صفحات الثقافة

شيخوخة الثقافات


فخري صالح

ما يحفظ الثقافات ويجدد حضورها ويمكنها من الاستمرار هو تمتعها بالحيوية والقدرة على تجديد أسئلتها وتغيير نقاط تركيزها. من دون ذلك تشيخ الثقافات وربما تذبل وتموت وتخرج من التاريخ. هذا ما حصل لثقافات ازدهرت في مرحلة من الزمان وكانت تحتل الصدارة في العالم كله، لكنها بعدما فقدت الرغبة في التجدد والبحث عن أسئلة وأجوبة جديدة لم تعد قادرة على الاستمرار والتحول فاعتراها الذبول وما عادت تحتل بؤرة الاهتمام خصوصاً خارج حدودها اللغوية.

الثقافة الغربية استطاعت الاستمرار في جذب الاهتمام واحتلال مكانة مركزية في ثقافات العالم، لا بسبب القوة وقدرة الامبراطوريات الغربية على الامتداد خارج حدودها فقط بل بسبب تجدد أسئلتها وقدرتها على تغيير مواضع ارتكاز انشغالاتها الأساسية. إن ما جعلها تستمر في شغل المثقفين في أجزاء أخرى من هذا العالم، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، هو حيويتها وطاقتها المتجددتان، والنقاش المستمر داخلها، وعدم اطمئنان أجيال من المثقفين الغربيين إلى صحة الأجوبة التي توصل إليها من سبقوهم في سلسلة الثقافة الغربية. يدل على هذه الحيوية حلول عصر النهضة ثم عصر التنوير ثم الحداثة، فما بعد الحداثة؛ وفي الآداب والفنون تتابعت تيارات الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة والرومانسية فالحداثة وما بعد الحداثة، في نوع من تقليب أسئلة الثقافة الغربية على وجوهها للوصول إلى ما يشغل الثقافة الغربية في لحظاتها التاريخية المتتابعة. ذلك ما حفظ للثقافة الغربية حضورها وتأثيرها الكبير في الثقافات الأخرى.

أما في ثقافتنا العربية فقد شهدنا صعوداً وحيوية مدهشة في أزمنة صعود الحضارة العربية الإسلامية. لكن هذه الثقافة، التي أثرت شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، افتقدت في بعض مراحلها الرغبة في التجدد وافتقدت الأسئلة الأساسية التي تحفظ للثقافات حيويتها وحضورها، لأسباب تتصل بالضعف الحضاري وتفكك الإمبراطورية ونشوء الدويلات على أثر ذلك التفكك. ولم يتجدد دم هذه الثقافة إلا بعدما حل عصر النهضة العربية الحديثة في زمان الاستعمار والاحتكاك بالغرب واطلاع مفكري النهضة على الثقافة الغربية ومحاولتهم الإجابة عن أسئلة الأصالة والمعاصرة. في تلك المرحلة استطاعت الثقافة العربية أن تجدد نفسها. وهو الأمر نفسه الذي حصل في مرحلة الدولة القومية عندما حاول المثقفون العرب الإجابة عن أسئلة الحداثة والدخول في الزمان الحديث. وقد انعكس ذلك البحث على الأشكال الأدبية والفنية، والرؤى الفكرية والنظرية، وعلى طرق التفكير، في سلسلة من عمليات التجديد والتحولات التي أصابت جسد الثقافة العربية.

لكن الثقافة العربية تائهة الآن، ليست لديها أسئلة مركزية، وهي مترددة لا نقاط ارتكاز لديها، الجدال في داخلها شبه مفقود، ومثقفوها كل منهم يعمل وحده. لا أقول إنه ليس في الثقافة العربية في اللحظة الراهنة إنجاز، سواء على صعيد الأفراد أو حتى المؤسسات، ولكنّ هناك ضموراً على مستوى الأسئلة والرغبة في التجدد والسعي إلى تجديد الأشكال والأفكار التي لا تكون نهضة ثقافية إلا بها. المشكلة هي في الحيوية المفقودة وعدم التركيز على الحوار والجدال. كأن الثقافة العربية بركة آسنة لا حركة فيها ولا تيارات جديدة. إن أي كتاب يصدر، مهما كانت قيمته ومهما كانت الأسئلة التي يطرحها مثيرة للاهتمام والجدل، لا يجعل المثقفين والقراء يحركون ساكناً.

لا جدال في الحياة الثقافية العربية، لا حوار، لا اعتراف بمنجز الآخرين. كأننا ذوات مغلقة على أنفسنا، لا رغبة لدينا في التواصل أو الاعتراف.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى