صفحات مميزةعساف العساف

صورة ……..مع ذاك الذي لم يخسر معركة ابدا


عساف العساف

لا أذكر بدقة متى سمعته يتحدث عن تلك الصورة لأول مرة، ومتى أخبرني بقصة زيارته لذلك البلد في خمسينيات القرن الماضي مع مئات من رفاقه الشباب اللذين غادر معظمهم دنيانا الحاضرة، يومها قلّبت زوايا وأدراج ذاكرته بحثاً عنها دون نتيجة تذكرإلى ان توصلت بخيال طفولي محض إلى إعادة إنتاجها وتظهير الوانها لتكون صكا اتباهى به امام اقراني في مدرستي الابتدائية.

– هو يقف إلى يسار الصورة بخجل من لا يريد أن يأخذ مكان أحد

– هو الآخر يقف متوسطاً الصورة دون أن يعبأ بالفراغ الباقي من حضوره في مساحة الصورة.

– هو يرتدي تاريخه العسكري بكل ما فيه من معارك وانتصارات.

– هو الآخر غادر لباسه العربي وسكن بدلة على قمة أناقة الخمسينات.

– هو تطلق شفاهه ابتسامات خفيفة لا تؤذي أحداً.

– هو الآخر ينظر إلى جهة ما ربما الشرق أو الجنوب بأن انظروني.

– فراغ الصورة الباقي ضاق بالبدلات والقبعات وربطات العنق رمادية الألوان.

بعدها خلال سنوات مراهقتي الأولى أصبح حضور هذه الصورة ثقيل الوطأة والتواتر، فكل نقاش معه حول قميص بزر مفتوح أو قلادة رخيصة أو تسريحة شعر لنجم مشهور نصل إلى نقطة أهزم عندها، يرميني بجملة من حجم: أنتم جيل لا يعرف مصلحته، فأرد بحجم مماثل وربما بصيغة أقسى: نحن غيركم والزمان تغير. يهزأ من جملتي ويسرد عليّ ما كان يفعله وأبناء جيله عندما كانوا في مثل عمري، حتى نصل إلى فوهة حديثنا البركاني هذا، فتتداعى ذكريات شبابه كحمم تسيل من ماضيه إلى حاضري حاملة معها تلك الصورة اللعينة والتي تجمعه بـ “هو” ذلك الذي لم يهزم في أي معركة.

أصرخ بداخلي دون أن يسمعني أحد: لكن ما دخل “هو” بتسريحة شعري ولون قميصي.

تتقارب أجزاء الصورة وتتباعد مرات عدة قبل أن أثبتها على حال تسقي فولاذ غضبي.

– هو في منتصف الصورة يكاد يكون الصورة كلها.

– هو الآخر على مسافة زاوية قائمة يتقاسمها مع عشرات غيره.

– هو يرتدي ألوان الصورة كلها.

– هو الآخر يتقاسم بهتان اللون مع رفاقه بلباسهم العربي.

– هو تتسع دوائر ابتسامته لتتلاقى مع حدة نظراته.

– هو الآخر تغيب ملامح وجهه ويختفي لون عينيه المغمضتين جراء سوء فهم مفاجئ مع فلاش المصور.

– هو يريد أن يمضي إلى صور أخرى.

– هو الآخر يتمنى مع رفاقه أن يتزلزل الزمان ويتراكم إلى ما لا نهاية في قعر اللحظة.

الآن بعد هزائم كثيرة بقياسات وأحجام مختلفة وانتصارات قليلة وصغيرة بلون قميص وبلزوجة جل على شعر لماع، نتكلم معا في كل شيء وأي شيء وبعيدا عن شيء فقدناه كلٌّ من موقعه، نتحاشى أن يأخذنا مجرى الكلام إلى تلك الصورة، أحدثه عن عملي وروتين حياتي، ويحدثني هو عن غلاء المعيشة وسنين الضجر بدائها ودوائها.

يحدث أحياناً وبشكل متكرر في الآونة الأخيرة أن ينساق وراء جملة أو صورة في محطة ما تعيده إلى ذكريات منحها الحنين جمالاً حزيناً وأنيقاً أناقة من يمضي إلى قبر، فيحدثني عن السفينة التي اجتمع على سطحها مع الراحلين هند هارون وأبو سلمى وقبل أن أومئ بسؤالي يضيف عبد الكريم الكرمي وآخرون كثر عبرت أحلامهم معهم شواطئ البوسفور باتجاه الأوديسا ومدن وساحات كان ناسها مؤمنين أنهم يغيرون العالم، ويستفيض بالحديث عن دوار البحر وفتيات موسكو والمترو والتلفريك ولا يذكر أبداً تلك الصورة.

– هو أنيق بابتسامة خفيفة بين حشد من الناس.

– هو الآخر بلباسه العربي مرخياً دوار رأسه الخفيف على أكتاف رفاقه الضاحكين بنشوة خمور تلك البلاد.

– هو تعبت أقدامه من معاندة سنوات عمره.

– هو الآخر تريد أقدامه ومن معه أن تنتزع ذكرى من حجارة الساحة الحمراء.

– هوالجنرال جوكوف………..

-هو الآخر أبي الذي لكثرة ما عاركته الحياة وهزمته مرات ومرات نسي أن له صورة مع الذي لم يخسر معركة أبداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى