بشير البكرصفحات الناس

صور الأهل والأصدقاء/ بشير البكر

 

 

لا يزال كثيرون من الأصدقاء والأهل في سورية، لكن الغالبية العظمى رحلت. الباقون هناك تأتينا منهم رسائل متقطعة، على الرغم من سهولة التواصل الذي صار متاحا لأوسع قطاع من الناس بفضل “فيسبوك”. ليست رسائل هؤلاء كالرسائل التي يتبادلها البشر عبر الحدود، كي يهوّنوا من ثقل الغربة، بل هي مناجاة مكتوبة. لغة تشبه لغة الطيور التي تلتم في المساء، وقبل أن تفترق باتجاه أعشاشها تصدر أصواتا تشرخ الأفق، وتتركه مثل جرح مفتوح.

كثيرا ما صرت أضع أمامي صور بعض الأصدقاء والأهل، أتأملها طويلا، وأقرأ فيها كلاما راهنا يمتد إلى ذكرياتٍ بعيدة جدا، وشيئا فشيئا أخذت أكتشف أن هذا العارض يأتي بقوة الحاجة إلى إعادة تركيب الصور التي تهشّمت بفعل الدمار الكبير الذي ضرب بلدنا. خراب المكان وتشظي البشر خلقا حالة ارتجاج في ذاكرة كل سوري، وجعلاه يحاول، في كل لحظةٍ، إعادة بناء صورته بين صورة الآخرين الذين عاش معهم ذات يوم. ربما كان الأمر شيئا من التعويض أو البحث الواهم عن التوازن، فالواقع المخيف دفع الناس إلى أن يلوذوا بالأعماق الصافية.

صور كثيرة باقية من طريق الذهاب إلى المدرسة، اللقاءات قرب النهر، ونحن نجهز قاربا للعبور إلى الضفة الأخرى. نزولا من قاسيون نحو دمشق، صعودا نحو قلعة حلب أو على طريق الجامعة. مشوار على شاطئ الفرات في دير الزور، حيث المقاهي والمقاصف النهرية وكراسي البردي تحت شجر الغرب الذي خصه الشاعر الحمصي، عبد الباسط الصوفي، بديوان كامل اسمه “الغرب”، وهو اسم شجر الخابور والفرات الذي يتراوح بين الصفصاف والحور.

حين طال غيابي عن سورية، كان حنيني الدائم هو العودة إلى تفقّد المكان. بقي حبلٌ سري يشدّني إلى الجغرافية الأولى، كما لو أني أحلّق في الفضاء، والحبل هو الذي يمنعني من السقوط.

شدّتني على مدى عامين الصور التي يجمعها عزيز تبسي من حلب، فهي في مجموعها تشكل عالما سوريا سيظل ينتظر من السينما أن تكرّس قسطا من وقتها، كي تعيد تركيب مشاهده، بما يحمله من تفاصيل بدأت تندثر جرّاء الدمار الذي سببته الحرب في هذه المدينة. كثيرا ما شكلت عالما سينمائيا، وأنا أقرأ تفاصيل عادية التقطها عزيز بعناية من شوارع حلب بدون قصديةٍ أو ترتيبٍ مسبق، إلا أن العناية بالتفاصيل تنم عن عينٍ محترفةٍ من جهة، ومخبر وجداني زودته الحرب بطاقةٍ لتشغيل معداته، كي لا يغيب عنها ملمحٌ من ملامح الحياة في المدينة، وهذه حمولةٌ ثقيلة لا يقدر عليها إلا من كان على صلةٍ وثيقةٍ بهذا المكان، فلا يمكن لعينٍ مهما بلغ اتساعها أن تصور مسرح الانفجار عند حاجزٍ أو فرنٍ أو سوق شعبي.

تترك صور عزيز القارئ في حالةٍ من خرج لتوه من فيلم سينمائي صنعه سينمائي ماهر، أراد أن يحتفي بالحياة، لكنه وجد نفسه يكتب قصيدة حزينة عن طفلٍ قتيلٍ يحتضن رغيفا من الخبز.

كلما شاهدت وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، يتحدث، لا أستطيع أن أقاوم الأسئلة التي تقودني إلى أصوله الأرمنية. حلب تعد أهم معقل أرمني بعد الهجرة الأرمنية الكبرى من تركيا، فإليها لجأ الأرمن، ومن هناك توزّعوا في العالم، ولكنهم بنوا فيها مدينةً صغيرة خاصة بهم، مدارس ودور عبادة وفرق رياضية، وتجارة، ومطاعم.

تساءلت كثيرا، وأنا أستمع إلى لافروف يتحدث، ألا يفكر بالقنابل الروسية التي تسقط على تلك المدينة التي كانت حاضنةً لأهله الناجين من المذبحة؟ لا يبدو أن هذا الرجل الذي يشبه ثور “البرونكس” الهائج يعرف من التاريخ غير فلاديمير بوتين، صاحب درس غروزني.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى