صفحات سوريةغازي دحمان

طرطوس لإنقاذ دمشق وحلب

 

غازي دحمان

لعل من أكبر أخطاء الجيش الحر، والمعارضة المسلحة عموماً، إقتصار عملهم على مناطق معينة وإخراج المناطق الموالية للنظام، أو ما يسمى بيئته الداعمة، من خارطة عملياتهم وهو الأمر الذي نتج عنه بيئتان مختلفتان من حيث التأثر بإرتدادات الحدث وعواقبه، وساهم تالياً في إطالة أمد الأزمة وإنسداد أفق حلوله.

لا شك أن النظام إستثمر هذا الأمر إلى أبعد الحدود ببقاء هذه المناطق الموالية له، وبخاصة طرطوس واللاذقية، آمنة وسالمة، جعله يدّعي بأن الفضل يعود له في ذلك وإنه يؤمن لها ما يلزمها من حماية وإستمرار للحياة، في حين أن بيئة الثورة مدمرة وتفتقد لأبسط أنواع الحياة الإنسانية، فضلاً عن تعرضها لدمار قد يحتاج لعقود مقبلة حتى يمكن بناء ما تم تدميره.

كما أن عدم إنخراط هذه المناطق بما يحصل في سوريا جعل بيئة النظام راضية عنه إلى حد كبير. صحيح أن هذه البيئة كانت تخسر أبناءها في جبهات القتال، لكن النظام أقنعها بأن هؤلاء كانوا سيموتون أصلاً في الدفاع عن بيئاتهم، في مواجهة المتطرفين والسلفيين، الذين يريدون إبادتهم وإستحلال نساءهم وأموالهم وذبح أولادهم. أضف إلى أن هؤلاء غالباً ما يقفون خلف حائط سد من جنود أبناء السنة في الجيش” أغلب الذين إنشقوا كشفوا هذه الحقيقة”، فهو بإستخدامه لهؤلاء إنما يستثمر بالجنود السنّة ليحموا معاقله في طرطوس واللاذقية.

كان على الجيش الحر ألا يترك للنظام رفاهية الإختيار من احتمالات متعددة. وهذا كان يجب أن يتم من خلال جعل بيئة النظام تتحسس ما تشعر به بيئة الثورة. ولو حصل ذلك لكانت هذه البيئة إنقلبت عليه وأجبرته على التفاوض، أو البحث عن مقاربات أخرى للخروج من هذه الأزمة.

كثيراً ما جرى الحديث عن فشل الثورة في إستقطاب البيئة المؤيدة للنظام أو تحقيق إختراقات مهمة في بنيتها، لجعلها تؤيد الثورة. وفي الواقع، كان هذا كلاماً نظرياً أو تنظيرياً لا حظوظ له على أرض الواقع. ذلك أن بيئة النظام، وهذه يعرفها كل من كان يعيش لحظات ما قبل إنطلاق الثورة، وكذا اللحظات الأولى والتالية من عمر الثورة، كانت متوترة ومتشنجة. وهي التي أوصلت النظام إلى ما عليه من تشدد، وأن الإختراق الأفضل والإستقطاب الممكن كان سيتحقق فقط من خلال إجبار بيئة النظام على الإشتراك في الوجع السوري العام، وليس التحايل على إرضائها وتقديم شهادات براءة عن الثورة، وإنتظار الموافقة والرضى، وبخاصة وأن هذه البيئة كانت مستفيدة، وإن لم تكن شريكاً في الفساد والقهر، فهي شكلت الغطاء اللازم وأعطت الشرعية والمبرر لممارسات النظام.

قد يقول قائل أن ذلك كان سيسرّع بالحرب الأهلية ويساهم في تعميمها، والسؤال هنا هل هنالك سذاجة وعهر وكذب أكثر من هذا النمط التفكيري؟ وهل المشكلة بالتسميات فيما هناك بلد يصلب ويمشي على درب الآلام، فيما جزء من أخوة الشراكة يسمونه أقسى أنواع العذاب، موت لعشرات الآلاف، إخفاء لأعداد مماثلة، ونزوح للملايين، وسبي وإغتصاب لآلاف النساء. بعد ذلك، إذا كانت تسمية هذا الحدث الجلل تجرح نرجسيتكم، سموه أي شيء آخر، لكن جدوا له مخرجاً.

لماذا هذه الدعوى الأن؟ لأن البقاء ضمن هذه العقلية المواربة والتبريرية، وذهنية التفكير بالوحدة الوطنية يرضي النظام إلى أبعد الحدود، ويبقي بيئته ملتفة ومتماسكة حوله ولا حاجة لها للتفكير بمقاربات أخرى. بل هي غير مضطرة لذلك، طالما طرطوس تنعم في الهدوء وتستمتع بالمساعدات الروسية والإيرانية. التفكير السليم واالمنطق الإنساني، باتا يقتضيان أن تشترك بيئة النظام بالمأساة مادامت شريكة بالوحدة الوطنية. فعليها أن تشارك بالنزوح والموت والتشرد، والإعتقال والإخفاء وكل ويلات هذه الأزمة، ثم ليصار إلى كشف منظومة الهيمنة الرسمية وتعريتها بأنها ليست ضامنة وحامية لبيئة النظام. إضافة إلى التخفيف من حدة القتل والإجرام التي يمارسها النظام وأدواته، وليشعر الجنود أن هناك من سوف ينتقم من أسرهم.

بيئة النظام تقاتل بعسكرييها، والمدربين منها منهم، من دون المدنيين، النظام يرفض هذا المنطق ويعاقب مدنيي الطرف الآخر، حتى حجارة المناطق الثائرة.

هذا خيار وتفكير وطني لأنه يقطع على النظام الخيارات التي باتت تزدهر في مخيلته كالتقسيم، وإمكانية اللجوء إلى الكيان الطائفي. من غير المعقول أن يعمد متطرفو الطائفة إلى تدمير سوريا منزلاً منزلاً وينهب كبار فاسديها ثروات سوريا، ثم يذهبون إلى دولتهم رافعين شارة النصر!

الوحدة الوطنية تتحقق بالعقل وبإدراك المصالح، هكذا نجحت في أميركا وفرنسا، وليس بالعواطف المهترئة، وإذا لم تشعر بيئة النظام بأن من مصلحتها وقف هذه المذبحة، سيفرح سدنة النظام كثيراً بسذاجة الثورة. وإن بقيت دمشق وحلب تذويان تحت آلة التدمير الأسدي، فيما تستجم طرطوس على سواحل المتوسط، سنخسر كثيراً من وحدتنا الوطنية وكثيراً من مدننا ومدنيتنا.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى