صفحات العالم

طريقة أخرى للخروج من الدكتاتورية

 



بريجيت راحيك

الشرق الأوسط يتحرك، لكن في اتجاهات لا يمكن توقّعها، وذات نتائج مفاجئة. ففي نهاية نيسان برزت أولى النتائج الايجابية المميزة للثورة المصرية ممثلة بالمصالحة بين المجموعتين الفلسطينيتين المتنافستين: فتح وحماس. طوال سنوات خلت شاركت المجموعتان في لقاءات مصالحة في مصر، لكن بلا فائدة.

ونعلم اليوم أن الرئيس المصري السابق حسني مبارك رهن نفسه لكل من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل للحيلولة دون حصول مصالحة كتلك، ولتحقيق ذلك نشر معلومات مضللة حول كل فريق لدى الآخر. الهدف كان إبقاء حماس كـ«منظمة إرهابية». ولم يكن صعباً على مبارك تمثل ذلك الدور لكونه يلائم تصوّره الخاص الآيل إلى نزع الشرعية عن كل ما ينتمي إلى الإخوان المسلمين.

لقد أصبح مبارك الآن خارج السلطة، وحامي حماس في سوريا مشغول بشيء آخر غير الإسلاميين الفلسطينيين. وسواء كانت المصالحة الحالية نتيجة غياب الضغط الخارجي، أو انعكاساً لخيار قيادي في كل من فتح وحماس بالاستماع إلى مطالب الشعب الفلسطيني المنادي بالوحدة، فإن الأمر يبقى أصعب من التحديد. بيد أن المصالحة، في كل الأحوال، تعكس نضجاً جديداً لدى القيادة الفلسطينية، وتعكس أيضاً واقعة أن إسرائيل ما عاد بمقدورها أن تهيمن على المشهد الدولي. وفي هذا السياق بالذات يندرج رد فعل نتنياهو القائل بأنه على فتح الاختيار بين صنع السلام مع حماس، أو مع إسرائيل، آخذين بعين الاعتبار أن نتنياهو وحكومته لم يخطوَا خطوة واحدة نحو السلام طوال عهده.

وفي المرة الأخيرة (2007) التي شكّل فيها الفلسطينيون حكومة وحدة وطنية، وُعِدوا بالحصول على الدعم من كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، الا أن الوعد لم يتم الإيفاء به أبداً. بل على العكس، قامت كل من إسرائيل والولايات المتحدة، بالتعاون مع أحد القادة العسكريين في حركة فتح، بالتخطيط لانقلاب ضد حماس في غزة. على كل، أحبطت حماس الانقلاب، وتلى ذلك واحد من أكثر الفصول تراجيدية في التاريخ الفلسطيني.

آن الأوان كي يقوم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة باستخلاص الدروس من الأخطاء السابقة عبر دعم حكومة وحدة وطنية فلسطينية، تتأسس بالطبع على قاعدة احترام القانون الدولي، وتليها انتخابات ديموقراطية برلمانية ورئاسية.

لسنوات عديدة دعم الغرب الحكام الغلط لفترة طويلة، وفقط عندما يأخذ هؤلاء الحكام خطوات لا تزعج مواطنيهم وحسب، ولا تزعج الغرب، يرفع الأخير يديه معلناً العنف منهجاً وحيداً. وعنى ذلك إخراج صدام حسين بالقوة من الكويت، ثم اجتياح العراق، وإسقاط النظام وما أعقبه من إعدام لصدّام حسين. إن الفقرة 33 من ميثاق الأمم المتحدة لا تزال سارية المفعول، وهي تشترط ما يلي:

ان الحل لأي خلاف بين أطراف معينة، من شأنه أن يهدد استدامة السلم والأمن العالميين، يقوم أولاً وأساساً على تشجيع الحلول عبر السبل الآتية: التفاوض، الاستفسار، الوساطة، التوفيق، التحكيم، التسوية القضائية، اللجوء الى الوكالات الإقليمية، أو أي أداة سلمية يُترك للأطراف المتنازعة اختيارها.

وعلى مجلس الأمن، عندما يرى ذلك ضرورياً، استدعاء الأطراف لتسوية نزاعاتهم بالطرق المذكورة.

غداة الحرب التي شنتها الولايات المتحدة بمعية حلفائها ضد القوات العراقية في كانون الثاني 1991، تبين (في كتاب بيار سالينجر، وايريك لورنت) أنه منذ الاجتياح العراقي للكويت في آب 1990 كانت هناك خطوات عديدة لمفاوضة صدام حسين حول الخروج من الكويت، ومن أجل تجنّب اندلاع حرب. لكن هذه المفاوضات أُحبطت بفعل سياسة الولايات المتحدة وأصدقائها في القاهرة والرياض.

وها هنا نمضي في موضوعنا متصيدين وغداً جديداً: الديكتاتور الليبي معمر القذافي. أعترف بأني رجوت من قلبي هذه المرة أن يتدخل الغرب والآخرون لمنع حصول حمام دم في بنغازي، بالتزامن مع إيماني العقلي بأننا سنخرّب كل شيء، مرة جديدة. فقد استطعنا الحؤول دون حصول حمام دم في بنغازي، الا انه انتقل الى مصراتة. أي اننا تدخلنا في حرب أهلية حقيقية، تختلف عما جرى في تونس، ومصر والآن سوريا، حيث نشهد مواجهة بين مدنيين عزّل وعسكر البلاد. على العكس من ذلك، نشهد في ليبيا مواجهة بين جيش منظم ومجموعات مسلحة ولو غير منظمة، تحاول الآن صنع بعض النظام في المناطق الخاضعة لسيطرتها، من خلال إما جنرالات كثر مشبوهين في جيش القذافي، أو بعض المنفيين القريبين من المركز الرئيسي لوكالة الاستخبارات الأميركية في منطقة لانغلي، الواقعة في ولاية فيرجينيا، التابعة للولايات المتحدة الأميركية. وعلى خط نقيض من الثورات العربية الأخرى، يظهر أن في ليبيا فريقين مسلحين مستقلين، حيث وقفنا الى جانب فريق منهما منذ 2003 من اجل انتشال الفريق الآخر من الخزي الذي يقبع فيه، فصقلناه وزودناه بالأسلحة والشرعية.

ففيما نركض خلف الأحداث، نرتكب كل الأخطاء الممكنة.

أعتقد أن التحليل التالي صالح، وأن الكتلة السكانية في سوريا في ظل الصراع الراهن يمكن أن تنقسم الى ثلاث مجموعات:

أولاً، المتظاهرون الشجعان والمستعدون للموت وهم يتحدّون القوة الوحشية، والمحملون بكل الدوافع الجيدة، وهؤلاء يطالبون بإزالة النظام. لا نعلم تعدادهم: ربما خمس السكان، أو اكثر، ربما أقل، البعض يتحدث عن انهم يشكلون 2 في المئة من السكان وحسب.

ثانياً، مجموعة كبيرة تريد تطبيق الإصلاحات عينها، انما من دون تغيير النظام، حيث تخشى العواقب: من سيمسك بزمام السلطة مثلاً، فضلاً عن اسئلة تتصل بالكلفة المطلوبة قبل إحداث التغيير؟

ثالثاً، مجموعة معتبرة تدعم النظام من دون منافسة ومن كل قلبها. وذلك إما لأنهم يثقون ببشار الأسد، أو لأنهم ممن يحصد ثمار الزبائنية والفساد.

ويذهب البعض بعيداً في القول انه من المستحيل تحديد عدد المنتمين الى كل من هذه المجموعات الثلاث، وأنا واثق من انه بالإمكان ذكر الكثير بعد، على سبيل المثال، الـ400 الف لاجئ فلسطيني الذين يحبسون أنفاسهم، فضلاً عن حوالى مليون لاجئ عراقي فروا أصلاً من حربهم الأهلية.

مؤخراً، قال الخبير في الشأن السوري باتريك سيل في حوار على «بي.بي.سي» أن شخصية بشار الأسد ارتسمت من خلال التهديدات العديدة والنزاعات التي طبعت عهده. أولا، ما حملته الحرب على العراق من تهديد مقنّع، كاد يكمل نحو سوريا. ولحسن حظ سوريا، لم تسر الأمور على أكمل وجه في العراق، لذا استطاع الأسد البقاء جالساً في الهواء الطلق. بعدها، جاء اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، حيث ألقي اللوم تلقائياً على سوريا، ولاحقاً جرى نقله الى «حزب الله».

هذه الاتهامات، بغض النظر عن الاتهام الأساسي، فعلت فعلها وأخرجت سوريا من لبنان.

وفي ما بعد جاءت الحروب الإسرائيلية، أولاً ضد لبنان ثم ضد غزة، إضافة إلى تفجيرين أو أكثر لمنشآت مشبوهة في سوريا.

هذه الأحداث خلقت نوعاً من جنون العظمة، وعلينا ألا ننسى انك حتى اذا كنت مصاباً بجنون العظمة، فالناس ستبقى تسير خلفك. فلو أراد الواحد كسر الجدار المسدود، يظهر أنه من الحكمة المبادرة الى محاولة معرفة تاريخ خصمك، وطريقة تفكيره، وذلك من دون الحاجة إلى قبول أفعاله، إنما من أجل المفاوضة من موقع معرفة بالشيء.

على الواحد أن يكون أكثر من ساذج كي لا يتوقع أن تلعب قوى خارجية دوراً في سوريا، أو تحاول أن تؤثر فيها، سواء أجاءت من أحد أعمام الرئيس، أو من نائب رئيس سابق، أو من مجموعات من لبنان أو من البلدان الأخرى المجاورة. بيد ان ذلك لا يعني بالضرورة وجود مؤامرة خارجية، لان مطالب المحتجين شرعية وقديمة. لكنها تعني، من جهة اخرى، وجود قوات في داخل وخارج سوريا تريد صب الزيت على النار. وها هنا اقترح استخدام بعض الماء لاطفاء النار التي قد تستعر، بحيث لا يستطيع اي كان ممن يهتم بسوريا وشعبها تأييد الفكرة المجردة.

اقتراحي هو جمع بعض الناس من المتمرسين في التوسط في النزاعات الدولية، والخبراء بالمنطقة، بحيث يستطيعون العثور على ممثلين للمستويات الثلاثة الموجودة في سوريا. على العملية أن تسعى في أحسن الأحوال الى حل النزاعات من خلال الاستماع الى الأطراف، وفهم مشاعرهم (المخاوف والأحلام) وحاجاتهم، ومن ثم الانتقال الى منصة تشعر الجميع بالاستجابة الى قضاياهم، وبحيث يستطيعون تغيير البلاد.

عليه، يجب علينا جميعاً أن نضع جانباً المحادثات الاوتوماتيكية حول العقوبات والإدانات. وعلى الجميع، طبعاً، إدانة استخدام القوة من قبل النظام السوري، لكننا في حاجة الى اختراعات أكثر، والمزيد من الابداع والاعتدال من أجل تغيير الوضع بالوسائل السلمية، التي ستكون أكثر نفعاً من الحلول والتفجيرات.

يمكن القول إن غالبية الناس قد تأخذ بعين الاعتبار فكرة التوسط في هذه اللحظة الدرامية من التاريخ السوري.

كتب الاستاذ الأميركي المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط دايفيد دبليو ليش، ومؤلف «الأسد الجديد في دمشق: بشار الأسد وسوريا الحديثة»، في 27 نيسان 2011 أن بشار الأسد لا يزال يحتفظ بثلاثة خيارات: أولاً، يستطيع الإمعان في سياسة إطلاق العنان للقمع العنيف للانتفاضة. بمقدوره عندها البقاء في السلطة، لكن في ظل تحوله الى شخص منبوذ دولياً.

ثانياً، يستطيع ممارسة التشويش، بخليط من الإصلاحات والقمع. ما يؤدي إلى خسارته شرعيته على المدى الطويل. أو أخيراً، يستطيع القبول بما لا يمكن الاستغناء عنه معلناً إصلاحا سياسياً جدياً يتضمن قانوناً جديداً للاحزاب وآخر للانتخابات، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور السوري التي تضمن قيادة حزب البعث، ومن ثم، وذلك هو الأهم، وضع سقف زمني للولاية الرئاسية.

لنحاول جميعاً من خلال الحوار والوساطة مساعدة بشار الأسد على انتقاء ذاك الخيار، وإعادته إلى المسار الذي اعتقدت هيلاري كلينتون وآخرون كثر، منذ فترة ليست طويلة، أنه سائر فيه.

ترجمة: حسن الحاف

([) كاتبة ووسيطة في حل النزاعات

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى