صبحي حديديصفحات سورية

روبنستين بعد فورد: مزيد من النفخ الأمريكي في القربة المثقوبة؟/ صبحي حديدي

‘الثورة السورية، ثورة الحرّية والكرامة’؛ هكذا شاء دانييل روبنستين، المبعوث الأمريكي الجديد لدى سوريا، الخروج عن الخطاب الرسمي والإعلامي السائد في واشنطن، والذي استقرّ على تعبير ‘الحرب الأهلية’. ولهذا فإنّ عنصر غرابة ـ دلالياًَ ولغوياً، هذه المرّةّ ـ قد أُضيف إلى الإشكالية الإجمالية التي اكتنفت تعيين الرجل في المنصب، لكي يخلف روبرت فورد، السفير المستقيل بعد بلوغه سنّ التقاعد. عناصر الغرابة الأخرى يمكن أن تبدأ من كون روبنستين يهودياً، على ما في هذا التفصيل من حساسيات تلقائية، وأخرى تخصّ مواقف مجموعات الضغط اليهودية الأمريكية، غير المتعاطفة مع الانتفاضة، والمتماهية مع المزاج الرسمي الإسرائيلي. عنصر ثالث هو أنّ المبعوث الخاصّ الجديد يأتي إلى الملفّ السوري، العالق والمعقد بالقياس إلى حصيلة سياسات البيت الأبيض الراهنة، قادماً من ملفّ عالق معقد بدوره (المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية)، فضلاً عن إرث تمثيل أمريكا لدى سلطة محمود عباس.

ومع ذلك، ورغم أنّ الإجراء ليس جديداً إلا بالمعنى البيروقراطي المحض، الذي ينطوي على استبدال موظف سلف بآخر خلف؛ وبصرف النظر عن حقيقة أنّ سجلات موظفين أمريكيين، من هذا الطراز تحديداً، لا تتيح منحهم الكثير من فضيلة الشكّ؛ فإنّ من الإنصاف انتظار أولى جولات روبنستين في المنطقة، وأولى اجتماعاته مع المعارضات السورية العتيدة. وفي نهاية المطاف، هذا خبير أمريكي مستعرب، خدم مع عسكر أمريكا في سيناء، مثلما تولى مناصب دبلوماسية، وأخرى ‘بحثية’ ـ تصحّ، ضمن سياقات أخرى، تسميتها استخباراتية ـ في عمّان وبغداد ودمشق وتونس والقدس وتل أبيب؛ وإطلالته الأولى، عبر كلمة خاصة متلفزة وجهها إلى السوريين باللغة العربية، أسبغت عنصر التشويق، وبعض الدراما، وجرعة في تأثيم النظام السوري بدت أعلى قليلاً من جرعات سلفه فورد.

في غضون ذلك، لعلّ من المفيد التذكير ببضع حقائق تخصّ ‘الخلفية العريضة لما يصحّ اعتباره فلسفة’ الإدارة الراهنة في الموقف من انتفاضات العرب عموماً، والانتفاضة السورية بصفة خاصة، بل أعلى خصوصية في الواقع. وقد يبدأ المرء من افتراض، قديم متجدد، يقول بأنّ محترفي التضليل عن سابق قصد وتصميم، فضلاً عن الحمقى والسذّج بالطبع، هم وحدهم الذين يساجلون بإنّ الإدارة الأمريكية سعيدة بما شهدته الشوارع العربية من انتفاضات؛ أو أنها حزينة جرّاء الانتكاسات ومظاهر الثورة المضادة هنا وهناك، وعازمة بالتالي على مساعدة الشعوب في مشاريعها الديمقراطية، كما يسير الزعم الرسمي. ومن حيث المبدأ، واتكاءً على تجارب الشعوب مع الولايات المتحدة، خير للعون الأمريكي ألا يأتي أبداً، من أن يأتي منطوياً على أجندات لا تخدم، في المقام الأوّل، إلا المصالح الأمريكية؛ وتبدأ مفاعيله الأولى من خدمة الطغاة، عبر تزويدهم بشهاد حسن سلوك ‘وطنية’ و’مقاوِمة’، على ركائز غائمة مثل ‘التدخل الخارجي’ و’السيادة الوطنية’ و’الهيمنة الإمبريالية’… وليست خافية، إلا على المضلِّلين والسذّج إياهم، طبيعة التحركات التي قام بها مبعوثون للبيت الأبيض، من أمثال هيلاري كلنتون، جون كيري، روبرت غيتس، الأدميرال مايكل مولن، جيفري فلتمان، بيل برنز، دافيد لبتون، فرانك وايزنر، روبرت فورد، ودانييل روبنستين نفسه. وهؤلاء لعبوا، في تونس ومصر واليمن والبحرين وسوريا، سلسلة أدوار مباشرة، مع دول مثل تركيا وقطر والسعودية وإيران وروسيا؛ لم تكن تهدف البتة إلى الوقوف على الحياد إزاء الانتفاضات المشتعلة، فكيف بمساندتها. ليست خافية، أخيراً، حقيقة أنّ الانتفاضات العربية هي التحدّي الأكبر الراهن أمام السياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس باراك أوباما؛ الذي واجه تركة ثقيلة في أفغانستان والعراق، لم تكن من صنع يديه؛ كما ورث معضلات التفاوض الفلسطينية ـ الإسرائيلية، ومشكلة البرنامج النووي الإيراني.

الطريف أننا لا نعدم مَن يفلسف هذه الانتفاضات على نحو تبسيطي، سطحي وتسطيحي تالياً، يجيّرها لصالح واحد من اثنين: إمّا (كما فعل وزير الدفاع الأسبق دونالد رمسفيلد) الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، بسبب غزواته في أفغانستان والعراق، وما صنعته من فيروسات ديمقراطية انتقلت شرقاً وغرباً؛ أو (كما يفعل رهط المؤمنين بسيّد البيت الأبيض الحالي) أوباما، ويده المفتوحة الممدودة المنبسطة، في خطبة جامعة القاهرة. يندر، إذاً، أن يخرج من صفوف هؤلاء محلل واحد يرى أنّ بعض السبب في اندلاع هذه الانتفاضات هو السياسة الخارجية الأمريكية، على امتداد عقود طويلة في الواقع، سواء لجهة انحيازاتها العمياء إلى جانب إسرائيل، أو سكوتها عن سلطات الاستبداد والفساد ومساندتها مباشرة حين تقتضي الضرورة.

ولقد توجّب على العالم العربي، والحال هذه، أن ينتظر المزيد من فصول ‘عصور الظلام’ الأمريكية، تجاه قضايا التحرر والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي، على وتيرة ما ناقشه كتاب ‘عصور الظلام في أمريكا: الطور الأخير من الإمبراطورية’، الذي كان عمل موريس بيرمان الصاعق الثاني، بعد الأوّل الأشهر: ‘أفول الثقافة الأمريكية’، الذي صدر سنة 2000، وأثار عواصف سجال لم تهدأ حتى اليوم. والرجل، استناداً إلى انتقال السياسة الخارجية الأمريكية من تخبط إلى آخر (وليس بسبب تبديل رئيس بأخر، أو مبعوث خاصّ بسواه!)، رجّح انتقال الحضارة الأمريكية من طور الأفول إلى عصر الظلام الفعلي. وهو يذكّرنا بأنّ حالاً مشابهة واجهت الإمبراطورية الرومانية، فصّل القول فيها المؤرّخ البريطاني شارلز فريمان في كتابه اللامع ‘انغلاق الذهن الغربي’.

وفي فصل فريد، بعنوان ‘محور السخط: إيران، العراق، إسرائيل’ ـ دشّنه باقتباس شديد المغزى من السناتور والمؤرّخ الروماني الشهير كورنيليوس تاسيتوس: ‘يخلقون الأرض اليباب ويطلقون عليها تسمية السلام’ ـ ساجل بيرمان بأنّ زلزال 11/9 كان نتيجة حتمية للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، خصوصاً في فلسطين والعراق وإيران. منابع السخط هذه تشمل الانقلاب الأمريكي في إيران (الذي عُرف باسم ‘عملية أجاكس′ وأسقط رئيس الوزراء الشرعي محمد مصدّق سنة 1953)، إلى التدخّل الأمريكي في شؤون العراق منذ الستينيات وحتى التعاون العسكري والأمني مع نظام صدّام حسين اثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية، وبينهما وقبلهما وبالتزامن معهما الانحياز الأمريكي المطلق لدولة إسرائيل.

صحيح أنّ محاور السخط هذه لا تبرّر قتل ثلاثة آلاف أمريكي، أو أجنبي، بريء تواجدوا لضرورات الحياة أو بالمصادفة في برجَيْ نيويورك يوم 11/9/2001، يتابع بيرمان؛ إلا أنّها، في أبسط قراءة موضوعية، تفسّر الحدث: ‘إذا كنّا عاجزين عن إدراك الجانب الثأري وراء ما جرى في 11/9، وليس الركون إلى عوامل ‘الجنون’ و’الشرّ’ و’الأصولية’ و’الإرهاب’ وحدها، فإنّ الأمل ضئيل في أنّ النجاح سيكون حليفنا ضدّ هجمات إرهابية أخرى في المستقبل’. ولا يوفّر بيرمان تمثيلاً طريفاً لحال التعامي الأمريكي، الرسمي والشعبي على حدّ سواء، إزاء السخط المتعاظم ضدّ السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط: أشبه برجل مصاب بصداع مزمن، ولكنه يؤمن أنّ العلاج الوحيد هو الاستمرار في ضرب رأسه بمطرقة!

وفي فصل آخر بالغ العمق، عنوانه ‘الإمبراطورية تتداعى’، يناقش بيرمان مدرسة التفكير التي تقول بأنّ حلّ معضلات أمريكا لا يأتي إلا من داخل أمريكا، على غرار ‘نظرية البندول’ وتوفّر حلقات تصحيح ذاتي على امتداد التاريخ الأمريكي، وأنّ إيقاع هذا التاريخ هو الفعل/ ردّ الفعل والمقولة/ المقولة المضادّة. لكنّ الحال، خصوصاً في رئاستَيْ بوش الابن، بلغت ذروة غير مسبوقة في استجلاب ردود الأفعال المتعددة، المتغايرة وغير المتناسبة دائماً مع الفعل الواحد، بحيث أنّ سيرورة انحلال الإمبراطورية الرومانية، وليس نظرية حلقات التصحيح الذاتي، هي التي تصلح لاستشراف مستقبل أمريكا المعاصرة.

في إطار تلك الحلقات يُساق، على سبيل المثال، خيار أوباما المركزي في إغلاق ما ورث من حروب أمريكية، بدل فتح حروب جديدة؛ الامر الذي لم يبدّل الكثير في معادلة موازية يصحّ التذكير بها: الملفّ السوري تحديداً، ولاعتبارات تتجاوز بكثير أمنيات السوريين وآمالهم وآلامهم، ظلّ يمثّل أحد أكبر المآزق التي انطوت عليها سنة أوباما الأولى، في ولايته الثانية؛ كما أنه ـ ويا للمفارقة، حمّالة الأوجه والاحتمالات! ـ يظلّ الملفّ الذي يعكس تلك الصفة التي أُلصقت بشخصيته، وتُعدّ نادرة تماماً لدى الغالبية الساحقة من رؤساء أمريكا: أنه يسعى إلى أن تضع الحروب أوزارها، لا أن تزداد اشتعالاً، أو ينشب المزيد منها. ولكن هل يصحّ المحتوى، حقاً، كما لاح الشكل صحيحاً، في أنّ أوباما عازف عن الحروب، كافة، وأنه قاب قوسين أو أدنى من شخصية الرئيس الأمريكي المسالم، الذي يستحقّ بالفعل جائزة نوبل للسلام؟

فماذا عن سياسة الاغتيال بالطائرات من دون طيار، أو قيام الوحدات الخاصة الأمريكية بتنفيذ عمليات عسكرية خارجية، وانتهاك استقلال الأمم وسيادة الدول… أليست وجهة أخرى لاستئناف الحروب؛ يسأل سائل، محقاً تماماً هنا أيضاً، من حيث الشكل والمحتوى في الواقع. ولماذا، لم يرسم أوباما من الخطوط الحمر، في الملفّ السوري تحديداً، إلا ذاك الذي يتعلق باستخدام الأسلحة الكيميائية (وبالتالي غضّ النظر عن لجوء نظام بشار الأسد إلى كلّ، وأيّ، سلاح فتاك آخر، بما في ذلك القصف الجوي والصاروخي، والبراميل المتفجرة)؟

ومع ذلك، المرء لا يكاد يصدّق عينيه وهو يقرأ ما يصرّح به مندوبو الإدارة إلى مختلف دول الشرق الأوسط، حول التزام أمريكا بحقوق الإنسان والحرّيات والديمقراطية، وتبدّل نظرتها إلى الطغاة، والوقوف إلى جانب الشعوب بدل الحكّام، أو حتى ـ في لغة أوباما الغنائية ـ اعتبار الشباب المصري قدوة ملهمة للشباب الأمريكي! فما الذي، قياساً على هذا كله، يمكن أن يقنع السوريين بأنّ روبنستين سوف يأتي بما عجز عنه فورد، ما دام كيري في الخارجية، و شاك هاغل في الدفاع، وأوباما في البيت الأبيض؟ ولماذا لا يكون إجراء استبدال هذا بذاك، مجرد استمرار روتيني للنفخ العتيق في القربة المثقوبة، العتيقة، ذاتها؟

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى