صفحات مميزة

صور المكان اليومي


عاصم بدر الدين

تفارق الثورة السورية الثورات في البلدان العربية الأخرى، وكل واحدة منها تفارق الأخريات أيضاً، من ناحية سوسيولوجية. هذا ما حاولت كتابات عدة تفحصه. على أن تمام أمره البحثي، التفسيري والفهمي، لا طائل من تجريبه الآن. ذلك أن الواقع لحظة السعي إلى إعادة تشكيله، يصير بعيداً جداً عن إمكان تناوله بما هو واقع. إذ يصير تشبيكاً رمزياً يتصارع الفاعلون ليس على تملكه فحسب بل أيضاً على إمكان طرح تأويلات متعددة له.

يصير الواقع افتراضاً، أو افتراضياً إن شئنا تقريبه من مفاهيم الأدوات التكنولوجية الأكثر إستخداماً في هذه الثورات. حاصل ذلك أن التفحص السوسيولوجي “التقليدي” في تركيزه على الجماعات، وأفرادها من ضمن إطارها، والتشبيك البنيوي والعلائقي والتَمثّلي، إلى آخر ذلك، مؤجل. والحال أن هذه اللحظة، وهي سوسيولوجية بالطبع، تحيل الاجتماع أفراداً متفردين (ذوات مفردة) وأمكنة، وهما عنصران متحركان، بمعنى الرمزية وإحتمالاتها وإمكاناتها. هذا، وتحديداً العنصر المكاني، ما يميز مسار الثورة السورية عن غيرها.

بيد أن اللحظة، بما تمثله من مباغتة وكثافة وغموض، ليست وحدها ما يمنح هذين العنصرين أهميتهما، بل مدار الصراع نفسه؛ فاعل يسعى إلى تدويم هيمنته المتعددة، وفاعل مواجه يسعى إلى خلع هيمنة الأول وإبراز نفسه، وربما في وقت لاحق طرح هيمنة مضادة. لكن التسوية بين الفاعلَيْن لا تستقيم في كل حال. ذلك أن الأول هو الأكثر مقدرة على إمساك الواقع وتزييفه، أو بالأحرى، تفريغ الواقع من واقعيته وإعادة إنتاجه من دون ناسه وأمكنتهم. هكذا، لا يمكننا أن نفهم سوريا، على الأخص في الزمن السابق على هذه اللحظة، إلا باعتبارها صحراء فارغة، وهذا ما لا شطط في جعله تفسيراً لمعنى أن تكون الدولة بعثية. ضمن هذا السياق يصير شاغل الفاعل الثاني إعادة نفسه إلى سطح الواقع، أو أن يعيد نفسه والواقع معه. هنا تقع المفارقة. فما يصل إلينا من سوريا، على الرغم من سوء الجودة في صوره، يكشف لنا الواقع المتعدد، ويعيده إلى “حقيقته” بعدما أبقي بعيداً من رقابة التصوير الأحادي الرسمية، غير أنه في الوقت نفسه يحيله افتراضياً بالناس والأمكنة والدم. كأن الواقع احتمال لا إمكان فيه.

صعد الناس إلى سطح العلن بأدوات فردية في سمتها الأبرز، كما في كتاباتهم السيرية والسردية أو الشعارات المقتضبة العامية وصورهم وصرخاتهم، وحتى في موتهم. وهذا ما لا حاجة لنا لتناوله. لكن الأمكنة أيضاً في سوريا تبدو مفارقة وذات شأن خاص. والحال أن التظاهر فيها غير محدد بجغرافيا ولعلها أكثر الثورات لا مركزية. يكفي لبيان ذلك أن نعرض التعداد اليومي للمدن والقرى والأحياء التي يتم فيها التظاهر، أو حتى القتل والبطش والإعتقال. هذا التعداد، بكثرته، ربما يفوق معرفة السوريين أنفسهم، على ما كتب الكاتب السوري عمر قدور مرةً. فهم الأمرين، أي اللامركزية وعدم معرفة السوريين بمعظم ما ذُكر من أماكنهم، يمكن إسناده إلى خصائص الفاعل الأول، المُهيمِن، الإقصائية.

على النقيض من حالات تونس ومصر وليبيا واليمن، وحتى البحرين، لا يجتمع معارضو النظام السوري في “الميادين”. هذه في الغالب ما تكون واسعة ومكشوفة وغير عادية في التخطيط الهندسي كما أنها من ناحية رمزية لا تخلو من بعد تسلطيّ نظراً الى جغرافيتها. ذلك أن انكشافها، بالإضافة الى ما تحمله من أسماء وما يُركَنُ فيها من تماثيل ومجسمات وحتى دورها “السياحي”، يحيل على سلطة الحكم وقدرته على تكثيف وجوده الظلّي الرقابي، بما هو تمتين لإلتباس وجوده وعدمه، في الحيز العمومي. ليس بلا دلالة أن تماثيل الرئيس السابق “الأب”، ونجله الذي قضى في حادث، وما يمثلهما من تجسيمات أخرى، تكثر في أماكن مشابهة لهذه الميادين الممنوعة على اجتماع الناس. ليس بلا معنى، ضمن الإطار نفسه، أنها كانت أول ما تعرض للإسقاط في غير مطرح. والحال أن النظام في منعه الناس من التجمع في أماكن كهذه، غالباً عبر القتل وترهيب الرصاص، يطبّق ما استفاده من دروس معاناة الأنظمة الأخرى، وخصوصاً المصري. لكنه في حدود المجال نفسه وفي ناحية أبعد منه، يحاول الحفاظ على صحرائه الواسعة التي صنعها بنفسه، بما هي واقعه المعلن، التي لا أمل له في البقاء من دونها. ذلك أن سلطته تأسست في الخلوّ حتى أضحى صنيعته، بالمعنيين.

إذا كانت شمولية الحكم تعني هيمنة الكبير على الصغير، الواسع على الضيق، والثابت على المتحرك، فإن مواجهته تعني تصعيد أهمية الصغير والضيّق والمتحرك. هذا ما يجري في الراهن السوري ليس في فهم الأمكنة والتفاعل معها فحسب بل في علاقة أهلها المستجدة، بهذا الحد أو ذاك، بكل تفاصيل اجتماعهم. هذا أول السياسة. فباستثناءات قليلة، كتلك التي شهدتها حماه وحمص من تظاهرات مركزية واسعة، سارع النظام الى ضربها، فإن أغلب التحركات السورية المعارضة تنطلق من أماكن ضيقة. كما أن التظاهر يكون في الغالب جوّالاً في الأزقة وغير مركزي داخل المدينة ذاتها. والحال أن الصور، في معظم الأحيان، تبيّن لنا كما لو أن المكان مقفل في الجهة المقابلة لحامل الكاميرا. غالباً ما تكون ساحات التجمع طرقاً، مختلفة المساحة من صورة إلى أخرى، تحيط بها من الجهتين مبانٍ سكنية وتجارية، لا تحمل قيمة جمالية بارزة. من دون أن نتجاهل احتمال تفرّع هذه الطرق إلى أزقة وزواريب أضيق فأضيق، لضرورات أمنية. كما لو أن الدخول إلى صلب المكان (داخل الداخل)، حيث الناس وحدهم نواته الضيقة، يبعد نفوذ السلطات الرسمية. هكذا، يستعيد “المكان اليومي” في عاديته المفرطة مركزيته وأوليته، بعد تهميشه لصالح “المكان الإستراتيجي”، الفخم والمهيب.

في مقابل هذا، تجتمع التظاهرات المؤيدة للنظام في ساحات معروفة، وغالباً حول خطباء مركزيين (وجوه تلفزيونية) وأغان، وتنقلها شاشات التلفزيون الرسمية مباشرة. هذا ما لا يفتقر إلى دالة. فالنظام في إحتكاره “العنف الشرعي” الدولاني المبرِّر بحسبه للقتل المستمر لـ”العصابات”، وفي صراعه على الرمز مع فاعل آخر، ليس له حتى اللحظة أرض صراع أخرى في الغالب الأعم، يحتكر لنفسه أيضاً الواسع والتاريخي من الأماكن. فهو يعرف متى، وكيف، يملأ الفراغ الذي صنعه. الوقت المناسب والكيفية اللازمة، الغامضا المعنى ظلا لسنوات طويلة، ولا يزالان، أداة تعليق الاجتماع والسياسة السوريين. كأنه يحاول، في لا عمله، التدليل على مقدرته العجائبية في ضبط نفسه، برهان قوته الوحيد، حتى تحين الساعة. هو ليس بعيداً في هذا عن خاصية “توقيت العنف” الأبوية، بما هي أصل كل عنف رمزي. هكذا، يصل الايحاء الرمزي الى ذروته حين يخترق الرئيس، الذَكَر، الحشود بسيارته. وهو في إحدى خطبه لم يعرف كيف يبخس قيمة خصومه بغير نعتهم بـ”أنصاف الرجال”.

والحال أن النظام وحده يقدم الصورة النظيفة عن الواقع النظيف، كما يعاد إنتاجه رسمياً، بمعنى يمثل تعدد القصد من مقولة “الأرض الممسوحة”. النظافة هنا، لا تقارب فحسب جودة الصور المعروضة، بل تشمل الجماهير اللطيفة والمحبة، المجتمعة في أماكن ظريفة، خلنج وزَيّ الثلج، كما لو أنهم اقتباس رديء، وساخر، للشق الثاني من أغنية فرقة “الصابون يقتل” وياسمين حمدان “عرانيس”. وليس قصد إحالة كهذه، التقليل من الشأن المعنوي والوظيفي لمؤيدي النظام في ردع “المؤامرة الكونية المحاكة ضده”. لكن، وفي رؤية أبعد لمعنى أن يثور شعب على حاكمه بعد أربعين سنة من الحكم المتسلط، لا يمكن فهم هذه الصور الرسمية باعتبارها تمثيلاً مضاداً لتصويرات الثورة وفاعليها، بغير أنها توكيد “فوق واقعية” النظام الحاكم، في معنى يقترب بخفر من رؤية جان بودريار لـ”المصطنع والاصطناع” لحظة تجاوزه. محدودية الخيال هذه، سبب إضافي وكاف لاتخاذ موقف حازم ومضاد لبقائه. تغييب الأمكنة يتعدى الترهيب إلى حدود القضاء على فردية المواطنين بإحالتهم حشداً. ذلك أن اليومي من الأماكن، بدقائقه، يختزن آليات التذكر والتخييل، ركني الفردية الفعليين. ليس لنا حاجة للتدليل على الكيفية التي تساهم بها أمكنتنا، في تعددها وإمكانها، في صناعة حيواتنا المستقلة عن الضبط السلطوي، الفائض التعسف في الحالة هذه. لذا لا يمكن المرء إلا السخرية، إزاء عودة المكاني (هو جهوي أيضاً) في أسماء التنسيقيات وعملها، وإصرار النظام على تمييع مأزقه برسالة الأمة الخالدة، الكلية الوسع والشمول. لكن الخوف يبقى في أن تستولي لاحقاً على هذه الأمكنة تنميطات خارقة لا قدرة لعادية المكان على تحملها، كأن تصير هذه المنطقة أرضاً للشهداء، أو مولّدة للشهامة والعزة والمقاومين بالفطرة.

القصد مما سبق، أن المكان السوري في اللحظة الراهنة يكتسب معنى ثورياً مضاعفاً عن قيمته اليومية، المستبعدة في الأصل. فالناس تفصيل، وتفاصيل هي أمكنتهم. تعمل الأنظمة المستبدة على طمس الاحتمالات والتفاصيل في سعيها لتوحيد الانتماءات والأذواق والآراء والتمثلات. يصير عندها بروز الانتماءات الأولية، المكانية والمذهبية والاثنية، مفهوماً بكونه رداً على التعتيم والتغييب المقصودين. وعلى الأخص يبدو الانتماء المكاني أكثر قرباً من المعيش اليومي والواقعي للناس نظراً الى ملموسه ومحسوسه الفائقين، والأكثر تفكيكاً، في دقة تفاصيله الآدمية، لمنظومة السياسات الكبرى وسردياتها، التي تركن إليها الأنظمة في تبرير اخفائها لشعوبها. هكذا، يُفهم الصعود اللافت لهذه الأسماء، على أنه التجلي الأول لتفكك صور الاستبداد. ذلك أن الناس إذ يصعدون إلى سطح الرؤية، بعد حجبهم المنظّم، تصعد معهم أمكنتهم، مؤسسين بذلك “المجال العام”، الذي يشكل، تبعاً لميشال فوكو، سلطة مضادة. فلا تعود سوريا واحدة الوجود والتمثل. وهذا ما لا يضرها في حدود التعدد التعبيري والصوري لناسها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى