صفحات الثقافة

صورة تذكارية مع دمشق

 

رائد وحش

كيف هي الشام؟”. هذا هو السؤال الأوّل الذي يرميه الأصدقاء والأقارب البعيدون حين يسألون عنّا، عبر الأنترنت أو التلفونات. سؤال يريد اختصار الأسئلة ليختصر الإجابات، وكأنّ جواباً ما عن صحّة الشام وخيرها يعني جواباً عن صحة ساكنيها وخيرهم، مع أن السائل والمجيب يعرفان أنّ دمشق، كما سوريا، ليست بخير.

يبدأ ليل المدينة في الرابعة ظهراً، وينتصف بعدها بساعة. يسرع الجميع إلى المغادرة. الراكبون والراجلون يتوحّدون في هروب جماعيّ. كأنّ الليل في تبكيره اعتداء على النهار دون رادع. تخلو الشوارع شبه الخالية أصلاً، وتعمّ الظلمة قبل ميعادها في وحشةٍ لم يُعرف لها مثيلٌ. إذهب إلى أكثر الأحياء حيوية وسترى كيف أنّ “باب توما”، على سبيل المثال، بعد الاصطدام بكذا حاجز ودورية، مجرّد لوحة من تلك اللوحات التي كان يبتاعها السياح في الزّمن الجميل، دون أن يعرف أحدٌ أن اللوحات التجارية الرخيصة ستكون صورةً مبكّرةً لأطلال سوف تنتهي إليها الشام. مجرّد بيوت أليفة وسط هدوء قاحل. هدوء قاحل فقط لا يفرق كثيراً عن ركام الأنقاض الذي يراود المخيّلات جميعها، والذي لن تتأخّر الوحشية في جعله واقعاً.

لا يتحدّث الناس إلا عن أخبار الموتى والراحلين، وأخبار فقدان الأمن والكهرباء والخبز والوقود.. كما لو أن هذه الأشياء في قائمة الغائبين أيضاً. الأغلبية التي كانت تسمّى بالـ “صامتة”، صارت أغلبية كارهة متذمِّرة، معركتها الكبرى تخاض على جبهة صراع البقاء.

المشوار إلى وسط البلد عقوبة بالنسبة لسكّان الضواحي. الطرق المدروزة بحواجز التفتيش تجعل طريقاً كنتَ تقطعه في ربع ساعة يحتاج إلى ثلاث ساعات في أحسن الأحوال، الّلهم إن لم يحدث اشتباك ما، وقتها لن تعرف كم من الوقت ستحتاج للخروج من برزخ الانتظار والرعب. أضف إلى هذا أن أزمة المازوت والبنزين جعلت من الحصول على وسيلة مواصلات هبة ربّانية، فلا تستغربْ حين تجد من يؤشّر لإيقاف السيارات الخاصة عسى تقلّه في طريقها، ولكن هيهات.. هيهات تجد، بعدما صار كلٌّ يرى الآخر عدوّاً، أو احتمال عدوّ في أحسن الأحوال. يهتف شخصٌ على تلفونه لأهله الذين يقتلهم القلق على تأخّره: “مرّت عشر دبابات ولم يمرّ تاكسي واحد، ماذا أفعل؟”.

صارت علاقة الناس بدمشق وداعيةً، نراها في كل مرة وكأنّنا نودّعها لآخر مرّة. بينما القاطنون فيها يزدادون وحدةً وعزلةً بعدما قضوا العمر محسودين على الإقامة في قلب العاصمة، قلب الحياة.

يتوالى إيقاع القصف وإطلاق النار، وخلاله تمرّ الأيام على روزنامة اليأس والإحباط. الكلّ ينتظر حلاًّ، والكلّ الذي ينتظر يعرف أنه ما من حلّ إلا بمعجزة إلهية، وحتى لو جاء البرابرة فلن يكونوا “نوعاً من الحلّ” كما هو الاحتمال في قصيدة كافافي الشهيرة. ذلك أنّنا جميعاً، بينما نغرق في التفكير بالنجاة الفردية، نصبح برابرة في صيغة أكثر تركيباً وأشدّ قسوة. خلاص دمشق يبدأ بالإجهاز على البرابرة الذين فينا.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى