الظافرة.

هكذا بتنا نرى، لا سيّما على صفحات وسائط التواصل الاجتماعيّ، أصواتاً شجاعة متزايدة تسأل: ما هو الإسلام؟ فإذا كان الأخير “براء” من إسلامات السعوديّة وإيران وداعش والنصرة وحزب الله، وإذا كانت هذه الإسلامات كلّها تطبيقاً سيّئاً للإسلام، فأين نعثر في الواقع على هذا الجوهر البالغ التعالي؟

وربّما صحّ القول إنّ داعش إنّما ترمز، في صعودها الراهن، إلى الانحطاط العميق الذي يضرب الأفكار المعتقديّة حين تفقد آخر صلة تصلها بالواقع. وقد سبق أن طُرحت هذه المسألة على الشيوعيّة حين انهارت دولها السوفياتيّة الكثيرة، من لاتفيا إلى اليمن، فيما كانت الصين “الشيوعيّة” تختار الاقتصاد الرأسماليّ، فتساءل المتسائلون: لكنْ ما هي الشيوعيّة حين تفشل كلّ تطبيقاتها هذه؟

وإذا كانت المأساة هنا تتجسّد على هيئة شياطين طالعة من تاريخ سحيق متوهّم، فإنّ المأساة على جبهة العسكر تتكشّف عن ملائكة كاذبين يعدون بالخلاص الجميل. والمأساتان، في آخر المطاف، وجهان لانحطاط واحد.

ففي ميلودراميّة مبتذلة قدّم عبد الفتّاح السيسي نفسه مخلّصاً لمصر والمصريّين، مستفيداً من الطلب على الاستقرار ومن حماقات الحكم الإخوانيّ، ولكنْ أيضاً من ضعف الحساسيّة الديمقراطيّة التي أبدتها مصر شعباً ونُخباً. ومن على كرسيّ المرض والإقعاد، جُدّد لعبد العزيز بوتفليقة حاكماً على الجزائر، إذ “لا يصلح آخر هذه الأمّة إلاّ بما صلح بها أوّلها”، علماً بأنّ الجزائر تبحث، منذ استقلالها، عن هذا “الصلاح”. وتجري اليوم في ليبيا محاولة محمومة لتأليف بديل عسكريّ يرمز إليه خليفة حفتر الذي سبق أن قاد القوّات الليبيّة في غزوها تشاد، ولم ينشقّ عن القذّافي إلاّ في أواخر الثمانينات.

ولئن نمّ هذا الاستنجاد بخزائن الماضي عن انسداد في أفق المستقبل، بقي أنّ نقد الجيوش يغدو، هو الآخر، أكثر جذريّة وأشدّ ميلاً إلى الانسحاب من الفولكلوريّات الوطنيّة والقوميّة المعهودة.

فـ“هيبة الدولة” و“مصيريّة المعركة” وسوى ذلك من عناوين الصعود والتمكّن العسكريّين فقدت مناعتها السابقة، أو جزءاً غير يسير منها. وحتّى الذين غفروا للجيوش العربيّة هزائمها أمام إسرائيل لم يعد الكثيرون منهم مستعدّين لتكرار التجربة وتحمّل استفحال الجيوش والأجهزة بذريعة المجابهة مع إسرائيل. فإذا كان وقوف “الجيش العربيّ السوريّ الباسل” إلى جانب بشّار الأسد في قتل شعبه، قد نزع آخر بسالة مزعومة عنه، فإنّ معركة الموصل حوّلت جيش العراق موضوعاً للتفكّه والتندّر، بقدر ما سلّطت الضوء على ما ينخره من فساد وما يُضعف ولاءه للوطنيّة العراقيّة المفترضة. أمّا السيسي فاستطاع، بتولّيه الرئاسة وإجراءاته العقابيّة وخطواته الاعتذاريّة عن ثورة يناير، أنّ يبدّد الصورة الورديّة التي أعيد رسمها للجيش بنتيجة وقوفه “مع الثورة المصريّة، ضدّ حكم مبارك”. وقبل هذا وذاك، كانت الحرب الأهليّة الجزائريّة في التسعينات قد باشرت نزع السحر والقدسيّة عن الجيش الجزائريّ بوصفه وريث “المجاهدين” الذين أنجبوا الاستقلال الأسطوريّ. فحين جُدّدت الرئاسة لبوتفليقة بدا الأمر إيذاناً ببلوغ استهلاك الجيش ودوره طور الشيخوخة التي لا صبا بعدها.

ولمّا كان الإسلام والجيش، وبمقادير تختلف بين منظومة إيديولوجيّة وأخرى، مكوِّنين أساسيّين وثابتين في ثقافة شعبيّة عربيّة جمعت لعقود بين الحاكم والمحكوم، وقالت بها الجماعات والفئات والطبقات جميعاً، فإنّ تصدّعهما يشي بدخول طور من الصقيع الإيديولوجيّ الذي يطرح على الأفكار أسئلة لم يُطرح إلاّ قليلها من قبل. ففي الحدّ الأدنى، يجوز الافتراض بأنّ تغريبة “الحداثة والأصالة” و“المعاصرة والتراث” التي شغلت مثقّفينا طويلاً سوف تخلي المكان لاشتغال على الواقع أوثق صلة به وبتراكيبه وانشقاقاته الفعليّة.

والحال أنّ سيرورة التفكّك هذه تجد ما يواكبها ويغذّيها في تفكّك آخر قد لا نتعرّف بعده، وبعد استقراره على حال، إلى عالمنا الذي نعرفه. فقد دُمج بعض العراق ببعض سوريّا، وضُمّت كركوك إلى منطقة الحكم الذاتيّ لأكراد العراق، وهما حدثان ضخمان كمّلا الوجهة التي بدأت مع الانفصال السودانيّ، وقد تلحقهما تطوّرات مشابهة يحبل بها الوضعان الليبيّ واليمنيّ وربّما أوضاع عربيّة أخرى.

فكأنّنا، والحال هذه، نعود إلى نقطةٍ صفرٍ كالتي عرفناها مع انهيار السلطنة العثمانيّة وتعرّضنا للعالم الحديث، لكنْ من دون أن تتوفّر لنا اليوم الأطراف الدوليّة المستعدّة لأن تلمّ شمل المنطقة. وهذا جميعاً ما يعيد إلى الواجهة مسألة المسؤوليّة، مسؤوليّتنا، عمّا يحلّ ببلداننا وشعوبنا، ومن ثمّ قدرتنا على استنباط حلول واقتراحات تملك القدرة على أن تصير واقعاً ووقائع. فسقوط الماضي، بمعول الثورات، فتح للمواضي البائدة والمكبوتة أبواباً تتكفّل سدّ باب المستقبل. وحتّى إشعار آخر، يجوز القول إنّ القوى القادرة على الاضطلاع بتلك المهمّات لا تزال أصغر من أن تُرى بالعين المجرّدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى