صفحات الرأي

صناعة الخنوع


احمد برقاوي

شهد التاريخ أشكالاً متعددة من صناعة الخنوع. فمن شيمة القوة الساعية دوماً للهيمنة واستمرارها أن تستخدم كل السبل لإخضاع من يجب إخضاعهم خشية أن يتحولوا إلى قوة نافية. والسلطة العربية الراهنة لم تعدم وسيلة من الوسائل لإخضاع المجتمع ـ الشعب ـ الناس، الجماعات، الإنسان عموماً. لكن الإخضاع عبر القوة القمعية مرحلة وأساس للانتقال إلى صناعة الخنوع.

لقد تم الإخضاع السلطوي العربي للناس في جميع أنحاء الوطن العربي عبر تحويل أجهزة حماية الدولة وأفراد المجتمع إلى أجهزة قمع المجتمع. إذ لا تقوم فكرة الدولة وتتحقق إلا بتوافر: الجيش، جهاز الشرطة ـ الأمن، القضاء.

الجيش جهاز عسكري مسلح من شأنه أن يحمي حدود الوطن وثرواته وناسه من أي عدوان خارجي، أو من شأنه أن يعتدي على دولة أخرى لإخضاعها.

تأمل حال الجيوش العربية، فالفرق الأقوى في الجيش هي فرق الحرس الجمهوري والحرس الملكي والحرس الوطني والفرق المستقلة التابعة مباشرة للحاكم.

لو قلت لأوربي ان في البلدان العربية حرساً جمهورياً وملكياً وأميرياً لتبادر إلى ذهنه مجموعة صغيرة من الأفراد يحرسون رئيس الجمهورية أو مالك المملكة أو الأمير حين يذهب إلى هذا المكان أو ذاك خوفاً عليه من اعتداء ما. ولن يخطر على باله أبداً أن قوات الحرس الجمهوري والحرس الملكي والحرس الأميري هي العمود الفقري للجيش، هي التي تملك أحدث الأسلحة، وهي التي تضم النخبة، وهي المنتقاة بعناية شديدة، وأن ولاءها شبه مطلق للحاكم.

فالحاكم لا يأمن الجيش ولهذا فهو عبر قوات الحرس يحقق هدفين: إخافة الناس وإخضاعهم من جهة وإخافة الجيش وإخضاعه، لأن الجيش بالنسبة للحاكم كالناس. ولهذا ففرق الحرس الجمهوري والملكي والأميري ليست عملياً من الجيش. إنها الجيش الخاص الذي يحيط بالعاصمة من كل الجوانب، وكما قلنا بأحدث الأسلحة. من هنا نفهم لماذا كان الناس يعوّلون على الحرس الجمهوري العراقي في صد العدوان الأميركي. لأن هذه القوات هي قوات حماية النظام الحاكم، بل الحاكم.

يخلق الحرس الجمهوري والملكي مع الأيام لدى الشعب شعور فقدان الأمل بتغيير رأس النظام ينتقل الشعب من حال الخضوع للحاكم إلى حال الخنوع. إن الحاكم وقد تأكد من انتشار حال الخنوع يبدأ هو والمقربون منه في استباحة الوطن دون إحساس بأي خطر، ودون أي ذرة من الحياء الإنساني.

أما جهاز الشرطة فهو جهاز لفض النزاعات التي تقوم بين مواطني الدولة وحمل الناس على الخضوع للقانون إنه ليس جهاز إخضاع سياسياً. إنه جهاز تنظيم حياة.

هذا الجهاز تنظر إليه السلطة بنوع من الاستخفاف، لأنه جهاز ينفذ القانون العام، ولهذا فقد أقامت إلى جانبه أجهزة الأمن المتنوعة التي لا يخضع عملها لأي قانون.

فهي أجهزة تخطف وتسجن وتعذب وتقتل، هاجسها إخضاع الناس للسلطة وللسلطة فقط، ولأول مرة في التاريخ تثير كلمة «أمن» في نفس سامعها الخوف، فأمن النظام لا يستقيم إلا بإخافة الناس.

ينتقل جهاز الأمن من إخضاع الناس سياسياً وقمع أية حالة مناهضة للنظام وتحطيم المجتمع المدني إلى التدخل اليومي في حياة الناس فابتلع دور الشرطة أيضاً دون الخضوع لقوانين الشرطة متكئاً على ما يسمى بقانون الطوارئ.

إن الشعب وهو يواجه أداة قمع رهيبة وفاسدة بكل معنى الكلمة، ومستبيحة للمال العام وللمال الخاص، فاقدة أي إحساس بقيمة الناس وخالية من أي حياء إنساني يدخل شيئاً فشيئاً حال الخنوع، غير أن هذا الجهاز الفاقد للضمير الأخلاقي فقداناً مطلقاً لا يكتفي بوجود حال الخنوع بل يعمل على استمرارها عبر المبالغة الدائمة بالقمع وإخافة الناس يوميا.

تتحول محاكم أمن الدولة إلى غول رهيب أحكامه نافذة دون أي استئناف، فيزج القائلين «لا» وأي نوع من أنواع «اللا» في السجون، أملاً بإخضاع الناس وإفهامهم أن مصير من يقول «لا»، هو السجن، والسجن فقط من دون معرفة مصير الشخص داخل السجن، وهكذا يزرع الخوف في النفوس أن القضاة المغلوب على أمرهم هم يتحولون في بنية فاسدة إلى كائنات قليلة الحياء مرتشية وقد صاروا جزءاً من أجهزة الإخضاع، وأشاعوا حالة الخنوع.

تستريح سلطة الإخضاع والإذلال لانتشار الخنوع ونشر ثقافة الخوف، وفي المقابل يتنامى شعور الإحباط المجتمعي يوماً بعد يوم.

السلطة بغبائها العبقري لا تعي ـ وقد أعمتها القوة سعيدة بخنوع الناس ـ خطورة الإحباط وتطوره. فالإحباط المجتمعي الذي ولدته السلطة العربية متعدد الأشكال: إحباط سياسي، إحباط معاشي، إحباط اجتماعي، إحباط أخلاقي، يعبر عن كل هذه الأشكال من الإحباط بحالة نفسية جمعية «موت الأمل». وموت الأمل: أول مظاهر الإحباط أو أول حالة من حالاته موت الأمل يعني لا أمل في التغيير. إنه الاستسلام الممض.

إنه استسلام مترافق مع ولادة الشعور بالحقد، فالخنوع يولّد الكره الصامت والحب الكاذب تقيةً.

الحب الكاذب أشد مرارة من الكره الصامت، لأن صاحبه محمول على إظهار حب، من لسان قلبه كره.

حين يموت الإحساس بقيمة الوجود ينتقل الإحباط إلى حال اللامبالاة بما يجري في الوطن، اللامبالاة هنا نوع من الرفض، نوع من التمرد يقوم على فكرة خطيرة مفادها أننا ـ ونحن خارج الفعل – لسنا مسؤولين عما تعصف بالوطن من أخطار حتى ولو كانت خارجية. بل ان العدوان الخارجي للوطن لا يعود تأسيساً على وعي كهذا ـ عدواناً على الوطن بل هو عدوان على سلطة هي بحد ذاتها عدوان.

في لحظة اللامبالاة هذه، تزداد السلطة استباحة لحياة الناس، وغروراً وعنجهية في التعامل مع البشر، والكرامة المجروحة تضع الملح على الجرح الذي يتسع ويتسع ويزداد نزفاً، وما هي إلا لحظة حتى تنفجر الكرامة بـ«لا».. كفى. الحياة صارت مستحيلة. الموت الكريم خير من الحياة الذليلة، وتبدأ صرخة الثورة: «الشعب يريد إسقاط النظام».

إنها اللحظة الأجمل في تاريخ العرب منذ انهيار الدولة العربية الإسلامية وحتى الآن.

الشعب وقد تحرر من إحباطه استعاد الأمل وصار الكره علانياً والحب صادقاً.

([) كاتب وأكاديمي سوري

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى