صفحات سوريةعمر قدور

تراتبيات سوريّة/ عمر قدور

 

شاعت في الآونة الأخيرة تحليلات حول ما يريد النظام الاحتفاظ به فيما لو سار بسوريا نحو التقسيم، وأيضاً تحليلات مشابهة حول القوى التي يهتم النظام بالتحالف معها، ويعتبرها دعامة قوية لبقائه، وتلك القوى الهامشية التي لا يوفّر إزاءها كل أصناف القتل والتدمير. وفق هذه التحليلات هناك “سوريتان”، سوريا مفيدة قوية وثرية، وأخرى فقيرة هامشية لا ضرر في التخلص منها، سواء بالتدمير أو التقسيم. سوريا المفيدة تضم العاصمة دمشق، ببرجوازيتها وبخاصة طبقتها التجارية، وصولاً إلى الساحل، أما غير المفيدة فهي سوريا الشمالية والشرقية التي تتمتع فيها الكتائب المعارضة بحضور قوي، ويُفترض أن تشكل “الدولة السنية” فيما لو حصل التقسيم.

ما يعيب التقسيم السابق أولاً قلة المعلومات المتوافرة عن سوريا. ثمة ستار حديدي أقامه النظام منذ عقود أمام الحصول على أي نوع من المعلومات، لذا يصعب على غير المتابعين جيداً معرفة ما هو هامشي وما هو مفيد حقاً، ذلك إن كان من ضرورة فعلية لإنشاء هذه التراتبية. ما يعيب هذا التقسيم تالياً هو الوقوع في فخ النظام نفسه، الذي كرس التراتبية المذكورة من خلال الإنماء غير المتوازن وغير العادل للمناطق السورية. فمنطقة الجزيرة السورية مثلاً كانت طوال الوقت خزان سوريا الغذائي والنفطي، وفيها أهم مصادر زراعة الحبوب ونسبة كبيرة من الاحتياطي النفطي الذي تتقاسمه مع المناطق الشرقية. الشمال الآخر، ريف حلب وإدلب، ينضم أيضاً إلى السلة الزراعية الإستراتيجية، فضلاً عن مكانة حلب “المدينة” التي تُعدّ العاصمة الاقتصادية والصناعية للبلاد.

خلال عقود من وجود النظام كانت هذه المناطق، التي تُصنّف الآن بغير المفيدة، هي المناطق التي تجبي أكبر غلة قياساً إلى الإنفاق العام فيها. على سبيل المثال كانت محافظة حلب ككل تحصل على عُشر ما تجبيه لصالح الخزينة العامة قبل عشر سنوات، بينما كانت دمشق تنال حصة تبلغ أكثر من عشرة أضعاف ما يُجبى فيها. أما النفط السوري فظل لعقود خارج الموازنة العامة تماماً، وبإشراف القصر الجمهوري مباشرة، في الوقت الذي تعاني فيه مناطق إنتاجه إهمالاً وفقراً شديدين. عن حاجة النظام الماسة لهذه المناطق نذكر أنه أبرم صفقات للحصول على النفط من جبهة النصرة وداعش اللتين تسيطران على حقول المنطقة الشرقية، وأبرم صفقات مماثلة وعقود حراسة لبعض الآبار مع لجان الحماية الشعبية الكردية في الشمال الشرقي.

هناك معرفة لا تزال ناقصة بالشأن السوري، يزيد من تضليلها تركيز الإعلام على مناطق محددة قد يكون لها أولوية إستراتيجية في الحرب، ويساهم إعلام النظام أيضاً في التضليل بالتقليل من شأن خساراته العسكرية في بعض المناطق. إلا أن الواقع يقول عكس ذلك، فالنظام غير مستعد حقاً للتفريط بمنابع الثروة الموجودة في المناطق الأكثر فقراً وتهميشاً، بل إن مغازلته لبعض الشرائح الثرية قائمة أصلاً على تقاسم السلطة والأرباح الآتية من هناك. مدينة مثل دمشق، بخلاف وزنها الرمزي كعاصمة تاريخية، لا تدر على النظام الأرباح التي بات بأمس الحاجة إليها بعد تورطه في الحرب، والإطلالة البحرية لن تجبي الأرباح الاعتيادية عندما لا تكون منفذاً للسلع المغادرة أو القادمة، ومنها النفط والحبوب والقطن. أي أن النظام يدرك أهمية السيطرة على كامل سوريا، ويدرك أن الترسيمة الشائعة للتقسيم لن تجعله يحظى بسوريا “المفيدة” على المدى البعيد، ومن المتوقع أنه يعلم تماماً الانهيار الذي سيلحق ببرجوازيته الفاسدة عندما ستفقد المنابع الفعلية لمصادر ربحها.

المستغرب على هذا الصعيد وقوع أنصار الثورة في فخ التراتبية ذاته. مدينة محررة مثل دير الزور “على رغم أهميتها النفطية” بالكاد حظيت بعد تحريرها بانتباه الناشطين وباهتمام القيادة السياسية والعسكرية، وظلت مجريات المعارك فيها بعيدة عن الإعلام إلى أن هاجمها النظام وداعش بقوة مستفيدين من ذلك الإهمال. الجزيرة السورية تُركت أيضاً ليسيطر عليها تنظيم كردي يحتفظ بعلاقة جيدة مع النظام، ولم تُبذل مساع جدية للتفاهم مع الأكراد حول مستقبلهم في سوريا. ولو لم تحمل درعا تلك الرمزية بوصفها مهد الثورة ربما كانت ستلقى المصير نفسه. مع ذلك لا يمكننا الحديث عن اهتمام بدرعا على قدر أهميتها الإستراتيجية الحالية بوصفها الطريق الأقرب إلى دمشق، الأمر الذي يدركه النظام فلا يتوقف عن قصفها بوحشية.

ما يؤسف في تبني هذه التراتبية، عن وعي أو بدونه، أنها تعيد إنتاج التوزيع غير العادل للنظام، والمرتبط بسلم مناطقي وطبقي قائم على الاستغلال والتهميش. الأهم أن ذلك يقفز فوق واقعة وحدة الجغرافية السورية عبر أغلب الأزمان، وهي لم تكن لتبقى كذلك لولا الحاجة المتبادلة بين مناطقها. تغيير هذا الواقع في اتجاه التقسيم لن يكون بالسهولة التي يقرر بها نظام سلّم بفقدان سلطته، لأن هذا سينطوي على تغيير الجغرافية السياسية للإقليم ككل.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى