صفحات الثقافةعمر قدور

صورة الديكتاتور في نهايته

 


عمر قدور

ليس خائفاً، هو بالأحرى ليس مستخفاً بما يحدث. ربما لا يصدّق ما يسمع أو يرى، أو على الأرجح، لا يصدّق كفايةً. يعتقد أنه سيتجاوز المحنة قوياً متماسكاً، وسيأتي وقت يحاسب فيه أزلامه على تقصيرهم في القمع. “ارجع يا ريّس إحنا بنهزّر معاك”؛ لافتة رفعها متظاهر مصري بعد سقوط مبارك. أغلب الظن أنه يصدّق هذه اللافتة، بحرفيتها، لا بدلالتها الساخرة أكثر من كل اللافتات والحناجر التي نادت برحيله. لا شيء يقنع الديكتاتور، أي ديكتاتور، بقدرة “رعاياه” أو قوتهم، فهو لم يعتد على رؤيتهم إلا خانعين، ولم يألف تجمعهم إلا لتمجيده بينما يطل عليهم من عليائه. سيرى في الأمر خطأ ما، أو ربما مؤامرة، إذ لا يُعقل من وجهة نظره أن يتحداه “الغوغاء” هكذا من تلقاء أنفسهم.

يستقر الديكتاتور على نظرية المؤامرة لأنها توافق عنجهيته، ولأنها تضعه في مواجهة قوى تليق به بدلاً من هذه “الحثالة” المطالبة بسقوطه: صراصير.. مقمّلين.. فئران، قالها القذافي وكان أكثر فصاحة من زملائه السابقين واللاحقين. باح الرجل بمكنوناته الحقيقية وأطلق على شعبه النعوت التي كانت في قرارة نفسه دائماً. إن شعباً من الحشرات أو الزواحف، كما يرى سيادته، لا غضاضة في أن يُسحق بالمعنى المباشر والفظ للكلمة، فهذا يلائمه أكثر من الحرية التي ينادي بها. لقد بدّل الشعب ولاءه، ومن وجهة النظر هذه لا يرقى الشعب إلى مستوى القيم التي يطالب بها، فلا بد إذاً من أنه صار موالياً لسادة جدد يُملون عليه شعاراته ويحركونه كما يشاؤون وكما تقتضي مصالحهم هم. لا مصالح للشعب، أو على الأقل الشعب لا يدرك مصالحه الحقيقية. خونة، هذه أعلى مرتبة يمكن أن يصل إليها أولئك الذين غادروا بيت الطاعة، وجزاء الخيانة هو القتل؛ ما أسهل القتل إذاً!.

كأن الديكتاتوريات العربية تعلمت في المدرسة ذاتها، ومع ذلك يبقى من الغرابة بمكان ذلك التطابق المذهل في سلوكها على التوالي، إذ لا أحد اعتبر من درس الذي سبقه. قد نعزو هذا إلى ثقة عمياء تتلبس صاحب الدور، فيخال نفسه مختلفاً عن نظرائه، وربما يستخف بهم أيضاً في سره، ويتوعد بأن يقدم أمثولة البقاء التي عجزوا عنها. لكنه يبدأ الخطوة الأولى النموذجية فينكر وجود الأزمة، ويظهر على الشاشة ليلقي خطاباً يعود إلى زمن مضى. يتعمد الابتسام أو الضحك ليثبت تماسكه تجاه المشككين، والأهم من ذلك كله يفاجئ الجميع بعدم التطرق إلى ما يجري في الواقع. هو الخطاب الأول، خطاب الإنكار التام مشفوعاً بقبضة اليد التي تتحرك لتذكر بأنه صاحب قبضة، ولأنه بتحريكها يريد الإيحاء بطمأنينته أو لامبالاته.

في ظهوره العلني الأول، عقب الانتفاضة، تنكشف ملامح من غربة الديكتاتور عن الواقع، يبدو عاجزاً عن الانتماء إلى اللحظة، نراه كما لم نره من قبل، صورة باهتة من ماضٍ عتيق. كأن الأيام القليلة التي انقضت منذ بدء الانتفاضة لا تُحسب بالأيام فنحس بها كزمن طويل، بينما كان هو في قصره يعيش زمنه الخاص، يعيش كليّة سطوته دون أن يحس بالثقوب التي راحت تنخر فيها، ولا بتلك المجاميع التي غادرتْها إلى غير عودة. حتى أجهزة مخابراته تبدأ انتماءها إلى الغربة ذاتها، وقد نعتقد أولاً أنها تحجب عنه حقيقة ما يجري، وأنها بذلك تورطه في الإنكار، لكننا ندرك لاحقاً أن معلوماتها وأساليبها باتت متقادمة، وأن ليس بإمكانها استدراك الأمر. الديكتاتور وأعوانه يعرفون ما اعتادوا على معرفته، يعرفون الزمن الساكن للخوف، وكلما ازداد عدد المتظاهرين أوغل الديكتاتور ونظامه في القدم.

في خطابه الثاني يحاول الظهور كمن أدرك الأزمة واستوعب رسالة الشارع، ويا له من تنازل عندما يعلن عن إجراءات فات أوانها أو لم يطالب بها أحد أصلاً! بعد أن أمعنت أجهزته ترويعاً وقتلاً خلال أيام، يتذاكى الديكتاتور ويحمّل المسؤولية لموظفين قليلي الحيلة، يغادر صورته كحاكم ورجل دولة ويدنو من صورة التاجر الصغير، يتمخض عن مقايضات تثير الاستغراب بصغرها، وتثير الاستغراب بتضاؤله هو أيضاً. حتى على مستوى الـ”فيزيك” ثمة تغير بات ملحوظاً، فلا ندري إن كان قد انكمش تحت وطأة أزمته؛ أأصبح أقصر مثلاً؟ أهزلت صحته كثيراً فغارت عيناه؟ أم أنه كان دائماً هكذا لكننا لم نكن نراه كما هو حقاً؟

مهما كانت الإجابة على التساؤلات السابقة فمما لا شك فيه أن صورة الديكتاتور وقت انهياره مفارقة لصورته المعتادة خلال سنين أو عقود من سلطته، وفي لحظة الانكشاف قد تتجلى المفارقة أكبر مما نتوقع، فالصورة التي انبنت على السطوة تداخلت فيها صورة السلطة المجردة بالديكتاتور المتعين. بحكم الألفة والخوف العميق قد يُرى الديكتاتور أكثر وسامة مما هو عليه، وقد يبدو أكثر طلاقة وفصاحة، وقد تُختَلق الأعذار للشوائب إن عكرت صفاء صورته، بل قد تُصوّر الشوائب على أنها ميزات رائعة يختص بها دون سواه. كل ذلك ينتمي إلى زمن الديكتاتورية الذي ما أن نغادره حتى تبرز لنا صورة الديكتاتور عاريةً من الديكتاتورية، صورة تتوسل زمناً ولىّ فلا تعدو عن كونها محاكاة كاريكاتورية لما لم يعد له وجود.

في زمن سقوطه يمثل الديكتاتور دور الديكتاتور فيعجز عن استجماع صورته السابقة، ويعجز عن أن يكون عادياً وضعيفاً أسوة بالبشر. إنه محكوم بإرثه الذي تبدد فجأة، لذا قد يكون من الخطأ توقع صورة مغايرة لما رأيناه حتى الآن، لكن هذا الاحتمال لا ينفي أن الطغيان قد يصل إلى مرحلة من العمى والصمم يفارق معها الطاغية كل معقول، ومن ثم يبقى هو وحده أسير طغيانه. والحق أن السياق الذي شهدناه في الانتفاضات العربية حتى الآن يدل على نمط واحد مغلق من الديكتاتورية ما يقتضي أيضاً صورة نمطية للحظة السقوط. وإذا خطر في بالنا أن نتساءل: فيما لو اندلعت انتفاضة عربية جديدة، هل سيعي الحاكم الدرس منذ البداية، ويعي أن البداية هي النهاية؟

الإجابة المرجَّحة حتى الآن: لا أمل.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى