صفحات العالم

صورة الثورة السورية بعد ست سنوات/ حسن شامي

 

 

 

لا معنى حقيقياً لتقديم خلاصات كبرى بعد ست سنوات على اندلاع الثورة السورية وتدشينها قبل أيام لسنة سابعة. فالصراع ما زال جارياً وآفاق الحل السياسي ما زالت عصية على الارتسام. هذا ما يستشف في الأقل من احتدام المعارك على تخوم العاصمة دمشق، ناهيك عن المشاركة الأميركية المباشرة من طريق إنزال جوي لبضع مئات من القوات الخاصة للسيطرة مع «قوات سورية الديموقراطية» على منطقة الطبقة والاقتراب من معقل «داعش» في عاصمته الرقة.

وهذا غيض من فيض تعقيدات متناسلة وسباقات قوى دولية وإقليمية تتنافس على انتزاع مساحات نفوذ وحصص تستخدم كأوراق سياسية في عمليات التفاوض على مستقبل سورية، إذ يبدو حتى الآن أن محادثات آستانة في رعاية روسية ومفاوضات جنيف في رعاية أممية لا تزال بعيدة من جلب الترياق المنشود، بل حتى من إطفاء الحريق الكارثي المتصل والمتلوّن بألوان لاعبين اتفقوا على أمر واحد هو تحويل الصراع في سورية إلى صراع على سورية.

القول أن سنوات الجمر السورية لم تحمل سوى الدمار والخراب، بشراً وحجراً وشجراً، يبدو هو الآخر ضرباً من الوعظ الإنشائي الفارغ. فهو يظهر كمخرج أخلاقي تسترشد به أوساط واسعة ومتنوعة من المترددين والوسطيين تبعاً لتنوع مخاوفهم ومصالحهم واعتباراتهم. غير أن هذه المقولة تحتمل أن تكون، من وجه آخر، دعوة إلى اجتراح فرصة لاستنبات الحكمة في أرض تتشظى بقوة الأهواء وعبثية الانقياد الجامح خلف سياسات الثأر والتشفي والشماتة.

نعلم أن المقولة هذه لا تحظى لدى المصطفّين على خطوط الانقسام الملتهبة بأكثر من ابتسامة ساخرة وبالكثير من الارتياب في نيات أصحابها ومشاعرهم. والحال أن هذه الحكمة الاعتزالية هي أفضل ما يمكن تفعيله للشروع في مراجعة ومساءلة نقديتين لتجربة سنوات الجمر المتواصلة. وليس المقصود بصفة الاعتزال الانسحاب من حقل الصراع الذي يعج بفوضى الشرعيات والقيم، إذ يختلط النبيل بالوضيع والغث بالسمين والمطالبة بإقرار الحقوق وانتزاعها بطغيان نزعات الثأر والتسلط والفئوية. الاعتزال ليس الانعزال. وفي هذا المعنى يسع الحكمة الاعتزالية أن تكون مدار فعل نقدي يهدف إلى تثبيت القيم والمبادئ الضرورية والصالحة لبناء مجتمع وطني متوازن وعادل.

يمكننا أن نضع في إطار حكمة الاعتزال هذه حالة مثقفين لاذوا بالصمت من دون أن يتخلوا عن استقلاليتهم النقدية ونزاهتهم الفكرية، كما هي حال الكاتب الراحل جورج طرابيشي. ويمكننا أن نضع أيضاً مفكراً مثل الراحل صادق جلال العظم الذي أعلن معارضته للنظام وبقي متمسكاً بمنظاره الحداثي النقدي العريض للقضية السورية. ونرجح أن ثباته على هذه الرؤية هو ما جعل أحد قادة الائتلاف المعارض يفصح عن رفضه اقتراحاً بتحيّة المفكر الذي كان يكابد المرض في ألمانيا.

يمكننا كذلك أن نضع في السياق ذاته، وإن على مستوى مختلف، نشاط جمعيات ومجموعات مستقلة تتمسك بمعارضتها للنظام من دون الولوغ في لعبة الاصطفافات الجاهزة والتخلي، لمصلحة الرعاة الإقليميين أو الدوليين، عن استقلالية الرأي والموقف والمقاربة.

بات من الملحّ بعد ست سنوات من الفظاعة الحارقة أن يبدأ العمل النقدي للخروج من عبثية حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. ولم يعد مجدياً التوقف عند تحديد حجم مسؤولية النظام ومؤيديه أو المعارضة ومؤيديها عن الكارثة. فقراءة الحصيلة الفاقئة العين والمتعلقة بمقتل وجرح مئات الألوف ونزوح حوالى عشرة ملايين، ستظل مادة جدل وسجال يلجأ فيهما كل طرف إلى احتساب ما يعتبره جرائم ارتكبها الطرف الآخر فيما يقلل إلى حد اللامبالاة ما تعرّض له المحسوبون على المعسكر الآخر.

وليس في هذه الدعوة أي تهرّب من المكاشفة والمحاسبة القاسيتين، وأي محاولة لوضع الجميع في سلة واحدة وعلى قدم مساواة رياضية أو حسابية. الأمر يتعلق بما هو أعمق وأبعد وأخطر على ما تبقى من فرص للحفاظ على الكيان الوطني السوري وحماية النسيج الاجتماعي المتنوع والتعددي على غير صعيد. نقصد بذلك طبيعة الوعي الآخذ في التعاظم لدى قطاعات عريضة من الموالين والمعارضين والمترددين والساكتين. فهذا الوعي، المحتبس أصلاً بقوة الغلظة السلطوية طوال عقود من السنين، تلقى ما يكفي من الرضوض والجروح التي تجعله أرضاً خصبة للضغائن ولمنطق الاضطغان المغذي بهذه الطريقة أو تلك سياسات الثأر والانتقام. وتجعله أيضاً، من جهة أخرى ومكمّلة، مسرحاً للوعي الشقي كأحد أبرز وجوه الوعي الرديء والزائف.

وفقاً لترسيمة الوعي التي نتحدث عنها تبدو سردية النظام أشبه بمضبطة اتهامية. فهي تعتبر أن تحكم النخبة الأمنية بمفاصل السلطة هو من مقتضيات الحفاظ على السيادة والاستقلال الوطنيين، وأن استئثار الرئيس الأب ومن ثم الابن والمقرّبين منهما بالسلطة ومصادرة القوة الاجتماعية هما من مقتضيات القيادة الناجحة وقدرتها على المناورة في منطقة مضطربة وحافلة بالنزاعات. وليس القضاء على الشرعيات التقليدية إلا من تبعات الشرعية الثورية التي دشنها حزب البعث فاتحاً الطريق أمام ولادة شرعيات مماثلة تستند إلى فكرة المساواة الحسابية أو الرياضية التي رعاها النظام البعثي نفسه. وتزعم هذه السردية أن النظام حرص على تنويع تحالفاته الإقليمية والدولية كي لا يكون تابعاً بالكامل وكي يحتفظ بقدرته على التأثير. وهو غير قادر على شن حرب لاستعادة الجولان المحتل، لكنه قادر على إعاقة الخطط الإسرائيلية المدعومة أميركياً لفرض السلام الذي يكرس نزعتها التوسعية وطموحها إلى الهيمنة. وهذا معنى الانتساب إلى معسكر الممانعة. تتلخص السردية السلطانية هذه بعبارة: أنا سيادي وممانع إذاً أنتم خونة ومتآمرون.

السردية المقابلة والشائعة في أوساط المعارضة الأهلية يغلب عليها استبطان سردية النظام لقلبها حرفياً. أنتم مستبدون وأشرار إذاً نحن طيبون وأخيار. وما نفعله وإن انطوى على أخطاء وسوء تقديرات لا يخرجنا من هذه الصفة الإيجابية المتفوقة أخلاقياً. تخاذل المجتمع الدولي، خصوصاً إدارة الأميركي المتردد باراك أوباما، تركنا لقمة سائغة للنظام وحلفائه الروس والإيرانيين، لكنه لا ينتقص من أرجحيتنا الأخلاقية.

على هامش هاتين السرديتين، هناك سردية ثالثة وهي للأسف ضعيفة الحضور والصوت. إنها سردية القطاعات الشبابية المدنية التي شاركت بعفوية في الانتفاضة. هذه الفئات المهمشة هي الضحية الكبرى.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى