صفحات العالم

صقر الجبل الكردي/ عصام الخفاجي

 

 

خلال أسبوع واحد تحوّلتُ في أعين معلّقين أكراد من «صديق وفيّ للشعب الكردي»، مدافع عن حقه في تقرير مصيره ومؤيد لقيام دولة كردستان المستقلة، «مفكّر موضوعي مرموق» و «محلّل دقيق لأوضاع كردستان والعراق» إلى «عربي يدس السم في العسل»، «شوفيني يريد إبقاء كردستان خاضعة تحت هيمنتهم»، و «متظاهر بالحياد وهو يفرغ حقده على كردستان». وتحوّلت في أعين عراقيين عرب من «مدافع عن المخططات الأميركية لتقسيم العراق» إلى «ديموقراطي شجاع».

وبين هذا وذاك تعرّض موقع إلكتروني ينشر مقالاتي، وله شعبية بين الأكراد، إلى التخريب بعد أن انهالت الشتائم فيه عليّ أنا الذي «أفتخر بجرائم صدام حسين ضد الأكراد»، وعلى المشرف الكردي على الموقع الذي «جلب الخزي على نفسه» و «كشف عن نواياه الشريرة» بنشره مقالات تعرّض بشعبه.

والقضية، باختصار، تعود إلى نشري مقالين متتاليين رأيت في الأول منهما أن بقاء كردستان إقليماً تابعاً للعراق، وإن شكلياً، بات أمراً مدمّراً للعلاقة بين الشعبين الكردي والعراقي وأن من مصلحتهما التعجيل في فتح مفاوضات لا تدور حول حل مشاكل بين إقليم وسلطة اتّحادية يخضع لها، بل بين العراق وبين دولة كردستان الجارة التي تمنيت أن يقابل العراقيون ولادتها لا بالقبول على مضض بل بالترحاب. وأثرت في المقال الثاني أسئلة افترضت أن من حق المواطن الكردي أن يطرحها وهو يشرع في التصويت على الاستفتاء على استقلال كردستان بعد أسابيع قليلة، خالصاً إلى استنتاج مفاده بأنني لو كنت كردياً لصوّتّ على سؤال هل تؤيد استقلال كردستان بـ «لا».

لا تثير الفجوة الهائلة التي تفصل العراقيين عن الأكراد الدهشة، فهي باتت في عداد البدهيات، لكنها تكشف أن العصبيات القومية لا تزال، حتى في ظل طغيان العصبيات الطائفية والدينية، ذات قدرة هائلة على استحضار أسوأ ما في ثقافتنا السائدة من اختزال للفرد إلى جزء من قطيع يُسلخ عنه عقله وقدرته وتُعزى آراؤه لا إلى اجتهاداته بل إلى قطيعه القومي أو الطائفي، فلا يعود ثمة نقاش بين أفراد بل عراك بين أقوام، ولا يعود ثمة تأمل في مضمون الفكرة بل تساؤل عن نوايا مطلقها. وسؤال «لمصلحة من؟» يجسّد الخصي الذي أصاب الإبداع والاجتهاد في منطقتنا، ويفسّر أسباب العجز عن إيجاد حلول لكوارثها المتزايدة. ولعلّي أنتجت، من دون قصد، حالة مختبرية لقدرة العصبية الغريزية على انتقاء ما يتساوق مع ميولها فتلتقط العصبية الكردية فكرة الاستقلال الضروري لكردستان فيما تلتقط العصبية العربية حجج الإجابة الرافضة له.

لن أكرر الحجج، بل أحاول أن أبيّن أن تصويت الكردي بـ «نعم» على الاستفتاء في هذا التوقيت وبهذه التخريجة سيكون تصويتاً بـ «نعم» لإطلاق يد السيد مسعود البارزاني للقضاء على تجربة أملَ كثيرون بأن ترسّخ نظاماً ديموقراطياً في كردستان و «نعم» لتكريسه ديكتاتوراً يؤسس لدولة لا تحمل من الشكل الجمهوري للحكم غير الاسم كما كوريا الشمالية وسورية.

من الصعب الموافقة على تفسير القيادة الكردية أو تبريرها للتوقيت الدرامي للاستفتاء كضرورة لبدء المفاوضات مع بغداد وهي تحمل تفويضاً شعبياً مطالباً بالاستقلال، لأن كل سياسيي بغداد بلا استثناء يدركون بأن غالبية الكرد تطالب به. وهذا هو السبب الرئيس الذي يوجب تأييد قيام جمهورية كردستان المستقلة. والأقرب إلى الدقة أن بارزاني عازم على التفاوض وهو يحمل تفويضاً من الشعب بوصفه قائده الأوحد في المعركة الفاصلة لإنجاز التحرر الوطني. هي محاولة لفرض شرعية قيادته للإقليم/ الدولة التي تمر بأضعف حالاتها. فالرجل قرّر تمديد فترة حكمه بعد أن استنفد كل الذرائع التي تمكّنه من ذلك. حكم كردستان منذ 2003، وكان قبلها يتنازع السلطة مع السيد جلال الطالباني. نجح في إقناع البرلمان بأن يعتبر أن فترة الدورتين القصويين للرئاسة تبدأ منذ إقرار الدستور. أنهى الدورتين فأقنع الأحزاب السياسية بالتمديد له عامين بسبب الظروف الاستثنائية وما أكثرها حين يستمتع القائد بالعرش. انتهت السنتان، فجاء «داعش» بظرف استثنائي قرر بسببه التمديد لنفسه من دون الرجوع إلى البرلمان هذه المرة لأنه قرر تعطيله قبل سنتين. وها إن كردستان قد تحررت من «داعش» ويوشك العراق أن يتحرر منه.

ولأنه واحد من حكام منطقتنا، لم تثر كل تلك الإجراءات سخطاً واسعاً في أوساط جمهرة الكرد التي تطحنها الأزمات الاقتصادية والتخويف من العدو الخارجي. فحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، غريمه سياسياً ونظيره في التمتع بسلطة العائلة، تنازل عن مطلبه بتولي أحد قادته منصب الرئيس واكتفى بتوريث ابن قائده التاريخي جلال الطالباني منصب نائب رئيس الوزراء. وبقيت حركة كوران (التغيير) تناطح وحدها وتطالب بعودة الحياة السياسية التعددية وبتأجيل الاستفتاء بوصفه قراراً يجب أن يتّخذه ممثلو الشعب المنتخبون، وهي التي لا تقل حماساً للاستقلال عن غيرها.

نحن، إذاً، أمام منظور للإصرار على إجراء الاستفتاء بعد شهر ومنظورين للدعوة إلى تأجيله: منظور سياسيي بغداد الآملين بأن يؤدي عامل الزمن والضغط الإقليمي والدولي وتقديم التنازلات للإقليم إلى تمييع المطالبة بالاستقلال وركنه جانباً، ومنظور لا أوهام فيه بأن تتجاوز كردستان أزماتها السياسية الداخلية والاقتصادية التي أضيفت إليها الآن أزمتها الجدية في التعاطي مع العالم ودول الإقليم، بل ينطوي على محاولة للتنفيس عن اختناقات تقود كردستان إلى طريق مسدود وعلى مسعى لترصين موقع الأكراد في مفاوضات هي في واقعها معركة سياسية قد تتعسكر إن أصر بارزاني على قراره الإمبراطوري.

في مغامرته هذه، يراهن بارزاني وربما كان على حق، على إلهاب حماس الشعب القومي الذي سيسانده إن قرر سحق مؤسسات الحكم وتحويلها إلى منابر للحزب القائد. سيتكرّس زعيماً لا يأبه بالشكليات القانونية ولا بتنظيرات المثقفين التي ليس من شأنها إلا إضاعة الزمن في الثرثرة والنقاشات، فيما يريد الشعب قرارات حاسمة يتخّذها قائد حازم أعرف بمصالح شعبه من الشعب نفسه. وأكاد أجزم أن الخطوة اللاحقة لـ «نعم» ستكون الدعوة إلى انتخابات يحصل فيها حزب الرئيس على غالبية كبيرة في برلمان يقرر تحويل نظام الحكم في كردستان إلى نظام رئاسي يسحب السلطات من البرلمان ويضعها في يد الحاكم. وقد يستعيض القائد عن ذلك، وقد أغوته الاستفتاءات، باستفتاء آخر لـ «نعم» أخرى لنظام سياسي أكثر فردية. وستكون «الأخطار المحدقة بالوطن، والأعداء الذين يتربّصون بدولتنا الفتيّة» حجة أثيرة بالطبع. حكمة يعرفها كل ديكتاتور ناجح بالفطرة: عمّقْ الإحساس بالخطر الخارجي وستجد الجمهرة طوع بنانك.

وماذا إن اضطر بارزاني إلى التراجع عن قرار إجراء الاستفتاء في اللحظة الأخيرة، وهو أمر لا أستبعده إن صدقت الإشارات الأميركية عن إيقاف المساعدات للبيشمركة إن لم يتراجع؟ قد لا يتغير شيء، وقد يتغيّر كل شيء. قد يوجه بارزاني خطاباً إلى الشعب، وهو متهدّج الصوت، يشرح فيه الجهود التي بذلها من أجل حرية كردستان وصموده بوجه الضغوط والمؤامرات الداخلية والخارجية. وقد يذكّرهم بالعذابات التي تحمّلها الشعب الكردي وهو يكافح من أجل نيل حرّيته. وقد يعلن تنازله عن السلطة إن تأكد أن الكرد سيزحفون إلى قصره، كما زحف المصريون ليعيدوا عبد الناصر إلى السلطة إثر هزيمة 1967. عند ذاك سيعلن بارزاني: «خسرنا معركة ولم نخسر الحرب».

كرّست شغلي النظري طوال العقود الثلاثة الأخيرة لدراسة تكوّن الدول والأمم والهويات القومية، وأدرك تماماً الهياج المصاحب لتبلور تلك الهويات، بل ضرورته لسوء الحظ. وأعرف كيف يؤدي هذا الهياج إلى صعود الاستبداد وتعمّقه. وأدرك بالتالي أن كل ما كتبت وكتبه غيري لن يدفع الجمهرة الغالبة إلى التفكير العقلاني. يتوهّم من يقول إن الشعوب تتعلم من تجارب غيرها أو من التاريخ. ربما يصح هذا في حالة نخب من المثقفين، لكن البشر الذين يمرون بظروف تاريخية متشابهة ينزعون إلى التفكير والتصرف بطرق متشابهة. والشعب الكردي يعيش اليوم عرس خمسينات وستينات العرب في القرن الماضي: الأولوية المطلقة للتحرر الوطني، أما المشاكل الأخرى فستتولى قيادتنا حلّها.

ملاحظة ختامية: أستمع الآن إلى أغنية تقول «هلا يا صكر (صقر) الجبل». قبل 2003، كان العراقيون يستمعون إلى أغنية «هلا يا صكر البيدا» (صقر البيداء).

* كاتب عراقي

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى