سوسن جميل حسنصفحات سورية

ضيّعنا نحن السوريين ليلانا/ سوسن جميل حسن

 

 

يقول مثل: الشيطان يسكن في التفاصيل. لكن لولا هذه التفاصيل كيف يمكن للاستقراء أن ينجح ويتحقق؟ ليس الشيطان هو القابع في تفاصيلنا السورية، بل هو الشيطان الذي يفبركها ويخطط لها ويصنعها ويوزّع الأدوار لأدائها على كل اللاعبين المولغين بدمائنا. التفاصيل التي أدمنّاها وجبات رديفةً لوجباتنا التي لم تعد على علاقة جيدة بالحياة، التفاصيل التي تقدّمها لنا الفضائيات ومواقع الميديا بمختلف أشكالها، حتى الصحف التي تلتمّ على نفسها، وتخلع عنها أوراقها بالتتالي، لتنكفئ إلى الفضاء الذكي، تُمطرنا كل يوم بآلاف من مقالات الرأي التي، بدلاً من أن تزيح الغشاوة عن عيوننا وتمسح غبار المعارك عن صور الواقع، تقدّم آراءً تحليلية لحظية عمّا يجري، كل منها منطلقة من خلفية سياسية، أو موجّهة بأجندةٍ تدعمها وتمولها.

في الواقع، وفيما يخص المحنة السورية، فإن كلًّا يغني على ليلاه، ونحن السوريون، ضيّعنا ليلى خاصتنا، ولم نعد نعرف سوى الشتم والقدح والذم والتخوين والتهديد والوعيد، بينما باتت ليلى، صريعة حبّنا، مرميةً تنزف تحت الشمس، وعلى مرأى العالم أجمع، ولا من مغيث، على الرغم من أنها مطمع الجميع.

بينما تُدكّ سورية في أكثر من مكان بالتتالي، وتنام وتصحو على هدير الطائرات وأصوات الانفجارات، ويشرّد أهلها ويوزّعون إلى مناطق مختلفة وفق أجندةٍ، ظاهرها رغبة المتصالحين بموجب صكّ القوة، وباطنها أجنداتٌ متفقٌ عليها بين الأطراف المتحاربة على الأقل صاحبة الشأن الفعلي في الميدان السوري الحالي، نرى أن سورية حاضرةٌ على الموائد المستديرة، وعلى رؤوس القمم عالية الذرى.

انتهت خلوة مندوبي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن في السويد قبل أيام، من دون أن يحقق المُختَلون أية نتيجةٍ في ردم الصدع المتمكّن من مجلس الأمن بشأن سورية، على الرغم من أن مندوب السويد في الأمم المتحدة، كارل سكاو، كان قد صرح: “نحتاج إلى أفكار جديدة بشأن الجانب السياسي لنسير قدمًا”. وما يثير السخرية المرّة أن سفير إحدى الدول علق على الخلوة “مع كل هذه النزاعات المطروحة أمامه، وخصوصًا النزاع في سورية، ذهاب مجلس الأمن إلى منطقةٍ بعيدةٍ يبدو غير طبيعي”. وتساءل “ماذا سيجري إذا وقع أمر خطير الآن؟”. هل هناك أخطر من أن يموت شعبٌ على مدى أكثر من سبع سنوات بكل أشكال القتل ودوافعه؟ أن يقتل بالأسلحة التقليدية وبالسلاح الأبيض وبالبراميل والمدافع والكيميائي؟ وأن يُدفع إلى الهروب من موته إلى موتٍ آخر، وإذا أخطأه الموت تموت أرواحه في بلاد اللجوء ومخيماتها التي لا تقدّم له أكثر من فرصة البقاء على قيد حياةٍ تضمن تكريس الأوجاع كلها. ماذا فعل مجلس الأمن القريب؟ هل عندما تكون الخلوة في نيويورك سيهرع مجلس الأمن إلى وقف المقتلة السورية، ويحاكم المجرمين بحق الشعب السوري؟ هل سيمسك عصاه السحرية ويدفع الجيوش المحتلة أراضي سورية إلى خارج حدودها التي لم تعد أكثر من رسم في رمال متحركة؟

في المقابل، يُعقد في بروكسل مؤتمر للمانحين، من أجل جمع التبرعات لشعبٍ منكوبٍ، بينما نكبته مفتوحةٌ على أفقٍ غير منظور، وأميركا التي ما زالت لا ترى نفسها غير سيدة العالم يصرّح رئيسها، دونالد ترامب، أكثر من مرة، كان جديدها قبل أيام في المؤتمر الصحافي مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إن على السعودية أن تدفع، وإذا كان بالغ الصراحة إلى درجة الفجاجة، في قوله إن بعض دول الخليج لا تصمد أسبوعا إذا رفعت أميركا الحماية عنها، فإن وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، اعتبر أن قطر هي المعنية بالكلام وليست السعودية، فعلا وضع العرب مهين. لقد كلفت هذه الحرب مئات المليارات، بل كلفت مبالغ فلكية، لأجل أن تبقى مستعرة، وقودها أبناء سورية، فلو كانوا حريصين على الشعب، وعلى صون وحدة أراضيه وحقه في حياة “ديموقراطية” كما يدّعون، لما كان بحاجةٍ إلى ملياراتهم، ولكانت هذه الأموال الجهنمية تكفي لأن ينهض ويصنع حياته من جديد، فهو شعبٌ عريقٌ ذو حضارةٍ وماضٍ، وهو شعبٌ، على الرغم مما أمعنت عقود الاستبداد في ترويضه وشل تفكيره وزرع بذور الفتنة بين أطيافه، لكنه ما زالت لديه خاماتٌ بشريةٌ مبدعةٌ في كل مجالات الحياة.

يظهر الواقع بشكلٍ لا مجال للبس فيه، أو الارتياب، لعبةً صارت مكشوفة، فقط لو يسترجع

السوريون تفاصيل السنوات السبع، هذه التفاصيل هي ما تحمل الخبر اليقين، وليست معطيات اللحظة التي يبرع فيها السياسيون، ومعهم إمبراطوريات الإعلام، في تضليل الوعي وتعكير النفوس والضمائر.

ليست سورية المعافاة هي المقصد، إنما الموقف هو عملية كسر عظم، وكسر إرادات ووضع حدود للأطراف، بعضها تجاه بعضها الآخر. فما صار جليًا أن اللاعبين المباشرين، والذين أسّسوا لمفاوضات السلاح وليس السياسة، في أستانة، هم روسيا وإيران وتركيا، تلك الإمبراطوريات الغارقة والمارقة، وليست اللحظة الراهنة غير وريثتها، وقد عاد كل بلد منها إلى أصله الاستبدادي، في رسم طموحه الإمبراطوري، مستفيدين من تجاربهم التاريخية، وبأدوات تصلح لزمنٍ غير ذلك الزمن، وكانت سورية، وما زالت مطمعها جميعها، فالانقسام بشأن سورية لا يتسبّب بالضرورة بتقويض العلاقات بين هذه البلدان (روسيا وإيران وتركيا). إلا أن إيران المعزولة إلى حد كبير تفضل الحفاظ على علاقات إيجابية مع تركيا بشكل عام، وتركيا تفضل ألاّ تعتبرها إيران عدوًا لها، وروسيا تعرف كيف تدير التحالفات من أجل خدمة مصالحها وحنينها إلى إعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي. كانت استراتيجية الصراع والعلاقة بين هذه الدول الطامحة إلى إعادة أمجادها الإمبراطورية تقوم على ثلاث ركائز: الصراع والتلاعب والتعاون. وصارت الأدلة كثيرة أمام أعيننا، من صمت بعضهم عن جرائم آخرين، وعن بسط نفوذ على بعض الأمكنة، مقابل غض النظر عن أمكنة أخرى.

ما يجري في سورية مرهون بما سيقدم العالم من حلول لمشكلات وخلافات القوى العظمى. وإذا كان الاتفاق النووي مع إيران على قائمة أولويات الولايات المتحدة والعالم، فإن صدى التوتر بشأن هذا الموضوع سينعكس على سورية، وسنحصد نتائجه بعد كل الفتك الذي فتكوه بها. وما زلنا، نحن السوريين، غارقين في تفاصيل اللحظة، بدلاً من استعراض التفاصيل التي صنعت وتصنع مصيرنا في السنوات السبع الماضية، مصدّقين أو واهمين أنفسنا أن روسيا أو إيران أو تركيا حليفة للشعب، وأن أميركا والدول الغربية حريصون على الديمقراطية في سورية، حتى لو قامت على جماجم السوريين.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى