صفحات الناس

ضعنا وضاعت هويتنا السورية/ هنادي الخطيب

 

 

لا تكفي اليوم صفة «سوري» للتعريف بأي شخص يحمل جواز السفر الأزرق الصادر عن النظام السوري والمعترف به عالمياً. حتى سنتين توجب إلحاق كلمة سوري بـ «عربي، كردي، علوي، سني، درزي، إسماعيلي، آشوري، مسيحي»، ولكن اليوم حتى اللاحقة التي تدل على الدين والطائفة لم تعد كافية، ما يعني أن الهوية السورية بدأت بالضياع بين متناقضات عاشها الشعب وسيعيشها إن لم يحدد معنى الهوية السورية.

أنا سوري معارض، أنا سوري مؤيد، أنا سوري إسلامي، أنا سوري أقلوي، أنا سوري محايد، أنا سوري مغترب، أنا سوري الداخل، وأنا سوري لا أقبل بأي سوري آخر، ربما يكون هذا التوصيف الأخير هو الأدق هذه الأيام.

قبل أيام قتلت الدكتورة عروبة بركات وابنتها حلا بركات في جريمة قتل بشعة في منزلهما بإسطنبول، فماذا كان رد الفعل السوري؟

المواقع والصفحات المؤيدة للنظام غابت تماماً عن الحادثة، لم تنقل الخبر ولم تحاول نعي القتيلتين، وإحداهما لا يتجاوز عمرها الـ22 سنة، ربما لم يعتبر أي مؤيد لنظام الأسد أنه معني بجريمة قتل لسوريتين في إسطنبول في ظروف غامضة، خصوصاً أنهما معارضتان. وبالطبع لا يشعر السوري المعارض بأي عتب، فالحادثة لو كانت معكوسة لتكرر المشهد في الاتجاه الآخر.

المشكلة الحقيقية جاءت على الضفة الثانية، الضفة المعارضة، إذ على رغم أن نعي عروبة وحلا جاء كثيفاً وغزيراً ويحمل ما يحمل من الحزن والصدمة، فإنه تحول تدريجياً إلى «شو» إعلامي فايسبوكي، فنسي الجميع جوهر الحزن: مقتل امرأتين بطريقة أقل ما يقال فيها إنها صادمة، وانشغلوا بكتابة الشهادة تلو الشهادة، خصوصاً منهم حاملي صفة «صحافي»، ودخل الجميع في سباق محموم لإثبات العلاقة الوطيدة مع عروبة أو ابنتها، وإلى كتابة شهادات منقولة عن لسانهما، لا يعلم سوى الله مدى صحتها.

وكما اعتاد أقطاب ونشطاء معظمهم من المعارضة، خصوصاً التي تتخذ من إسطنبول مركزاً لها، بدأ رمي سهام الاتهامات على النظام، لمجرد أن أخت عروبة وخالة حلا، كتبت اتهاماً مباشراً للنظام، ولم ينتبه المتهِمون (وربما لم يريدوا أن ينتبهوا) إلى أن الأخت قد تكون في حالة نفسية شديدة الحزن. وتبنت المواقع الإخبارية الاتهام، وتم تثبيته في كل خبر نُشر.

دعونا نتذكر مشكلة السوريين الحقيقية مع نظام الأسد منذ 50 عاماً، والتي يمكن تلخيصها باتهامه إسرائيل بكل الجرائم في العالم، ولا نحتاج لكثير من المنطق لنعرف أن معظم تلك الجرائم من صنع النظام نفسه. لكن النظام الديكتاتوري يدرك تماماً أن أنجع وسائل التخلص من الخصوم والأعداء، هي في استغلال كون العدو شريراً، فيمكن تلبيسه أي جريمة، يريد دفعها عن نفسه. فهل هذا ما نمارسه اليوم، بإلصاق كل التهم به قبل أن يجف الدم، وقبل أن يتم التحقيق؟

النظام عدو السوريين الأول، ولا خلاف على ذلك، وهو أيضاً المسؤول الأول عن كل قطرة دم سورية تُراق، حتى لو كان القاتل صاروخاً روسياً أو أميركياً، وحتى لو رمى القنبلة عنصر من داعش أو حزب الله أو النصرة. لكن الأكيد أيضاً أن أعداء السوريين والمستهترين بحياتهم باتوا كثيرين، الأمر الذي يجب أن ندركه ونتعامل على أساسه. فتحميل المسؤولية الكبرى للنظام الأسدي لا يعني إغماض العيون عن جرائم وتجاوزات ترتكب بحقنا من قبل آخرين.

عروبة وحلا بركات قتلتا في إسطنبول، والسرد أعلاه لا يعني أن ما حدث بعد وفاتهما من أخطاء واستهتار منا كسوريين حيال بعضنا، حدث مصادفة، أو نتيجة هفوات. فهو يكاد يصبح سمة عامة نستخدمها لكثرة ما مات منا، ولاكتشافنا أن ظهورنا الإعلامي والفايسبوكي والتلفزيوني سيعود علينا بالفائدة ولو بعد حين.

رحم الله عروبة وحلا، مع غيابهما وقتلهما الذي جاء بعد عدة حوادث اغتيال وقتل لصحافيين سوريين بقينا بعدها في مكاننا نراقب مصوري السيلفي وراشقي الاتهامات الطائفية، ومؤرشفي الشهادات التي ربما لم تكن لتُكتب لولا غياب أشخاصها.

إن أضعف الوفاء لعروبة وحلا، هو انتظار نتائج التحقيقات التركية، لكي نعلي الصوت في وجه من قتلهما، بريئتين مطرودتين من بيتهما وبلدهما مثل ملايين السوريين.

* كاتبة سورية

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى