صفحات العالم

طهارة القمصان السود وجماليات الشبيحة

يوسف بزي

بعد مقتل الشاب اللبناني هاشم السلمان (29 عاماً) على يد “القمصان السود” أمام السفارة الإيرانية في بيروت، يوم الأحد (9 حزيران 2013) انتشرت على صفحات “فايسبوك” عبارة للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: “لا تُعرَّف الفاشية بعدد ضحاياها، بل بالطريقة التي تقتلهم بها”.

ومتداولو عبارة سارتر هذه، يشيرون بلا مواربة على أن شبيبة “حزب الله”، بزيّها الموحّد الأسود، باتت فرقة فاشية، على غرار شبيبة موسوليني وفرانكو وهتلر بـ”قمصانها السود” ذاتها، وعلى مثال العصابات اليمينية في أميركا اللاتينية. فالقتل العمد أمام السفارة لا يؤخذ بوصفه “حادثة” بقدر ما هو عملية إعدام بدم بارد بحق إنسان أعزل. إنها عقوبة منزلة بحق كل من يريد الاعتراض أو الاعتصام أو التظاهر. فهذا “الاغتيال” هو على الأرجح بمثابة إعلان من “حزب الله” أن مرحلة حق الاعتصام وحق التظاهر وحق التعبير المدني السلمي في لبنان انتهت.

طريقة الفاشية في فرض قرارها على المجتمع والدولة هي العنف الجامح والممنهج. القتل عبرة للآخرين، درس نهائي. احتكار العنف وممارسته باتقان واقتصاد (مقولة “الجراحة الموضعية”). تعميم الترهيب كأداة سياسية يومية. توطين الخوف وإشاعته.

وسمة الفاشية في هذا النوع من ممارسة العنف السياسي، تكمن في تجنيد وتنظيم الرعاع والمراهقين وشحنهم بالكراهية والتحريض، وإيهامهم بأنهم ليسوا رعاعاً ولا مجرد فتية وشبه أميين وهامشيين، إنما هم “أشرف الناس”، أما المجتمع فهو خليط من المتخاذلين والخونة والعملاء وضعاف النفوس والرجعيين.. إلخ. هذا ما يسهل على شبيبة القمصان السود القيام بالقتل وإنزال القصاص بكل من يشتبهون به بلا وازع أخلاقي. و”الاشتباه” بالخيانة والعمالة بات وسواساً خاصاً وشديداً عند أصحاب القمصان السود والشارات الصفراء. ويتفاقم المضمون الفاشي في السلوك والتفكير، في حالة شبيبة “حزب الله”، طالما أنهم ينتمون إلى المقدس وينفذون إرادة المقدس، ويأتمرون بأوامر قائد مقدس.. لا يصنع “انتصارات” وحسب، لكن “انتصارات إلهية”. وعندما يكون النزاع بين كل هذا المقدس وناس عاديين، بشر على شبهة “الرجعية” و”ضعف النفس” و”التخاذل” و”العمالة” و”الخيانة”، فلا تردد بالقتل وارتكاب الجريمة والاستعداد لاقتراف حتى المجازر.

البعد الديني في هذه الفاشية ليس جديداً، يمكن نرى ذلك في النزعة الفاشية الإسبانية خصوصاً، ومن ثم في أميركا اللاتينية: حماية الإيمان الكاثوليكي بوجه الإلحاد الشيوعي.

وعلى هذا، ما يميز “القمصان السود” عن حلفائهم “شبيحة الأسد” ليس منسوب الفاشية ولا مقدار العنف ولا فارق أعداد ضحاياهم، بل الأسلوب. فأتباع حزب الله أصوليون، أما ميليشيا الأسد فهي حداثية. الصنف الأول متزمّت والصنف الثاني متحلل. يمكن رؤية ذلك في لحظة سقوط بلدة القصير، ميليشيا “حزب الله” اندفعت حاملة راية “يا حسين” لترفعها فوق مئذنة مسجد شبه مدمر، في حركة ثأر رمزية تتصل بغياهب تاريخ “الفتنة”، فيما اندفعت قطعان الشبيحة نحو السلب والنهب والإعدامات الميدانية للأسرى والمصابين. الفارق أيضاً، أن عنف “القمصان السود” منظّم ومدروس وفائق اللؤم، فيما عنف “شبيحة الأسد” فهو عشوائي وشامل وفوضي وفالت من عقاله وفائق الوحشية.

هناك أيضاً فارق اجتماعي بين البيئتين اللتين تصدر عنهما فاشية “الشبيحة” و”القمصان السود”. صحيح أن عناصر الشبيحة هم على الأغلب فقراء وهامشيون ومتبطلون ومن زعران الأحياء وصغار الكسبة، إلا أنهم مجرد مجندين للدفاع عن أصحاب الامتيازات والأثرياء وبطانة الطبقة الحاكمة. ولأن هذه الطغمة الحاكمة، التي تحتكر الثروة والسلطة في آن، هي أساساً ذات هوية طائفية، وتمارس التمييز الطائفي، فإن أولئك المجندين هم أبناء تلك الهوية الطائفية، ويقاتلون بوهم انه يدافعون عن طائفتهم وعن وجودهم، كطائفة وجماعة، ولذا هم يتوغلون بالوحشية والقسوة والقتل الجماعي بحق أغلبية السكان التي تحمل هوية طائفية مغايرة. إنهم ينفذون “المهام القذرة” لصالح طبقة المرفهين والأثرياء وأصحاب الامتيازات.

يمكن رؤية ذلك أيضاً في اليوم التالي لسقوط بلدة القصير. فبعد المعارك التي أودت بالمئات من المتحاربين، وبعد الدمار شبه الشامل الذي حل بالبلدة، وتهجير السكان عن بكرة أبيهم، وبعد استيلاء القوات الموالية للنظام عليها، وصلت الباصات الحديثة المكيفة، ونزلت منها مجموعات من المؤيدين للنظام المدنيين (الذين يطلق عليهم صفة “المحبكجية”) تبدو عليهم علامات الرفاهية، الأناقة، الأزياء الحديثة وفق الموضة، تصفيفات الشعر، النظافة التامة، النظارات الشمسية الباهظة الثمن، الفتيات “السافرات”، السترات الموحدة التي طبعت عليها صور بشار الأسد التي تتوسط العلم البعثي.

بدا “جمالهم” وسط الخراب والدمار، ومنظرهم النظيف هذا الذي تلا مباشرة المشاهد المروعة لما كان يجري في القصير على مدى شهور، وما حفظناه منها من صور لسكان فقراء مهلهلي اللباس وسيئي الحال ويغلفهم البؤس والعوز… بدا مشهد الموالين في “سياحتهم” اشبه بحفل عرض أزياء على منصة من جثث. تلك الأناقة الحديثة بدا ان شرط تحصيلها وشرط اتمامها وشرط الحفاظ عليها ليس اقل من تدمير سوريا كلها وقتل معظم سكانها. ثمن الرفاهية واسبابها هو مذبحة. هذا ما يمكن وصفه بانه “الجمالية الفاشية”. إنجاز خاص بالنظام السوري.

استثنائية واقلوية الرفاهية الخاصة بالموالين للنظام يقابلها عمومية الفقر والرثاثة عند عموم السوريين. هكذا يتداخل نظام الامتيازات الطبقية مع التمييز الطائفي تداخلاً حميماً.

بالمقابل، فان بيئة “القمصان السود” تختلف في أنها منحازة إلى عصبية أصولية، قائمة على معتقد “المظلومية” و”الحرمان”، وهي لذلك تتصف إجتماعياً بالتكافل والتعاون و”الصدقة” واحتضان الفقراء، لكنها وعلى نحو أيديولوجي، ترفع “الحرمان” من اعتباره واقع اقتصادي مذموم إلى مصاف ديني وجوهري وهوياتي، فهو على سوية “الحق” و”الطهارة”، هو كينونة أصلية ممجدة. ولذا فهي بيئة تجنح عمداً إلى مناقضة الجماليات الحديثة برثاثة مصنوعة ومقصودة. ويتم العمل على ديمومتها أيديولوجياً ، في التفكير وفي السلوك وفي المظهر.

فاشية “الشبيحة” (العلمانية!) تهدف الى ضمان بقاء طبقة المميزين في غَرْفَهم من مفاسد الحياة، عبر قتل الآخرين بلا رحمة. أما فاشية “القمصان السود” (الدينية!) فلا تهدف من الحياة شيئاً سوى طلب الموت لنفسها وللآخرين.. حباً بالآخرة. وتلك هي الفتنة الأعظم.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى