كتب ألكترونية

ظل الريح/ كارلوس زافون

 

 

مقبرة الكتب المنسيّة.. موتُ الحكايات وبعثها/ رنوة العمصي

“هذا المكان سرّ يا دانيال، إنه معبدٌ، حرَمٌ خفيّ. كلّ كتابٍ أو مجلد هنا تعيش فيه روحٌ ما. روح من ألّفه وأرواح من قرأوه وأرواح من عاشوا وحلموا بفضله. وفي كلّ مرّة يغيّر الكتابُ صاحبه، أو تلمس نظراتٌ جديدة صفحاته، تستحوذ الروح على قوة إضافية”.

في مقبرة الكتب المنسية، حيث تُدفن الكتب التي لا يقرأها أحد، أو التي راحت طيّ النسيان، يمكن لأحدهم أن يتبنى كتابًا، يخرجه من مقبرته، ويتعهده بالحفظ ما حيي. لم يكن “دانيال سيمبيري”، حين صحبه أبوه في صغره، يعلم حين اختار مصادفة كتابًا منقوشًا على غلافه العنوان “ظلّ الريح” لكاتبه “خوليان كاراكس”، ليخرجه من المقبرة أن الأمر يمكن أن يتجاوز ذلك، لكن الكتاب الذي خرج من المكتبة، بعث إلى الحياة بكامل روحه، هو وحكايته وحكاية كاتبه ومن قرأوه ومن صدقوه ومن أحبوه ومن كرهوه. بعثٌ كامل يحتشد بالقصص التي تتوازى ثم تتشابك ثم تبتعد كموج متلاطم، بإيقاع ساحر يتسارع ويهدأ، لكنه يبقي قارئه متيقظًا ومشدودًا طوال حوالى 550 صفحة. “ظل الريح” لكارلوس زافون ومن ترجمة معاوية عبد المجيد، صادرة عن منشورات الجمل 2016.

يقرأ الفتى ذو العشر سنوات الرواية، فيغرم بها، على أنه لايعي كلّ مافيها، حتى أنه يضيعها لبعض الوقت، ويسعى لاستعادتها، فتقوده المصادفات وفضوله إلى تتبع حكاية كاتبها، الذي تتضارب الأقوال حول اختفائه، أو موته، ثم عن نسبه الحقيقي، وسر انتسابه لأمه بدلاً من أبيه، وقصة حبّه ومقتله ثم موت حبيبته. هكذا، تسير الحكايتان جنبًا إلى جنب، حكاية  الفتى القارئ ابن بائع الكتب “دانيال سيمبيري”، وحكاية الكاتب خوليان كاراكس الذي تتكشف حكايته مع تتبع دانيال لها. كل هذا يحدث عبر سنوات، يكبر فيها الفتى ويتعمق فهمه ووعيه، ويتفتح شيئًا فشيئاً مع مضي الوقت ومع تقشيره بصلة الحكاية واكتشافه كل مره مستوىً إضافيّاً منها. رواية بمستويين، لحكايتين تسيران بالتوازي، ينسجهما الكاتب باقتدار، حيث تتوالد القصص، وتظهر الشخصيات وتُرسم الأماكن. ويختار زافون النهاية ليخلق لحظة اشتباك بديعة بين الحكايتين، إذ يلتقي دانيال بخوليان الذي نكتشف أخيرًا بأنه حيّ يرزق، وأن الصبي الذي افتتن بكاتب وصار يتبع أثره، كان نفسه محط افتتان من كاتبه المفضل، الذي بقي يراقبه، ويراقب نبشه للحكاية من بعيد.

يمتد زمن أحداث الرواية إلى حوالى 10 أعوام، وإن أضاء الكاتب على شخصياته بعد 10 سنوات أخرى، إلا أن متن الرواية تحرك في حدود العقد من الزمان، الذي تبع الحرب الأهلية في إسبانيا حيث تدور الأحداث، لذلك تجد ظلال الحرب بادية على الأحداث وعلى المكان بصفاته، وعلى الشخصيات أيضًا. للحرب أثر يمتدّ على الناس، فهي إذ تمضي يبقى تجارها ومنتفعوها، وجرحاها وخائفوها، ومنتصروها ومهزوموها ومشرّدوها، وهؤلاء كان حضورهم في حيز هذا الأثر باديًا وموظفًا في السياق كما يجب، فتجد زافون يحاكم الحرب عبر نمو شخصياته وتطورها، فالأنقى والأكثر يضمحل ويتوارى، فيما يتعاظم شأن القتلة والانتهازيين مع مرور الوقت، حتى بانقضائها، كأن الحرب مهنة، لا تنتهي بانتهاء عمل آلتها، تبقى بطريقة ما وأساليب أخرى، وهو ما تركه زافون يعمل في نفس شخصياته.

وبتأمّل شخصيات “ظلّ الريح” التي عمّرها زافون، نجدها شخصيّات متنوعة متحرّرة من كاتبها، لا تكاد تشعر بسطوة زافون عليها، تنمو وتتطوّر. بالكاد تجد شخصية في الرواية بقيت على حالها، كما لم يكن شعور القارئ ليبقى حيالها واحدًا، دانيال سيمبيري مثلًا، يتعرف القارئ إليه ولدًا مراهقًا بكتاب لا يعي قيمته، ينتهي رجلًا عاشقًا يحمل حكاية حبّ ولعنة نصّ تعلّقت روحه به، وكاتبٌ هو خوليان كاراكس حالمٌ يفقد حبه، يصوره زافون شابًا وسيمًا ذكيًا وخفيف الظل، يستحيل رجلًا ناقمًا على نفسه إذ يفشل في الدفاع عن حبيبته، وناقمًا على كتاباته، يجوب الأرض بحثًا عن كتبه ليحرقها، فتطاول النار جسده ووجهه ويبقى من دون معالم متخفيًا، متتبعًا كل من يحمل شيئًا من كتابته ليقضي عليها، كما قضى على وجوده بافتعال حكاية موته، وفي طريقه إلى كل هذا، يصبح مجرمًا خفيًا بوجهٍ مشوه وقلبٍ ليس أقل تشوّهًا.

صنع كارلوس زافون شخصيات متباينة الخلفيات والأمزجة، معظمها نمت دراميًا في اتجاهات مختلفة، بشكل مقنع غير مختلق، وبتفقد هذه الحالة الحيّة في روايته فإنه لابد لنا وأن نتوقف عند شخصية “فيرمين روميرو دي توريس”، وهو مناضل وطني سابق وسجين طاوله الحبس والتعذيب ثم التشرّد والملاحقة، أورثه هذا كله سلوكًا نزقًا وجسارة ولا مبالاة من جرّب الأسوأ، وخفّة ظل بكوميديا سوداء وسخرية مرّة، وعلى كل ما في هذه الشخصية من حدّة واحتمالات لا نهائية، وأفق بناء وتوظيف، فإن زافون لم يترك فيرمين روميرو دي توريس هذا وشأنه، ولم يحافظ على قالب هذه الشخصية راضيًا بنزقها وجنونها، وهي كافية إن بقيت على حالها، ولكن أوقعه في غرام امرأة محافظة طيبة تزور الكنيسة كل أحد وتترك زغب شعر ذقنها ينمو زهدًا! وترك السِّحرَ يحدث، فيكفّ الرجل النزق عن المجاهرة بإلحاده ويصير يصحبها إلى الكنسية راضيًا ومحافظًا على قناعاته السابقة، بل ويأمل هذا الملحد العدمي أن يكون عاشقًا صالحًا لأن يصبح زوجًا وأبًا!

حافظت الرواية رغم تمدد حكاياتها وتجدد شخصياتها، على محورها الذي بقي يشد شباكها إلى خيط واحد مهما تشعّبت، لتدور في جوهر فلكها الأساس وهو “ظلّ الريح”، الرواية التي صار قارئها يتتبع كاتبها حبّاً، وكاتبها الذي يتتبع نسخة كتابه بهدف إتلافها أو إتلافها هي وحاملها، ثم ما يلبث أن يفتتن بهذا الصبي العاشق الساذج، ليجد شبابه ماثلًا أمامه فيه، وأنت قارئ يتلصص على قارئ يتلصص على كاتب، والعكس. هكذا بإمكان الصورة أن تذهب عمقًا وتضيق أو تتسع وتقترب من السطح..

ينطوي هذا العمل الروائي الغنيّ على أجواء من الواقعية السحرية التي تذكرنا في كثير من الأحيان بمذاق روايات غابرييل غارسيا ماركيز، وهو تشبيه طرح في أكثر من موضع نقدي تلمّس التقارب في النفس السردي بين الكاتبين في كثير من الأحيان، خصوصًا مع تجلي الرسم البديع للأماكن، وحضور الشخصيات الغرائبية التي تعج بها الرواية، إضافة إلى الرموز والأجواء السحرية المحتشدة بما هو بين الواقع والماوراء، والمصادفات الغريبة، والملابسات التي تترك بعض الأحيان بلا تفسير. غير أن اعتماد الكاتب على حبكة فيها حسّ البحث والتتبع، والملاحقة، رفع منسوبها عندما أشرك فيها رجل أمن وملابسات جريمة قتل، أضفت إليها ملمحًا لم يخلُ من حسّ بوليسي كالذي اشتهر به الكاتب دان براون، اكتشاف إثر اكتشاف، وحالة تتبع وترقب وتشويق. عمل يحمل الكثير من زخم عوالم ماركيز، وتشويق دان براون وقدرته على نسج وتوليد الملابسات، وليس هذا التشبيه إلا من قبيل تقريب التصوّر، فهذا الكاتب قدم عملًا بنفس سردي خاص به، ذاكرة لاتعوزها الصور غير المستهلكة، وبناء غاية في الإحكام والغنى الفنيّ، عمل لا يخلو من حسن صنعة ولا من إبداع وجمال.

لتحميل هذا الكتاب من أحد الرابطين التاليين

 

 

الرابط الأول

ظل الريح/ كارلوس زافون

 

الرابط الثاني

ظل الريح/ كارلوس زافون

 

 

صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت

كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى