صفحات مميزةمحمد العطار

صورة الآخر عن الثورة: عن نمذجة الثورة وميدان التحرير….السوريون يدفعون ضريبةً مضاعفة


محمد العطار

إلى غياث مطر ويحيى الشربجي ومن سار على دربهما

مُقدمة لا بد منها

أنطلقُ في هذا المقال من شعورٍ حقيقي بالمرارة، فبعد مضي قرابة العام على اندلاع الثورة مازالت آلة القمع الوحشية للنظام السوري مستمرة بفتكها بالمنتفضين. دماء السوريين سالت بغزارة ومازالت تسيل. وبإصراره المُفجع على انتهاج الحل الأمني في تعامله مع الحراك الشعبي، يدفع النظام بالبلاد إلى مجاهل من العنف والكراهية، وإلى مزيدٍ من الميل إلى التسلح لمواجهة آلة النظام العسكرية الفتّاكة، في المُقابل مازال قسمٌ كبير من المنتفضين داخل سوريا ينتهجون أساليب النضال السلمي، ويبتدعون كل يوم طرقاً جديدة تعينهم في كفاحهم ضد سلطة مُتجبِّرة ولا أخلاقية.

الحقيقة أن شعور المرارة ينتابني أيضاَ نتيجة الإحساس بأن هذا النضال المُذهل لا يلقى الاهتمام ولا التضامن اللائقين خارج سوريا.

 يجب التنويه إني سأقتصر في هذا المقالة على مقاربة نقطة محددة ضمن سجالٍ يطول حول الاختلاف في مقاربة الثورات العربية من قبل الناشطين خارج بلدان الثورات وتحديداً في أوروبا، والأسباب والتعقيدات الكامنة وراء هذه الاختلافات.

 في هذا المقال سأتناول الدور المحوري للصورة المُكرسة في الخارج حول الربيع العربي، ومن أجل ذلك سأستعين بمشاهدات ناجمة عن أسفار قُمت بها إلى عدد من الدول الأوروبية وإلى مصر أيضاً جعلتني أستنتج أن جزءاً من غياب المتابعة الحثيثة والتضامن المنشود مع كفاح السوريين يعود إلى غياب صورة مماثلة لصورة ميدان التحرير في مصر، التي باتت تُشكل مرجعاً مُهيمناً لمُتتبعي الربيع العربي. حيث تظهر صورة ميدان التحرير اليوم (وهي نفسها التي ألهمت السوريين) كضريبة يتوجب على المنتفضين في سوريا دفعها كي يحظوا بنفس القدر من الاهتمام والتضامن الذي حصل عليه أشقائهم في مصر. ينتج هذا بالطبع عن مقاربة غير دقيقة للسياق السوري، تُغفل معوقات إعادة إنتاج هذه الصورة في سوريا حتى الآن على الأقل.

 سحر ميدان التحرير

وصلتُ إلى القاهرة في زيارة عمل يوم 17 نوفمبر، وتزامن وصولي مع التحضير لمليونية حاشدة في ساحة التحرير يوم الجمعة 18 نوفمبر، أو ما عرف بجمعة “تسليم السلطة أو”لا للوثيقة” وهو الاسم الأكثر تداولاً آنذاك.

وكما هو الحال مع كل زائرٍ لمصر ما بعد مُبارك، كنتُ مسكوناً بصور ميدان التحرير وأردتُ أن أتوجه إلى هناك على الفور.

 وصلتُ رفقة صديقٍ لي حوالي الساعة التاسعة مساء يوم الخميس، كانت الحشود متوزعة على كافة أطراف الميدان، البعض كان يعد المنصات لليوم التالي. في وسط الميدان انتصبت خيام المعتصمين، لا نية لدى هؤلاء لفك الاعتصام حتى إتمام ثورتهم. تجولت بفرحٍ طفولي في أرجاء الميدان من زاوية المتحف حتى جامع عمر مكرم. المكان مكتظ بحلقات للنقاش، يمكنك ببساطة أن تنسلل إلى أيٍ منها، سيفسحون لك المجال بالتأكيد، لا عقبات هنا. كنت أنضم إلى حلقةٍ ما، أُصغي قليلاً، ثم أنصرف إلى أُخرى. علي أن أعترف أنها كانت تجربة غير مسبوقة. انتبه وأنا أتجول إلى كثرة الباعة المتجولين، أصعد إلى الرقعة الخضراء داخل الميدان لأتفقد الخيام عن قربٍ أكثر، معظم المعتصمين من الشباب، لكني أتفاجأ بوجود أطفال أيضًا جاؤوا بصحبة ذويهم. لم يكن لدي رغبة بمغادرة الميدان في تلك الليلة، كنتُ مفتوناً بالأجواء.

في اليوم التالي، الجمعة 18 نوفمبر، غص ميدان التحرير بالمتظاهرين، كنا أنا ومجموعة من الأصدقاء غير المصريين نراقب المشهد المهيب من على الكوبري المُطل على جزء من الميدان. لم يكن موقعاً مثالياً ولكنه كان كافياً لرؤية علم الثورة السورية الهائل الذي رفعه المتظاهرون. نزلنا إلى الميدان ليلاً، كان الآلاف مازالوا يجوبون أرجاء الميدان، إضافة إلى المعتصمين الذين لم يبارحوا مكانهم وسط الميدان. كنا أشبه بالسيّاح في حقيقة الأمر، أصدقائي كانوا يلتقطون الصور في كل مكان، هناك صديقة قررت التوقف لتصوير إحدى عربات الترمس، بدا الفتى اليافع الذي يجر العربة سعيداً بهذا، لكن أحد الشبان الذي كان قريباً صاح مُمتعضاً “يا آنسة….إنتِ بتصوري إيه…صوري هناك” مُشيراً إلى قلب الميدان حيث الآلاف متجمهرين حول بعض الخطباء. شعرتُ بالارتباك، طلبتُ منها ومن باقي الأصدقاء المغادرة، أرادوا البقاء أكثر، “الأجواء رائعة هنا!!!” صاح أحدهم.

سطوة الصورة ونمذجة الثورة

تيسر لي أن أزور أوروبا عدة مرات منذ انطلاق الثورة في سوريا، ومن البديهي القول أن الأوضاع في سوريا كانت تحتل الجزء الأكبر في كل النقاشات التي خُضتها.

 هنا ينبغي الاعتراف بأن تكرار الأسئلة عينها إنما هو دلالةٌ على وجاهتها. كان من الجلي أن السؤال العام “ماذا يجري حقاً في سوريا؟” ناتجٌ بالمقام الأول عن قلة الصور المُتسربة من هناك. السؤال بهذا المعنى تواقٌ إلى إجاباتٍ حول دقائق الأمور، ولا يسعى إلى القول مثلاً: “لماذا قامت الثورة؟” السؤال هنا مُلمٌ بالسياق العام: هناك نظام حكمٍ شمولي مستبد، خنق البلاد والعباد لعقود. السؤال إذن يحمل استفسارات حول وقائع القمع المُمنهج، ونِسب المعارضين والموالين في الشارع، وطبيعة الحراك الثوري وتوجهاته الأيدولوجية.

 تبدو هذه الاستفسارات حين صدورها عن متتبعين غير مختصين بالشأن السياسي للمنطقة مُحِقة، وتنبع عموماً عن مصدرٍ واحد: التعتيم الإعلامي الشديد الذي يفرضه النظام. هنا يتوجب التذكير بوجود شرائح واسعة اعتادت على تقاليد شبه محددة في تتبع ما يجري حول العالم، يأتي في مقدمتها التغطية التلفزيونية والصحفية المباشرة، وهو ما تفتقده الثورة السورية على وجه الخصوص، وأعني هنا تحديداً تغطية التفاصيل اليومية مع الناس وعلى الأرض عن طريق مقابلات ومراسلين متواجدين ويتحركون بيسر ومرونة، وليس فقط التقارير المُسربة والتحليل السياسي، أو حتى وقائع القصف وإطلاق النار.

على أني أرى أن لهذا الواقع المُجحف وجهاً آخراً يمكن الاستدلال عليه من تلك التساؤلات المـُتكررة حول هوية الثورة. فإن كان من المُنصف القول أن بعض هذه التساؤلات ينشأ عن التعتيم الإعلامي المُمارس من قبل السلطات السورية. إلا أني لمستُ أن العديد ممن التقيت بهم في الخارج يقومون بمقاربة الحراك الثوري في سوريا، انطلاقاً من صورة مهيمنة للثورة المصرية، وبتحديدٍ أدق صورة ميدان التحرير.  فإن كان الارتباك في تلقي المعلومات حول ما يجري على الأرض في سوريا أمراً مفهوماً (وهو الأمر الذي يعاني منه السوريون أنفسهم في بعض الأحيان)، فإنه من الصعب تقبل غياب الاحتفاء بأشكال النضال المدني السلمي الذي قدمه السوريون، وما نجم عن ذلك من غياب تضامن فعّال من قبل ناشطين وأفراد غير سوريين يعيشون في الخارج.

البعض يعزو ذلك إلى الامتداد الزمني الطويل إضافة إلى تشابك الملف السياسي السوري بسبب الاستقطابات الإقليمية والدولية، الأمر الذي سبب تذبذب أشكال وحجم التضامن الناشطين وحركات المجتمع المدني العالمية. لكن في المقابل فإن جملة نقاشات وندوات حضرتها في مدن أوروبية عديدة دفعتني لاستنتاج الفكرة التالية: السوريون مطالبون بأن يعيدوا إنتاج ميدان تحرير آخر، كي يحظوا باهتمام أكبر بوسائل نضالهم المدني.

وهنا سأستعير كلمات جون ريتش، الذي عبر عن ذات الفكرة وبشكلٍ دقيق، بقوله: منذ بداية الأزمة في سوريا كان المحللون ينتظرون تظاهرة مليونية في دمشق أو حلب، ذلك أن صور التظاهرات المليونية تكفي وحدها لتغيير منطق السياسات في العالم، إنها قرينة إثبات قاطعة على أنّ “الشعب يريد إسقاط النظام” فعلاً

مُغرية هي دون شك صورة ميدان التحرير، والأهم أنها مُلهِمة ومُحرِّضة، هذا مما لا شك فيه. ولا شك أيضاً بأن هذه الصورة بالذات كان لها تأثيرٌ كبير في دفع السوريين إلى التحرر من استبدادٍ مقيت. إلا أن المُجحف هو أن ترتبط درجة التضامن مع نضال السوريين بإمكانية تكرار تلك الصور القادمة من التحرير، والتي شغلت العالم كله عبر ثمانية عشر يوماً.

يجب التأكيد أن الكلام هنا لا يقلل من شأن اعتصام ميدان التحرير كنموذجٍ للاقتداء به، على العكس تماماً فدوافع احتلال الساحات الرئيسية هو فعلٌ له مبرراته الموضوعية الأصيلة، يبرز منها أولاً الرغبة الجارفة بإعادة امتلاك الفضاء العام، لما تمثله هذه الاستعادة من قيمة مادية (حرية الحركة والتجمُع)، ورمزية (تحرير الفضاء العام من صور وتماثيل وحتى أسماء القائد الواحد ورموز سلطته). يورد ياسين حاج صالح في هذا السياق: أن ثورات شعبية غير مسلحة، تواجه نُظماً تعتمد في سلطتها على الاحتلال الكلي للفضاء العام، لا تُثبت نفسها دون ظهور في هذا الفضاء، ولا تنتصر دون تحريره واستعادته للعموم .

المؤلم في السياق السوري، أن المنتفضين حاولوا فعلاً تكرار نموذج ميدان التحرير، وفي أكثر من مناسبة. في أوائل شهر نيسان من العام الماضي، حاول المتظاهرون القادمون من مناطق ريف دمشق القريبة أن يحتلوا ساحة العباسيين بدمشق، قبل أن يتعرضوا لإطلاق نار كثيف قبل بلوغهم مرادهم. ونذكر أيضاً ليلة 18 نيسان2011 المشهودة في حمص، حين نجح الثوار فعلاً في احتلال الساحة الرئيسية في المدينة (ساعة الساحة الجديدة)، وبدؤوا فعلاً باستذكار بعض مفردات ميدان التحرير، فنصبوا الخيام، واللافتات الضخمة، قبل أن تتم محاصرة الساحة من قبل الأمن وإطلاق النار الكثيف على المعتصمين، الأمر الذي سبب مجزرة حتى الآن لا يُعرف حجمها بالضبط، ومرة أخرى بسبب التعتيم الإعلامي الشديد وقطع الاتصالات عن حمص آنذاك (يورد الحاج صالح أن ناشطون حماصنة يصرون أن عدد من قضوا في تلك المجزرة يتجاوز 200 شهيد) . ورغم الكلفة العالية إلّا أن المنتفضين يحاولون تكرار التجربة كلما وجدوا سبيلاً لذلك، فبعد تجمع مئات الألوف في ساحة العاصي في حماة، قبل أن تُقتحم المدينة عسكرياً، شهدت الساحات الرئيسية في  مناطق كدوما والزبداني في ريف دمشق، وأحياء عدة في حمص والصنمين في درعا وغيرها من المدن والبلدات السورية، حشوداً ضخمة للمتظاهرين، لكنها لم تتحول إلى اعتصاماتٍ مفتوحة بسبب اليقين بأن الكلفة ستكون باهظة جداً.

إن مقاربة أمينة للوضع السوري سيقود إلى استنتاج مفاده: أن إعادة تكرار تجربة ميدان التحرير ليس أمراً مُتاحاً، حتى اللحظة على الأقل. السوريون أثبتوا هذا بالتجربة العملية، وعليه فالجدير بالذين يراقبون من الخارج تلمس الحجم الحقيقي لتضحيات السوريين، وخصوصية نضالهم بعيداً عن صور الاعتصامات الحاشدة واحتلال مراكز المدن.

بالطبع هذا يعيدنا إلى الحديث عن الدور الكبير الذي تلعبه الصورة المنقولة. القول بأهمية الصورة بات مكروراً اليوم، لكن يغريني حقاً تصور سيناريوهات لميدان التحرير، بدون تواجد الكم الهائل من وسائل الإعلام، وبدون الحضور المباشر للصورة آنذاك. هذا لن يغير قيد أنملة في عظمة تضحيات المصريين، لكن أي تأثير كان سيجلبه ذلك على مسار الثورة المصرية وعلى ردود الفعل تجاهها (الشعبية قبل السياسية)؟

 أخشى أن السوريين يدفعون، من بين ضرائب كثيرة أخرى، ضريبة التدفق شبه الحر لصور ميدان التحرير إبان الثورة المصرية. لقد تحول ميدان التحرير إلى مادة للفرجة أيضاً، تجلس في بيتك ودون جهد كبيرٍ تفتح التلفاز، وها أنت أمام الميدان، أمام شجاعة المتظاهرين وخفة دمهم في مواجهة نظامٍ دميمٍ ووحشي. في المقابل في السياق السوري، تخلو شاشات التلفزة من بثٍ مباشر لرجال ونساء يعتصمون ليل نهار ويقارعون البلطجية وجمالهم، أو شبان يقيمون حفلاتٍ موسيقية ويحرسون المتاحف. في سورية لا نستطيع رؤية أشكال النضال المدني – وأنا أزعم أنها كثيرة – بنفس اليُسر. الثوار الذين يحملون أرواحهم على كف وهواتفهم النقالة على كفٍ آخر، يلتقطون صوراً سريعة ومشوشة، تهتز طوال الوقت وهم يركضون، نرى الدماء ونسمع الرصاص والصراخ، لكن علينا كل مرة إعادة ترتيب أجزاء الصورة.

نعم إنها صورة تؤسس لجماليات جديدة على ما يذهب إليه السينمائي أسامة محمد ، فيما يذهب جون ريتش أبعد من ذلك، عندما يعتبر أن الفعل الذي يقوم به هؤلاء الثوار/ المراسلون، وهم يوثقون احتمال موتهم في كل مرة يخرجون فيها إلى الشوارع، سيغير منطق الصورة تغييراً عميقاً . أعتقد أن أسامة محمد وجون ريتش محقان في تحليلهما تماماً، ولكني أرى أن هذه المقاربة تنحصر في سياق تحليل بنية الصورة وجمالياتها والخصائص الجديدة التي تنفرد بها. أخشى أن ما يبقى ناقصاً في هذه الصورة هو التدفق المباشر والغزير والواضح، وهي باعتقادي الخصائص القادرة على إبلاغ العالم عن ما يجري “الآن وهنا” وهي القاعدة المسرحية بامتياز.

أخبرتني صديقة في برلين وهي باحثة في مجال الثقافة والإعلام أنهم (أي خارج سوريا)، بحاجة ليشاهدوا أكثر عن يوميات السوريين العادية وحجم المشقات التي يتكبدونها في نضالهم نحو الحرية، هذا مهم – قالتْ – كي يتشكل الدعم بعيداً عن الاستقطاب السياسي الأقل أهمية من جوهر النضال الإنساني أصلاً وأردفتْ:”هناك الكثيرون ممن لا يبادرون بأخذ موقف فاعل لأنهم حائرون أمام التعقيد السياسي لمُستقبل البلد والصور الضبابية الواردة من هناك”. حسناً يبدو الكلام سديداً، إنها مشكلة معرفة وصورة من جديد. لكن ما العمل في ظل ضيق وصعوبة مساحات التحرك الإعلامي في الداخل؟ هل أدخر الناشطون على الأرض أي جهد في توثيق نضالهم ؟ أجزم بلا. في المقابل علينا الاعتراف أن ما يتسرب من الصور، علاوةً على أنه متأخر أحياناً وغير واضح في أحيانٍ أخرى، إلا أنه لا يعكس حجم الأهوال التي يتعرض لها السوريون، ولا طبيعة كفاحهم في ظروف بالغة التعقيد. “لا نملك ميدان تحرير” أجبتُها …هزّتْ رأسها موافقة.

في لندن، أخبرني صديق آخر وهو إعلامي: “بصراحة، التعتيم الإعلامي الذي يمارسه نظامكم أتى أُكله، نحن لا نرى الكثير من الأشياء التي سيكون مفيداً لنا حقاً أن نراها، الناس هنا ليسوا مجتهدين كما تتطلب منهم، هذا ما نتمناه دوماً…لكن هذا لا يحصل ..دوماً أيضاً”

لا شك أن الأفعال البطولية تستحق التضامن معها، لكن تلك التي تُبث مباشرةً، باستمرار وبكثافة ووضوح تثيرُ استحساناً أكبر، هذه حقيقة علينا التسليم بها.

مصر وسورية وعتبات الألم

في القاهرة لبيت دعوة صديقي روجيه أنيس، وهو مصورٌ صحفي شاب، لحضور معرض تصوير ضوئي لمجموعة من المصورين المصريين وثقوا أحداث ميدان التحرير إبان الثورة . المعرض كان مؤثراً جداً، هناك قيمة جمالية عالية للصور علاوةً على قيمتها كوثائق بليغة. ربما  كنتُ الوحيد بين زوار المعرض الذي شعر بالضيق، لم أستطع حقاً نسيان تلك الحقيقة المُزعجة: هذا غير متاحٍ لنا في سوريا. تذكرتُ صديقة أميركية من أصل لبناني، وهي مصورة مُحترفة، صادفتها في بيروت، أخبرتني عن رحلتها مع مجموعة من أصدقائها إلى القاهرة  تزامناً مع تصاعد الأحداث في ميدان التحرير، لم يكونوا ليفوتوا فرصة التواجد هناك، كما قالتْ لي. مرة أخرى إنها الصورة إذاً، إنه سحر الميدان الذي لا يقاوم. هل تستطيع صديقتي ورفاقها القدوم إلى سوريا للتصوير أيضاً؟ هنا يكمن الفرق.

 إن الحرمان من نقل الصورة بشكلٍ ثابت وواضح إلى الخارج، لا يعني فقط خسارة جزء من التضامن مع السوريين، عبر الفهم الصحيح لطبيعة نضالهم. يجب علينا أيضاً أن نتذكر أننا إن لم نستطع توثيق كل هذا الألم كما ينبغي، فإنه سيبقى محفوراً في الذاكرة والنفوس طويلاً، هذا قاسٍ جداً بالمناسبة، وربما يرسخ أوجاعاً واحتقانات تبقى بيننا طويلاً. أعتقد أن الصورة تُسهم بإخراج شيء من ذاكرة الوجع إلى نطاق التشارك العام، وتُسهم في تحويل الألم المكبوت إلى سردٍ علنيٍ مُتاح للتقاسم، بهذا المعنى الصورة تكتسب بمرور الوقت شيئاً من الاستقلالية تجعلنا أقدر على مراجعة جراحنا، والتفكر فيها بحيادٍ أكبر.

يوم السبت 19 نوفمبر 2011، تفجر ميدان التحرير من جديد بعد أن قرر رجال الأمن بغتة إخلاء الميدان من المعتصمين واستخدموا لذلك القوة المفرطة، أدى هذا إلى استشهاد شاب، ثم استمرت الأحداث بالتصاعد تباعاً. الثوار يريدون إكمال المشوار فلا مجال للتحايل أكثر، ما تم إنجازه هو فقط نصف ثورة. خلال الأيام التالية ستستمر الأحداث بالتصاعد وسيعود ميدان التحرير ليشغل العالم ولو بدرجةٍ أقل، لكن صور الحشود والشبان الغاضبين وهم يحاولون اقتحام وزارة الداخلية قرب الميدان ستعود لتحتل صدارة الأحداث.

كان علي مغادرة القاهرة يوم الاثنين21 نوفمبر، كان يوماً ساخناً في ميدان التحرير. دخلتُ إلى قلب الميدان واقتربت من شارع محمد محمود المتفرع من الميدان باتجاه وزارة الداخلية. جموع الشباب الشجعان كانت متمركزة هنا، وكانت لعبة الكر والفر مع عناصر الأمن قرب الوزارة على أشدها. الميدان كان مكتظاً، لكن الباعة الجوالين والأطفال مازالوا هنا أيضاً والمصورين بالطبع. من موقعي كان يمكنني رؤية طواقم تلفزيونية تحتل شرفات بعض المباني المُطلة على الميدان. كان برفقتي صديقين من السويد، من ضمن أجانب كثيرين كانوا متواجدين في الميدان حينها، صديقيّ لم يتوقفا عن بث الأخبار لحظة بلحظة على تويتر وفيس بوك، كانت هذه هي مغامرتهما الكبيرة، عددٌ من أصدقائي في أوروبا كانوا بعيدين آلاف الأميال عن ميدان التحرير، لكنهم أيضاً كانوا يبثون صوراً لما يجري طوال الوقت، شعرت بأني محظوظٌ جداً لأني في قلب الحدث تماماً. وحدها رائحة الغاز المسيل للدموع المُتسربة من جهة وزارة الداخلية كانت توخز الأنف قليلاً.

الرائحة تعيد إلي ذكريات محاولات التظاهر الوعرة في دمشق، حيث يُستقبل الغاز المُسيل للدموع من المتظاهرين كالورود، مقابل احتمالات الرصاص والعصي الكهربائية أو الضرب المُبرَّح. في 15 أكتوبر الماضي، تجمّع ما يفوق العشرة آلاف متظاهر في حي الميدان الدمشقي (يدرك من يعرف دمشق في هذه الظروف أن هذا العدد كبيرٌ جداً). المأساوي أنه كان لزاماً أن يستشهد طفل في الحادية عشرة من عمره حتى يخرج الآلاف في تشيعه. إبراهيم الشيباني قُتل برصاص الأمن وهو يخرج من الجامع برفقة أبيه في اليوم السابق. في ذلك اليوم، وما أن وارينا الجثمان الضئيل الثرى، وقبل أن تجف دموع ذويه، انهمر الرصاص على المتظاهرين خارج المقبرة. تشتت الناس وركضوا في كل اتجاه. رائحة الرصاص تطغى بسرعة على رائحة الغاز، استُشهد شابٌ جديد كان في الأصل يُشيع شهيداً. هذه يوميات سوريّة، شهداء يشيعون شهداء. آخرون أُصيبوا بطلقاتٍ نارية، أحدهم كان إلى جانبي، اخترقت الطلقة قدمه فحمله رفاقه وركضوا، كان يصرخ “مافيني شي نزلوني”. باستثناء الهواتف المحمولة (سلاحنا اليتيم) لم يكن هناك مصورون ولا محطات تلفزة، ولا أصدقاء أجانب يملأون التويتر والفيس بوك بصور التشييع. لكننا كنا محظوظين، فقد نجحنا بدفن إبراهيم، في مناسباتٍ أُخرى كان الشهداء ينتظرون أياماً قبل أن يُدفنوا.

في أرض الثورات…المُفردات كما الأحلام تتشابه

كنتُ مُتحسباً لزيارة القاهرة بشكلٍ خاص، كنتُ أعد العدة لأجيب أصدقائي المصريين عن استفساراتهم وبعض أسئلتهم القاسية ربما. لقد أنجزوا ثورةً عظيمةً للتو، صنعوا القدوة ومنحوا العالم ميدان التحرير الذي امتدت أمواجه الارتدادية من وول ستريت حتى أثينا.

لكن من بين كل المدن التي زُرت، وحدها القاهرة وفرت عليّ عناء الشرح كيف أن سوريين عُزّل إلا من إيمانهم بالحرية يصنعون معجزة بثورتهم هذه. من لقائي برئيسة تحرير جريدة أخبار الأدب إلى زملاء يعملون في المسرح إلى سائقي التاكسي وشاب يعمل في الفندق وأخر تعرفت عليه يعمل كمُمرض بمشفى بإمبابة، وصولاً إلى شباب قابلتهم عرضاً في ميدان التحرير. الجميع أظهر تضامناً وتفهماً أذهلني، لم يشتكوا من ندرة الأخبار وتشوش الصورة القادمة من سوريا. النظام الشمولي الفاسد مر من هنا أيضاً، هذا يوفر قدراً كبيراً من النقاش.

كان المصريون مزهوون بإنجازهم، لكن أحداً لم يلمح أن هناك نموذجاً علينا الاقتداء به. الشباب في قلب ميدان التحرير، كانوا ينظرون إلى سورية أيضاً، لكنهم لم يبحثوا عن ميدان تحرير آخر هناك، كان باستطاعتهم رؤية القرى والأزقة الضيقة التي يتظاهر فيها السوريون. عموماً كان تحميل عبء نُصرتنا يقع في مُعظم الأحيان على الله وحده عبر “ربنا معاكم” التي سمعتها طوال الوقت. وإن كنت لا أعتبر تكرار هذه الجملة تعبيراً عن تخاذل، لمعرفتي بمقاصد الكلام كما نتداوله في عاميّتنا المُحببة، إلا أنني أيضاً لا أستطيع كبت شعور الخذلان الذي يملأ صدري بين الفينة والأُخرى حين أفكر أن السوريون يقفون وحدهم فعلاً في مواجهة أعتى أنظمة الطغيان…. لا بأس…سنمضي حتى النهاية ولن نكون مدينين لأحد سوى لشهدائنا وآلام مُعتقلينا.

مسرحي سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى