صفحات الثقافة

صفحات من المفكرة الريفية/ أمين نخلة

الحبر، ويحك، نور أسود وكنز سائل! وهو عطر الدفاتر، وشبَع الفراغ، وريُّ البياض، وغيث الورق. بل هو نقش الهوى، ولون العقول في القرطاس، فما لك تخشى على أطراف أصابعك أن تشاب بسواده؟
وليس من شيء هو ألذُّ في الشم، ولا أضوع، ولا أقرب الى مرتبة التشهّي، من حبر جديد، في كتاب جديد. تمرُّ يدك عليه، فكأنك تمسُّ حركات الخواطر برؤوس أناملك…بل انَّ هذا النسيم، الذي تؤديه أفواه الدَّويات، ﻷطيب من فم الحبيب، ومن نفَسه، ومن «زمان الوصل باﻷندلس».
وخير المداد: الأَسود، فهو خبز الجميع! أمَّا ما كان منه أحمر باحراً، أو أصفر وارساً، أو أَخضر حانئاً، فبحسبك، من الكلفة فيه، معرفة هذه النعوت التي له! وخير ما يُغطُّ في حُقِ الذَّوق ومدهنة الرأي: قصبة نبتت في بسيط أفيح، وعاشت على طلاقة، وضياء، وماء، تلعب بين الريح بلا مُعارِض، ثمَّ بُريت على هواك، وشقَّت على خطَّتك في تحريك القلم.
وبعدُ، فيا عجباً لهذه الدَّواة، في هذه الزاوية من الريف، كيف نُسيت بلا ختم! أفلا يخشى الذي ترك هذا القمقم السحريَّ بلا سداد أن تهيج رائحته، وتطير إلى أنوف الفلَّاحين؟
٭ ٭ ٭
الدّرب في الرّيف غير الدّرب في المدينة! فهي التي تنهض من وهدة الى ربوة، وتدور من خلف شجرة، وتعرّج على عين ماء، وتتوقف في ظلِّ حائط، وتنطرح على باب بيت ـ تمشي على هواها، والدرب في المدينة تمشي في خطٍّ مستقيم.
والدّرب في الرّيف بيضاء، تتلوّى في خضرة، وهي في المدينة سوداء، فاحمة، يعوزها الشجر، على الجانبين، لتأنس بعض اﻷُنس، فوق ذلك السواد الطويل!
وعلى دروب الرّيف تعرف عابر السبيل من وقع خطوه، وعلى رصفات الشوارع تتشابه اﻷقدام، جميعا، في الحركة.
وكلُّ درب في الرّيف قديم. فيقال، عندنا: فلان حوّل دربه عنّا ـ يعنون أنّه غيَّر عهده، أو يقولون: فلان حوَّل الدّرب الى جهة كذا -يعنون أنه غيَّر معالم الحدّ، وخرج عن القانون… لذلك تجد الدُّروب الريفية محطَّات للتذكُّر: فها هنا زُفَّت عروس، وهناك خرجوا بنعش، وهنالك وقفوا، ولوحوا بالمناديل.
٭ ٭ ٭
في الريف ظَّلان يحلو لظهر اﻷرض حملهما: ظلّ الشجرة، وظلّ الفلاح! يدلّ اﻷوّل على أنّ التربة جيدة، ويدلّ اﻵخر على أنها تعطي، فلا ينبغي أن تُترك. فكأنّ ظلَّ الشجرة وفاء من اﻷرض للفلاح، وكأنّ ظلّ الفلاح وفاء منه للأَرض!
والشجرة في الغابة كالرجل في الشارع: لها ألف نظير. فأمَّا حين تنفرد في حقل، أَو على رابية، أَو عند منعطف طريق، فهي ملعب الريح وملتقى الطير، ومائدته، ومرقص مناقيره بين الورق والثمر.
فيا خيمة البرَكة: هنيئاً لنا بانفرادك!
٭ ٭ ٭
تقول للرجل من أهل الريف: كيف بيتك؟ فيقول: علّية تنهض بين أرياح الأربع! فتعجب له، وهو المقيم بذلك المسكن الوادع، لا يأكل الطيب، ولا يلبس الفاخر، ولا يجلس على الوطيّ؛ كيف أنه لا يتجافى من مشقة، ولا يتأبه من قناعة!
إن الديار، وبقاع المثوى، وتربة الصبا، هي التي تحضن الأذواق والأنساب والطبائع، فضلاً عن التاريخ المحلي، الذي يُحفظ في نشيج ساقية أكثر مما يُصان في جوف كتاب. ففي هذه المروج الريفية، وكأنها من لجج؛ وفي هذه الأشجار، وكأنها من زمرد؛ يعيش واحدهم على الحضر وطول اللبث تعلقاً بقبر دارس، مثلاً؛ لا بشجرة غيناء، تقلق في الريح.
٭ ٭ ٭
سقى الله المراعي والحشيش، وأيامنا في الجبل بالحمر الفارهة والبراذين الخفيفة، وزماننا بإرخاء فضل الرسن، فدابّة اليوم ترعى في لحظة، وتسبع في لحظة… وقفة عند مطفرة البنزين، ثم تنطلق بك، لا تعقرها برذعة، ولا يمضها سفر في نهار أو ليل، بينما انت منها على ثنية الوداع إذا بك في ديار الأحبة على أمان الله! فللّه زمن الميكانيك! لله هذا الزمن! كرة الأرض صغر حجمها، والجهات دنت، والمسافات قربت، وتماوج الناس بعضهم ببعض إلفة. وكيف الفرار من هذا التواصل الجديد؟ كيف لمن يريد أن لا يأتلف ولا ينغمس ولا يصادم الأكتاف أن ينكمش عن الناس ويأوي إلى معاهد نفسه؟
يُقال في النبات: برّي، لخلاف البستاني؛ ويُقال في الحيوان، برّي، لخلاف الأهلي؛ فيا ذوي الذوق البرّي من الناس: أين تراكم تعتزلون اليوم؟
٭ ٭ ٭
في كفة الغروب أمس، بعد أن مال ميزان النهار، وغشى السواد الشفق، كنت أسألهم ألا يوقدوا المصباح في وجه الليل. بل ندع العتمة تتساقط على مهل وتتلبد، حتى إذا غمر السواد الجهات، غرق عبث الحياة في الليل، وسلم الأمر. هل مطلبي من الحياة غير هذا؟
ثم أشرف من النافذة، فإذا المدينة قطعة واحدة في جوف الليل. خفي الشتات، وتألفت الدقائق، ومُسح على الفضول. فلست أرى ما يتعالى في المشهد الأسود المنطرح إلا ذؤابات الأبنية تشمخ، وكأن بعضها في رأي العين يمشي إلى بعض، فتتلاقى وتتساند بعد البياض الفاني، والعبث المولى!
وهذا قمر الليل، يقهقه بلا صوت. ولقد جنح إلى المنحدر الأخر، كأنما ينزلق من هنالك، فتدفق الفضة دفقا، غير العهد بها في مقاطر الصحو الأزرق، حين تنقط ولا تبلّ الأرض!
والليل فهرس البياض المنطفئ، ترى فيه العناوين، وعفاء على الحروف الضئال، والتنقيط المنمنم في كتاب النهار. فالعمود البعيد القائم الساعة ناحية الجنوب، ولا أتبين ما حواليه، عنوان طويل لبناية المسجد، ولقد خفيت المقالة وسلم العنوان.
٭ ٭ ٭
فطلب البلاغ الحر، وقلب النسق في الصنيع الفني، وإبدال ألوانه وصبه على شكيلة الحياة القائمة كانت في وكد الأساتذة السالفين جيلا تلو جيل. وهكذا يقال في شيوع الخاطر من المستهل إلى المقطع، وفي تماسك الحسن الذي لا يبذل للنور نفسه، وفي الميسم المطبوع والنفس الخاص، وفي المعنى الذي يسكن المبنى ولا يمد ساقيه على بحبوحة اللفظ – ذلك كله كان من أغراض الأساطير فيهم، يوفقون إليه حينا وينكصون عنه حينا. فليس الأدب ابن يومه، ما خطرت مطالب الحياة منه على بال أحد في الزمن لتقوم الضجة علينا، ويتنادوا بالويل بعد أن أردنا الأدب حياة وقوة وخفق جناح. . وأطفأنا الشمس بأكفنا!!!
وعندي أن الأساتذة الموتى الذين سلكوا السبيل قبلنا – وكأنهم مضوا ليفسحوا لنا المواضع – من حقهم أن يطرقوا خواطرنا، وان يرشفوا قليلا من الحياة في ألفاظنا. فهم، رحمهم الله، لم يبق لهم من سبيل إلى الضياء إلا هذه الحروف التي تشع فيها خواطرنا. هذا حبل الأبد هيهات أن ينقطع. والأدب بشرى قبل كل شيء، فليس في استطاعة أحد أن يقطع الحبل! والأدب أخو الحياة لا قديم فيه ولا جديد، بل هو وله الجمال وكدّ على الحق، وما عداهما فهراء!
مجلة «الأديب»، حزيران (يونيو) 1942

أمير النثر العربي الحديث
البعض اعتبره نسخة عربية من الفرنسي ألفونس دودييه، في عمله البديع «المفكرة الريفية» على نحو خاص؛ والبعض الآخر رأى فيه امتداداً، نثرياً، لقصائد النثر التي كتبها شارل بودلير في توصيف سأم باريس وزحف الحداثة إلى النفوس؛ والبعض الثالث اكتفى بردّ الشاعر والناثر اللبناني (1901 ـ 1976) إلى أسلافه كبار الناصرين العرب، من أمثال الجاحظ وعبد الله بن المقفع وعبد الحميد الكاتب، فأطلق عليه تسمية «أمير النثر العربي الحديث».
لكن هذا الناثر الكبير كان شاعراً أيضاً، يضاهي وربما يتفوق على أقران جيله (وأولهم سعيد عقل)، وكان لغوياً ومؤرخاً وباحثاً وسياسياً، وكان سليل بيت أدبي عريق مثّله والده الشاعر رشيد نخلة. (شعره كما في قوله: «إنّ الظلام المرتمي لجةً/ أعمق غوراً من ضمير الفناء») كان تذكرة بأفضل تقاليد البرناسيين الفرنسيين؛ ولكنه، أيضاً، كان يستأنف تراث أبي تمام والبحتري والمتنبي، كلّ على منواله. وكم كان نزار قباني سعيداً باقتفاء دروب هذا الشاعر الحسّي، وكم نتذكّر شاعر «طفولة نهد» حين نقرأ نخلة: «أنا لا أصدّق أن هذا/ الأحمر المشقوق فمْ/ بل وردة مبتلة/ حمراء، من لحم، ودم/ أكمامها شفتان، خذْ روحي، وعللني بشَمْ»!.
أعماله الأبرز: «المفكرة الريفية»، «دفتر الغزل»، «تحت قناطر أرسطو»، «ذات العماد»، «الديوان الجديد»، «كتاب الدقائق»، و»عصر الطاء».
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى