محمد تركي الربيعومراجعات كتب

صناعة السلفية: الكولونيالية والقومية الإسلامية: الصراع مع الكوكا كولا/ محمد تركي الربيعو

 

 

يرى المؤرخ الأمريكي هنري لوزيير/جامعة نورث وسترن، في كتابه الثقيل «صناعة السلفية: الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين» والمترجم حديثا للعربية عن دار ابن النديم، ورافد، ترجمة أسامة عباس، وعمر بسيوني. أن المرء قد يظن غالبا أن الخطوة الأولى لتعريف السلفية هي أن نسأل «ما السلفية؟». غير أن هنري وبكل صراحة، يرى أن هذا السؤال هو سؤال خاطئ، إذا أردنا الوصول إلى جذور المشكلة. والسبب في ذلك بسيط، ذلك أن جميع الحجج تقريبا التي تُصاغ عادة للسؤال عن معنى السلفية متجذرة في مزاعم تاريخية. وهذه الحجج تميل بدورها إلى تحديد فهمنا للتاريخ الفكري الإسلامي وهيكلته. ويرى لوزيير أن السلفية ـ كيفما كان تعريفها ـ فهي غالبا أكثر من مجرد مصطلح وصفي. إذ أن هذا المصطلح بمثابة المنشور الذي يسمح للعلماء بتنظيم فوضى التاريخ؛ أي إقامة اتصالات أو انقطاعات بين الشخصيات التاريخية، وتقديم مخطط للتحقيب؛ فهي تجعل الماضي مقروءا.

ولعل هذا التفاعل الدقيق والمشكل بين البنى المفاهيمية والسرديات التاريخية هو ما يسعى هذا الكتاب إلى معالجته.

فبدلا من القبول بالسلفية كمعطى تاريخي واستخدام المصطلح كجهاز استدلالي لفهم الماضي. يقوم لوزيير بعكس ذلك. إذ يفحص العملية التاريخية التي صاغ من خلالها مختلف المفكرين مفهوم السلفية ودافعوا عنه، بالطرق التي نعتبرها الآن أمرا مفروغا منه.

ماسينيون مكتشفا مغارة السلفية الحديثة:

لم يستعمل العلماء – وفقا للوزيير- كلمة السلفي في الإشارة إلى أنفسهم أو غيرهم، إلا بمعنى الالتزام بالعقيدة الحنبلية، على الأقل في ما يتعلق بتأويل أسماء الله وصفاته. وهذا الموقف العقدي كان معروفا بمذهب السلف، وبعبارة أخرى، لم يستعمل المسلمون قبل القرن العشرين مصطلح السلفي للإشارة إلى تمسكهم بحركة أو توجه ديني متعدد الأوجه يسمى السلفية. فالسلفيون قبل القرن العشرين كانوا أنصار عقيدة معينة، وليس منهجا فقهيا معينا. كانت مصطلحات مذهب السلف والسلفي تستعمل بوظائف معجمية محددة في الأدبيات الدينية، بغض النظر عن المفاهيم المتغيرة للاعتقاد السلفي. فمنذ القرون الوسطى فصاعدا، أطلق علماء أهل السنة بصورة ثابتة، لقب السلفي على المسلمين، الذين تبنوا أو كانوا يعتقدون أنهم تبنوا شكلا من أشكال النقلية الحنبلية. واستمر هذا الاتجاه ملحوظا في أواخر القرن التاسع عشر.

ورغم أن كتاب نعمان الآلوسي كان له دور محوري في رد الاعتبار لابن تيمية وتصوراته الدينية في الأزمنة المعاصرة، لكنه من ناحية إعادة تعريف السلفية لم يقدم جديدا. وفي المصادر السنية الأخرى من العراق وسوريا وتحت الحكم العثماني، ومصر، ونجد؛ نجد أن المعاصرين للآلوسي استخدموا المصطلحات نفسها للغرض المحدد نفسه. وقد أوضح عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ت1869 العالم الوهابي البارز، أن السلفي هو المسلم الذي يثبت صفات الله ويتجنب أخطاء الأشاعرة ومن بينها التأويل. كما عرف العالم النجدي ابن مانع ت1965 نفسه بأنه «الحنبلي مذهبا والسلفي اعتقادا». ولعل ما يظهر من هذا العرض، هو أن المسلمين لم يكونوا قد تحدثوا بعد عن الإسلام السلفي الشامل. فلم يكن هذا معنى المصطلح عند العلماء في أواخر القرن التاسع عشر.

ولكن كيف أصبحت فكرة أو تعريف السلفية بوصفها حركة إصلاحية متعددة الأوجه، واسعة الانتشار في الأدبيات المتعلقة بالفكر الإسلامي؟ على الرغم من أن الكثيرين منهم لم يستخدموا هذه الكلمة البتة، أو لم يعرفوها على هذا النحو؛ فمثلا نجد أن رشيد رضا وجمال الدين القاسمي يعرفان مذهب السلفي كمصطلح مختص بمنهج عقدي، وأن السلفيين هم المسلمون السنة الذين تبنوا النقلية الحنبلية ورفضوا تأويل الصفات الإلهية. وكذلك كان هو الحال مع المستشرقين الذين واجهوا هذه المصطلحات في الكتب المطبوعة الصحافية. ففي عام 1890، كتب الباحث المجري غولدتسهير أن السلفي في القرون الوسطى كان «من يقلد أسلافه».

أما عن التساؤل السابق، فيقدم لوزيير في هذا الجانب ربما إجابة جديدة؛ إذ يرى أنه مع نهاية العقد الثاني من القرن الماضي، لم تعد كلمة السلفية تلبي حاجة الباحثين الغربيين. ففي عام 1917، أصدر عبد الفتاح قتلان (ت1931) مجلة لم تستمر طويلا بعنوان» المجلة السلفية». وكانت تلك المجلة من بين أشياء أخرى بمثابة وسيلة ترويجية للمؤسسة الأم، المكتبة السلفية التي أسسها مع نسيبه محيي الدين الخطيب ت 1969 في القاهرة في عام 1909. ورغم كونها لم تستمر سوى عامين، فقد لعبت تلك المجلة دورا مهما في نشر كلمة السلفي خارج البلاد. ففي باريس، وصل العدد الأول من المجلة إلى مكتب المجلة الرائدة مجلة «العالم الإسلامي» التي كان المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون أحد كتابها. لكن مهمة تحليل المجلة السلفية أُوكلِت إلى مستشرق آخر وهو لوسيان بوفا، الذي تأمل كثيرا عام 1918 في محتواها، لكنه لم يفهم عنوان المجلة باللغة العربية، ونظرا لأن عنوان المجلة كان مشتقا من الفعل العربي سلف فقد ترجمها ترجمة ساذجة إلى «المجلة الرجعية».

وقد تناول ماسينيون فور عودته إلى باريس عام 1919 مهمة تصحيح هذا الخطأ، لكن التفسيرات التي قدمها في مجلة «العالم الإسلامي» تبين أنها كانت مضللة وفقا للوزيير. فقد ذهب إلى أن السلفية كانت حركة فكرية ظهرت في أوائل القرن التاسع عشر في الهند في عهد السيد أحمد بريلوي ت1831. وكان صديق حسن خان ت1890 مؤسس حركة أهل الحديث، قد أعاد نشر أفكاره لاحقا، ومن هنا انتشرت الحركة السلفية من خلال جمال الدين الأفغاني والشيح محمد عبده، ورسخت نفسها في بغداد ودمشق والقاهرة وحتى في المغرب وجاوة. لكن ذلك لم يكن سوى ترقيع أو ارتجال مفاهيمي وفقا للوزيير. فلم ينقل ماسينيون التاريخ والمعنى الأصليين لمفهوم إسلامي قائم بالفعل، بل كان يؤسس لفئة جديدة، بوضع الحقائق التاريخية المتاحة إلى جانب الملاحظات لإنتاج أداة تحليلة تبدو ذات مصداقية. وهناك دليل واضح على ارتجال ماسينيون، وهو عدم حفاظه على تلك السردية الأصلية لوقت طويل. وعلى الرغم من أن الطريقة التي فكر بها ماسينيون ستظل مبهمة على الأرجح، فلا المصادر العامة ولا الخاصة تسمح لنا بمعرفة، وكيف ولماذا وصل إلى هذا الاستنتاج، فإن القرائن تشير إلى أن ظهور المجلة السلفية على المشهد الأوروبي كان بمثابة الحافز في تأسيسه لمصطلح السلفية كحركة إصلاح إسلامي حداثية.

وكان هنري لاوست أكثر الباحثين ممن تحمسوا وساهموا لاحقا في انتشار نظرية ماسينيون في الفرنسية، ومع وزن التقليد الأكاديمي أصبح من السهل على نحو متزايد تكرار هذه المعتقدات الخاطئة، كما لو كانت حقائق مؤكدة. وعندما اعتمد السير هاملتون غب على مقال لاوست في كتابه «الاتجاهات المعاصرة في الإسلام» المنشور عام 1947 انتقلت الأفكار نفسها لتغزو الدراسات الناطقة بالإنكليزية، ومن ثم وجدت طريقها إلى الدراسات الألمانية والهولندية والإسبانية والإيطالية، بل حتى الكتابات العربية من خلال كتاب الباحث المصري محمد البهي عن الفكر الإسلامي الحديث المنشور عام 1957 الذي ناقش فيه ما يسمى بالحركة السلفية لمحمد عبده ورشيد رضا اعتمادا على كتاب غب.

الكولونيالية في العالم الإسلامي:

وفي كل الأحوال فقد ظل مذهب السلف يرادف الاعتقاد، وكان يشير عادة إلى الاعتقاد الحنبلي الجديد. غير أن الجديد الذي سيؤثر لاحقا على مستقبل السلفية، هو ما يتعلق بقدوم الاستعمار للمنطقة، إذ أخذ الإصلاحيون المسلمون يتجاوزون موضوع التجديد الديني أو الاجتماعي السياسي، لصالح التركيز على فكرة الاستقلال عن القوى الاستعمارية. وهذا الأمر دفع الكثيرين منهم إلى تبني الخطاب العالمي للقومية وهي الأيديولوجية الوحدودية بامتياز.

مع ذلك لم يفضل جميع الإصلاحيين المسلمين النوع نفسه من الوحدة القومية. فالسلفيون النقاويون أسسوا خطابهم على قناعات إسلامية وأظهروا ميلا واضحا للقومية الإسلامية، التي تقوم على تثمين ثقافة إسلامية فريدية والارتباط الأساسي بالأمة ككل، مع التطلع إلى تحريرها سياسيا، بصرف النظر عن عدد الدول المستقلة التي قد تنشأ بسبب ذلك. أما بالنسبة للإصلاحيين الذين أصبحوا من أنصار السلفية الحداثية، خاصة المغاربة منهم، فقد كانوا عموما مهتمين بفكرة القومية القطرية التي تشترك فيها التجارب والخبرات التاريخية والثقافية في تشكيل الهوية الجماعية، داخل الدولة القومية طور التكوين. وقد سمح هذا التخيل للمجتمع بتطوير أشكال محلية أو وطنية من الإسلام، وهو الأمر الذي كان محل امتعاض السلفيين النقاويين واعتراضهم. ومع أن هؤلاء السلفيين الحداثيين كانوا مهتمين بمصير غيرهم من المسلمين ونجاح الكفاح ضد الاستعمار في بقية الامة؛ فقد كانوا يميلون إلى نسج رسالتهم الإصلاحية والمناهضة للاستعمار لتوحيد مجموعات محددة، كانت تتضمن غير المسلمين في بعض الحالات. مع ذلك فإن التمييز بين القوميين الإسلاميين والقوميين القطريين لم يكن دائم الظهور. لقد دفعهم السعي إلى الاستقلال إلى الحد من طموحاتهم إلى النقاوة الدينية حتى لا يقوضوا الأمل في حشد الأمة الإسلامية لهزيمة القوى الإمبريالية.

تهميش السلفية الحداثية:

لم يؤد إنهاء الاستعمار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وغيرها من مناطق العالم الإسلامي إلى إعادة تعريف الأوضاع الاجتماعية والسياسية للكثير من الدول وحسب، بل أثر أيضا في التفكير الإسلامي تأثيرا عميقا. إذ يرى لوزيير، أن انصار السلفية الحداثية، الذين عاشوا خلال تلك التغيرات، كثيرا ما أذعنوا لهذا السياق الجديد، إما لأنهم كانوا على استعداد للعمل داخل نظام الدولة الجديدة، أو لافتقارهم إلى الإطار التنظيمي لمعارضته. ففي المغرب أصبحوا مدجنين سياسيا؛ فتحولوا إلى موظفين ومسؤولين حكوميين بينما استمال القصر الجوانب الرئيسية في خطابهم. وفي النهاية، أصبح مفهوم السلفية الحداثية هامشيا على نحو متزايد. بيد أنه وخلافا لوضع السلفيين الحداثيين في المغرب، كان السلفيون النقاويون في طور الإعداد لأهداف جديدة للانتقاد الديني، وبدلا من الدخول في المجال السياسي؛ التفتوا إلى التهديدات الغادرة للاستعمار الجديد، التي تراوحت بين القبول المتزايد للنسوية، وشيوع كوكا كولا والمشروبات الأخرى التي اعتبروها مشروبات أمريكية شريرة تحتوي على مواد غير مشروعة تشبه المخدرات. وكما لاحظ أوليفيه روا فإن الكثير من السلفيين النقاويين لم يشتهروا فقط بعدم رغبتهم في الدخول في السياسة، بل أيضا عدم اهتمامهم بالعلوم السياسية. ولعل هذه الملاحظة تنطبق على تقي الدين الهلالي في الخمسينيات والستينيات. فخلافا لغيره من الإسلاميين والسلفييين الحداثيين، لم يخض الهلالي في الفكر السياسي. ولقد أعاد علال الفاسي، بعد الاستقلال النظر في مختلف مفاهيم الحكم والديمقراطية والنظام الجمهوري والنظام الملكي الدستوري من وجهة نظر إسلامية، إلا أنه لا وجود لتحقيق مقابل لهذا في كتابات الهلالي. ولم يظهر أي رغبة في إعادة التفكير في العلاقة بين الإسلام والدولة في العصر الحديث.

ولأن اهتمامات السلفيين لم تكن متجسدة في سياق وطني وسياسي بعينه، لم يكن مصيرهم مرتبطا ارتباطا وثيقا بأي بلد من البلدان، ولذلك أخذت هذه الفترة تعرف بانتقال الكثير من السلفيين للعيش في المملكة العربية السعوية، وكان من بينهم عبد الرزاق عفيفي ت1994، ومقبل الوادعي من اليمن، وعلي الطنطاوي من سوريا، والألباني.

وبفضل جهود المؤسسة الدينية في السعودية التي كانت تستهدف بناء السلفية النقاوية، أخذ مفهوم السلفية في السبعينيات من القرن الماضي يطغى على النسخة الحديثة من المفهوم. لم يعد سوى قلة من الأفراد يسمون بالسلفية إلى جانب السلفيين النقاويين. أما الناشطون الإسلاميون فقد أخذوا يلجأون باختصار إلى تسميات أخرى لمساعيهم الإصلاحية مثل المفكر المصري حسن حنفي الذي كان يرى نفسه وريثا لمدرسة الأفغاني وعبده، بيد أنه كان أكثر ارتباطا بالنقاوية الإسلامية بشكل عام. كما أخذت تظهر أدبيات حول المفهوم النقاوي من السلفية. وبدءا من السبعينيات جرت عملية من الصياغة الأيديولوجية، فقد صاغ المسلمون مفهوم السلفية النقاوية على صورة نظام كلي شامل، يذكر بإسلامية سيد قطب. أصبحت السلفية آنذاك رؤية للوجود بأسره، فالمعرفة إلى الممارسة، ومن الأخلاق إلى الأتيكيت. وفي حين يرى البعض من أمثال المؤرخ برنارد هيكل أن مفهوم المنهج السلفي الشامل هو تطور جديد مرتبط على الأرجح بتعاليم ناصر الدين الألباني. يعتقد لوزيير أنه رغم الدور الرئيسي للألباني في نشر هذا العرض الجديد للسلفية، لكنه لم يصك هذا المنهج السلفي.

فمنذ أوائل السبعينيات فصاعدا، قام مصطفى حلمي أستاذ الفلسفة المصري القريب من دوائر السلفية في الإسكندرية بدور نشيط في التنظير للسلفية النقاوية كأيديولوجيا ومنهج. كما أنه لم يتردد في نقد العقلانيين الذين كانوا يرغبون في إخضاع الشريعة الإسلامية لمتطلبات العصر الحديث. كما اتهم محمد عبده ورشيد رضا بتمهيد الطريق لهذه النزعة. مع ذلك فقد بدت قواعد حلمي للمنهج السلفي انتقائية، كما أنها أثارت ردود فعل بعض النقاويين. إذ لم يكن أسلوبه مشابها للنصوص الجافة السائدة لديهم، كما أنه لم يكن يتحرج من استخدام مقولات حديثة، أو مزاودات غير تقليدية لم يكن لديه أي فرصة تقريبا ليحظى بالدعم الكامل من الألباني، وبحلول الثمانينيات دافع الألباني عن فكرة السلفية كمنهج شامل، يقود جميع جوانب حياة المسلمين في العقيدة والعبادة والسلوك والملبس، لكنه لم يستخدم اللغة الفلسفية كما فعل حلمي؛ وأخذ يتطلع إلى إقامة دولة إسلامية نقية، ولكن عبر دعوته للصبر بدلا من الثورة.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى