صفحات الرأيعبدالناصر العايد

عاشق الإسلام الأب باولو دالوليو متجولاً بين الجزائر وفلسطين وسورية/ عبدالناصر العايد

 

 

يعتقد البعض أن الثورة السورية أتاحت لرجل الدين المسيحي الإيطالي باولو دالوليو البروز من خلال الآلة الإعلامية للثورة التي برز من خلالها سياسيون ومثقفون ونشطاء وعسكريون، كانوا مغمورين وغير فعالين حتى الأمس القريب. لكن قراءة متأنية لتجربة الرجل، تكشف أن ظهوره ذاك، ابتسر شخصية استثنائية، وقصرها على ملامستها للثورة السورية، على رغم أنها جاءت من مواقع ربما أكثر ثورية، في الدين والفكر والسياسة.

إن تقاطع سياق الثورة السورية مع ثورة باولو الخاصة، لم يغير أو يحرف مساره الممتد لأكثر من عقدين، ووفر الحدث السوري فقط تلك اللحظة التي غاص فيها عميقاً في مساره الخاص، حين توجه إلى مقار «داعش» في الرقة، طالباً مقابلة زعماء ذلك التنظيم، ليختفي بعد ذلك.

وبعد سنة، تبدو لحظة الاختفاء تلك، أكثر تعبيراً وتكثيفاً لشخصية الرجل، ودلالة على أهميته الراهنة والمستقبلية، بما لا يقارن مع لحظة ظهوره العابر.

عاشق الإسلام

ولد باولو في روما عام 1954 لأسرة دينية. كان والده قيادياً في الحزب المسيحي الديموقراطي الإيطالي، انتسب باولو إلى الحزب الاشتراكي الإيطالي عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وعندما انفصل عن ذويه بعد سنتين، رغب في أن يعيش «الالتزام المسيحي الاشتراكي»، وكان ذلك منسجماً مع موجة «لاهوت التحرير» التي ازدهرت مطلع الستينات، ومع التوجه الجديد للكنيسة في «المجمع الفاتيكاني الثاني» نحو قبول الأديان الأخرى ومنها الإسلام. في 12 أيار (مايو) 1974 قال باولو: «دعيت لخدمة الإنجيل في أي مكان من العالم، بقبول عميق وحب للتعددية، فالإنجيل يصبح عالمياً عندما يحب العالم على تنوعه، وليس عندما يفرض نفسه عليه». التحق بالرهبانية اليسوعية «الجزويت» عام 1975، راهباً مبتدئاً، وفي خلوة الشهر «الإغناطية»، دعاه «الرب» كما يقول إلى أمور خمسة: البقاء في الرهبانية، ومغادرة بلاده وخدمة الرب خارجها، وهنا ظهر أمامه بما لا يقبل الشك العالم الإسلامي، والاهتمام بالفقير بخاصة الفقير الروحي، والاستعداد للفشل، وقبول العذاب في سبيل الله والقريب.

زار تركيا وسورية والأردن والقدس وبيت لحم، وأوفد عام 1977 لدراسة اللغة العربية في الجامعة اليسوعية للقديس يوسف في بيروت، التي ما لبث أن غادرها بسبب الحرب الأهلية إلى مصر، وهناك سقط مريضاً فعاد إلى إيطاليا.

درس لسنتين في كلية الاستشراف التابعة للحكومة الايطالية، ووصل إلى سورية عام 1981 لاستئناف دراسة العربية، والتسجيل في الوقت ذاته في كلية الشريعة بجامعة دمشق كمستمع حر، فاستمع لمحاضرين مثل الشيخ البوطي، وفي المساء كان يرتاد حلقات التدريس في المساجد ليستمع إلى شيوخ الدين هناك مثل الشيخ اليعقوبي والشيخ أحمد كفتارو، كما ارتاد حلقات الصوفيين عند قبر محيي الدين بن عربي في جبل الأربعين. عاد بعد سنة إلى روما ليدرس اللاهوت، ويتابع دراسة الفلسفة في جامعة نابولي، وكانت موضوعته حول «النقد الإسلامي لعقيدة الثالوث».

وفي صيف 1982، زار المنطقة وتصادف ذلك مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان، فتطوع هناك مع مندوب من الفاتيكان كمسعف، وزار بعد ذلك دير مار موسى في سورية الذي كان خربة منسية، بقي فيه منفرداً بعد أن كسرت ساقه لعشرة أيام متواصلة، قرر خلالها أن يرممه ويجعله مقراً لدعوته الحوارية. عاد إلى إيطاليا وأكمل دراسته في روما ونابولي عام 1984. ورُسِّم كاهناً، ثم درس الأديان المقارنة في كلية الدعوة، وعاد إلى سورية ليعمل في حلب لمدة سنتين مهتماً بالشبيبة، ثم نال الدكتوراه في روما عن دراسته «مفهوم الرجاء في الإسلام» عام 1989، قضى بعدها ستة أشهر في الفيليبين، ثم توجه إلى دير مار موسى مجدداً ليقيم فيه في شكل نهائي ويتفرغ لترميمه وإصلاحه اعتباراً من عام 1991. وفي عام 1992، طرد من سلك الرهبنة اليسوعية، بسبب أفكاره حول الإسلام، لكنه لا يحبذ الحديث حول هذا التفصيل، ويكتفي بالقول إن طرده ناجم عن «عدم فهم مشروعه والتخالف في الرأي»، وأعيد إلى الرهبنة عام 1997.

منحته جامعتا لوفين ولوفان لقب دكتوراه فخرية من أجل عمله المتعلق بالحوار المسيحي – الإسلامي. يقول عنه عالم السياسة الفرنسي الشهير ريجيس ديبريه الذي كتب مقدمة كتابه المثير للجدل «عاشق الإسلام مؤمن بعيسى» إنه «وريث الأب شارل دي فوكو ولويس ماسينيون، مستقيم استقامة نبي، وموقفه لا يمكن أن يلتاث بالخداع أو المخاتلة، وهو في ردوده على المحكمة الفاتيكانية وملاحظاتها المتاخمة للاحتجاج والاستنكار، ضاعف من مقدار رهانه، لا بل وزيّنه بريشة، معلناً محبته للإسلام، وكأنه بذلك يريد أن يكسر حدة رهاب الإسلام (islamophobie) ويعكس اتجاهها نحو الـ (islamophilie)».

جمعية البدلية وجماعة الخليل

اتسم الجدل القديم/ المستمر، بين العالمين المسيحي والإسلامي، بالجمود لقرون طويلة، وتناولت المؤسسة والفكر اللاهوتي المسيحي الإسلام والعالم الإسلامي، بطريقة سطحية وبرانية، تحكمها العواطف الدينية المضادة، والتصورات غير الواقعية، والمعرفة غير المكتملة، وأسفر ذلك عن مواقف سلبية، رسخت الجفوة والتوتر بين الدينين الواسعي الانتشار.

لكن الحقبة الاستعمارية التي شهدت عناية ملحوظة بدراسة العالم الإسلامي وفهمه على نحو أكثر موضوعية وعقلانية، انعكست إيجاباً على المؤسسة الدينية المسيحية التي تخلت تدريجاً عن تصوراتها ومواقفها السابقة من الإسلام، لكن من دون أساس معرفي لاهوتي متين تؤسس عليه التوجهات الجديدة، وهذا ما حدا ببعض اللاهوتيين للاندفاع إلى عمق العالم الإسلامي، لتفحصه ودراسته عن كثب، وإنشاء رؤوس جسور لعلاقة مستديمة ومتطورة معه، ربما كانت محاولة الأب باولو وعمله الذي لم يسلط عليه الضوء الكافي بعد، ذروتها الأكثر تقدماً ونضجاً، وهي تستند إلى عمل رجلين سبقاه في هذا المضمار، هما شارل دي فوكو ولويس ماسينيون، ويستقي منهما باولو الكثير من المبادئ والأساليب في عمله الخاص، ويعلن في شكل واضح أنهما مرشداه الأساسيان، ويعتبر جماعته الرهبانية التي أسسها في دير مار موسى وسماها «جماعة الخليل»، جزءاً من «جمعية البدلية» التي أسسها لويس ماسينيون مع ماري كحيل في مصر، وهي جمعية مسيحية صغيرة للصلاة سمياها «البدليَّة» استمد اسمها من التراث الصوفي الإسلامي، مكرسة للشفاعة من أجل الإسلام، وتقوم على ما كان يشعر بقيمته الكبيرة «التألم من أجل الآخرين، هجرة داخلية نحو الآخر ومشاركة حقيقية في حياته وضيافة في القلب»، أو كما تقول ماري كحيل التي شاركت ماسينيون التأسيس «لقد قدمنا نفسينا من أجل المسلمين، لا لكي يصيروا مسيحيين، بل لتحقيق مشيئة الله فيهم وعبرهم، نريد أن نجعل صلاتهم صلاتنا، وحياتهم حياتنا، وأن نقدمهم للمولى». وقد اعتمد ماسينيون أيضاً على أفكار شارل دي فوكو الذي ولد في ستراسبورغ 1858، ليصبح ضابطاً في الجيش الفرنسي العامل في الجزائر، لكنه طرد منه لسلوكه الماجن وهو في الثالثة والعشرين، فقام برحلة استكشافية إلى المغرب متنكراً بزي يهودي، فتأثر بالدين الإسلامي، ومع أنه يقول: «لقد ولّد الإسلام في نفسي اضطراباً عميقاً، لقد استهواني إلى أقصى الحدود»، إلا أنه عاد إلى فرنسا ليصبح راهباً كاثوليكياً ويتوجه إلى الشرق، حيث زار القدس، وعمل في أديرة هناك، وعندما أصبح كاهناً انتقل إلى الجزائر، ليعيش بين سكان واحة بني عباس الصحراوية بين الناس العاديين، وبدلاً من التبشير خاض معركة ضد العبودية، وكتب في هذا الخصوص رسائل إلى مسؤولين دينيين كبار في الدولة الفرنسية الاستعمارية «إنكم تكتبون على الطوابع وفي كل مكان: حرية، مساواة، أخوة، حقوق الإنسان وتقيدون العبيد بقيود من حديد»، ثم توجه إلى جنوب الجزائر، حيث عاش في قرية صغيرة بالقرب من «تامنراست»، وتبادل الرسائل مع لويس ماسينيون، وقال في إحدى رسائله إنه «لا يعتقد أن يسوع نفسه يريد أن نبشر به الطوارق، بل إن ذلك سيكون الوسيلة لتأخير هدايتهم وليس لتقريبها، يجب بالأحرى أن نمضي في ذلك متمهلين، أن نتعرف إليهم، أن نتخذهم كأصدقاء».

وفي فصح عام 1908 كتب القوانين لجمعية من المسيحيين «الطيبين» من الجنسين، تهتم بالعمل من أجل غير المسيحيين في المستعمرات، وتوجه إلى فرنسا لدعوة من يرغب بذلك، وهناك التقى لويس ماسينيون وبدأ بتأسيس «اتحاد إخوة وأخوات القلب الأقدس»، ثم عاد إلى متنسكه في جنوب الجزائر، وشرع بتأسيس تقاليد الضيافة في معتزله من دون تفريق بين صديق أو عدو، مسيحي أو مسلم.

كان دي فوكو في 12/1/1916 قد انتهى للتو من كتابة الرسائل بانتظار موظفي البريد في صومعته الصحراوية النائية، وجاء في إحداها «إننا لن نحب بما يكفي أبداً» عندما هاجمته زمرة من المسلحين المسلمين، بقصد السرقة، أو اتخاذه كرهينة، وفي تلك الأثناء وصل موظفو البريد فجأة، فخاف المسلحون، وعمدوا إلى قتله ثم هربوا.

وقد حمل لويس ماسينيون على عاتقه مهمة استكمال مشروع فوكو الذي يقول أيضاً إنه كان أحد شفعائه في محنته عندما اختطف في العراق إبان قيامه ببحثه المهم حول الحلاج، والذي تعرف ماسينيون بفضله إلى العالم والثقافة الإسلامية عن قرب، ما ساعده في تطوير الإرث الروحي لفوكو والحفاظ عليه، حتى وصل إلى يد باولو الذي استأنفه ووضعه في التطبيق الفعلي، متخذاً من دير مار موسى منطلقاً له.

دير مار موسى الحبشي

يقع دير مار موسى في جبال القلمون على بعد 15 كيلومتراً شرق النبك (80 كيلومتراً شمال دمشق)، كان برجاً رومانياً لمراقبة طريق التجارة، بني في القرن الثاني الميلادي على جبل صخري يرتفع 1320م عن سطح البحر، وحين صار البرج مهجوراً، بدأ الرهبان المنقطعون للعبادة في الجبال المجاورة يرتادونه كل يوم أحد لإقامة القداس الجماعي، وتدل الكتابات الجدارية على أن بناء كنيسته الحالية يعود إلى حوالى عام 1058م، وقد استمرت الحياة الرهبانية فيه حتى علم 1831م، حيث هجره آخر الرهبان، وحوله الرعاة إلى ملجأ لهم ولمواشيهم، لكن أهالي المنطقة ظلوا على تبجيلهم للمكان، وواظبوا على زيارته بورع، وأوكلت شؤونه إلى كنيسة مطرانية حمص وحماه والنبك للسريان الكاثوليك.

أسس باولو جماعة رهبانية مختلطة من الرجال والنساء في الدير، تقوم على مفهوم الضيافة الإبراهيمي، وقد لاقت هذه الدعوة نجاحاً مدهشاً، فالناس يتوافدون على الدير ليس من السكان المحليين فحسب، بل ومن أنحاء العالم كافة، وتتمحور حياة الجماعة والضيوف حول ساعة التأمل الروحي في المساء. الضيافة تتم في ظروف مريحة ببساطتها، ويتيح الدير لمن يرغب ويحتاج إلى المكوث مدة طويلة لأجل التعبد والتأمل الشخصي والمشاركة في حياة ورسالة الجماعة، كما يمكن التطوع لبضعة أشهر.

قدر عدد زوار الدير عام 2009 بثلاثين ألفاً، من مختلف القارات والدول والأديان والجنسيات، وأقيمت في الدير ندوات كثيرة بخصوص الحوار المسيحي – الإسلامي، وشارك أعضاء جماعة الخليل بالفعاليات والمؤتمرات والأنشطة كافة المتعلقة بهذا الشأن.

إسلام باولو

يقول ريجيس ديبريه في تقديمه لكتابه «عاشق الإسلام مؤمن بعيسى»، إن «الإسلام بالنسبة لهذا الأوروبي، ليس موضوع دراسة جامعية، كما أنه ليس افتتاناً رومانسياً، وإنَّما عناق لهذا الدين بكل ما يكتنفه من صعوبات وغموض وحركية، وقد أدار ظهره للنموذجين المتعارضين في المعنى اللذين ينمطان صورة الإسلام في العقل الغربي: إما في البستان الأندلسي القديم الذي يمثِّل الخير، وإمَّا في الذبّاح الأفغاني المـعاصر الذي يمثِّل صورة الشَّر».

ويعبر باولو بكلمات مختصرة عن علاقته بالإسلام بقوله: «أرغب في أن أكون جزءاً من الإسلام، وأن أُنذر لمحبته، ولمحبة محمدٍ أولاً، صلى الله عليه وسلم، وعلى أمته السلام»، لكنه يحذر من الفهم المتعجل لعباراته، ويقول في شكل واضح إنه يعيش علاقته بالإسلام كنوع من الانتماء، وإيمانه المسيحي غير مُقَنَّع أو مُنتقص نتيجة هذا الانتماء، بل على العكس، فهو يريد أن يكون متطابقاً مع العقيدة وكاملاً ووفياً لديناميته الخاصة به، ويوضح «عندما أقول إنني أنتمي للإسلام، أعني أنني أنتمي إليه من المنظار الثقافي واللغوي والرمزي، في العالم الإسلامي أشعر بعمق انتمائي كما في وطني، أنا مسلم بسبب حب عيسى للمسلمين والإسلام، أنا مسلم وفقاً للروح وليس طبقاً للحرف، لأن الكلام يقتل، والروح تُحيي»، و«علاقتي بالشريعة الإسلامية، وبالقرآن، وبالنبوءة يقيمها ويميزها ويـــقررها ويقـــودها روح المــسيح، بمعنى آخر أنني أخـــتبر كـــيف أن عيسى الحي فيّ بدافع من إحسانه يلتقي بالإسلام بكل أبعاده»، ويؤكد أن انتماءه الثنائي يتطابق ومجرى حياته، حيث أرسلته «الكنيسة المولعة بالكونية، والعاشقة لثراء الشعوب الروحي، ليصب عجينة هويته المسيحية في قالب الإسلام»، وهذا اقتضى منه القيام بجهد التواصل الضروري كي يشرح ويوضح هذا التطور الذي طرأ على هوية الكنيسة والإسلام، على حدٍ سواء.

ويلخص معنى الانتماء الثنائي، فيقول إنه «يكمن في الدينامية الوجودية والسياقية، وفي تعميق وتجاوز أيِّ تبلورٍ متحجرٍ يتعلق بالهوية، فنحن ننظر إلى صورتنا في الماء الجاري، وتتغير صورة هويتنا باستمرار نتيجة جريان الماء نحو الوادي، ليس ضرورياً الوصول إلى تعريف ثابت للوعي الذاتي المتعلق بالهوية، لكن من المهم الانفتاح والمشاركة بطريقة تحاورية حول مجيء الأوحد، في تعددية عرضية تظهر بألف وجه من مجده، يعني هذا التعبير الواضح المكون من كلمتين متعارضتين طريقة للسير نحو الآخر، قد تكسر هذه الطريقة الهويات المتجمدة المختزلة، قد لا يكون السير نحوه عبارة عن اندماج، أو ببساطة مزج، وإنما انثقاف عميق، يحترم أيضاً هويات الكنائس المسيحية في وسط إسلامي».

لكن باولو لا يخفي قلقه، فانتماؤه الثنائي هذا مهدد بالرفض من جانب الأمة الإسلامية والكنيسة على حد سواء، مع أنه يفعل ذلك «لأن الكنيسة فيّ تتجه نحو الإسلام، وتريد لقاء المسلمين، والتعرف إلى عمل روح الله في الخبرة الدينية الإسلامية، وهذا لا يمنع من وجوب احترام إرادة الإسلام في أن يبقى ذاته، من دون أن يسمح للآخر بابتلاعه، من طريق بهلوانية كلامية».

لا يجد باولو فائدة من القول إن الإرهابيين ليسوا بمسلمين حقيقيين، أو القول إن ربط ممارسة العنف بالدين إساءة لهذا الدين، وبدلاً من ذلك يدعو الغرب المسيحي إلى استذكار حقيقة أن التقاليد الدينية المسيحية استخدمت العنف في كل الأوقات، وأنه «يستحسن أن تعترف كل جماعة من تلقاء ذاتها بجذور هذه الانزلاقات العنفية التي لا تزال محتملة داخل جماعتها، وسيجبرها تأنيب ضميرها للبحث مجدداً عن جذور حقدنا العميقة، وبالنتيجة القيام بخيارات مسؤولة»، فـ «العنف والسلطة المقدسة هما تاريخنا جميعاً».

وللتميز بين الدعوة التي نذر لها نفسه وبين التبشير المسيحي، المحرم في المجتمعات الإسلامية يقول باولو: «من المفيد تكرار هنا أنني لا أشعر بنفسي أنها راغبة بهداية المسلمين إلى المسيحية، حتى ولو كنت أشعر برغبة هائلة في أن أهتدي وأخدم العمل الإلهي الذي يجعل أشخاصاً يصبحون مسلمين، وآخرين مسيحيين، هنا ثمة تعبير عن حرية الله إزاء الحتميات الثقافية واللاهوتية، من غير الممكن الحصول على قانون مطلق لذلك الذي يأتي من السماء»، أما عن كيفية تطبيق ذلك عملياً، فهو يعتقد بأنه تدريجي ومن خلال «الحوار الذي يُدار ضمن إطار ديموقراطي وتعددي، على المجتمعات القيام بخيارات مستمرة التطور، حسن الجوار هو فكر، ودينامية، وليس سلسلة من القوانين».

من النقاط المثيرة للجدل في مشروع باولو نظريته في شأن الأصل الإبراهيمي للإسلام، وهو يجهد ويجتهد لإثباتها، وبناء الكثير من الفرضيات الجديدة، بل و «الثورية» عليها، وهي بمجملها تشكل خطوات أكثر تقدماً واقتراباً من الإسلام، بما لا يقاس مع محاولات سابقيه، وفي هذا الصدد يقتبس باولو الكثير من الاستشهادات للاهوتيين آخرين قائلاً: «من الضروري الرجوع إلى القاعدة التي تنبني عليها الأديان التوحيدية الثلاثة العظيمة، ليس القصد هنا نسب هذه الأديان إلى من يوحدها، ولكنها محاولة لفهم ما هي مكانة إبراهيم خليل الله في الإسلام، وكيف لعلاقة الله مع جدنا إبراهيم أن تقدم مدخلاً لفهم ما يمثله سر الإسلام بالنسبة للمسيحيين».

ويعتمد باولو كثيراً على ما يقوله في هذا الصدد على الكاردينال كارلو ماريا مارتيني المختص المهم بالتوراة، ويقتبس منه «القصة التي استمعنا إليها المأخوذة من أقدم سِفر، سِفر التكوين (الإصحاح 21)، تحدثنا عن ابن إبراهيم الذي لم يكن من سلف الشعب العبري مثلما سيكون اسحق، ولكن الله منحه بركته أيضاً، (ابن الجارية أيضاً سأجعله أمة لأنه نسلك) (الآية 13)، وقِيل في نهاية القصة: (وكان الله مع الغلام) (الآية20)، ظلت صروف الدهر الحقيقية لإسماعيل وأبنائه غامضة في التاريخ الممتد بين الألف الثاني والأول قبل يسوع المسيح، ولكن من الواضح أن المرجع التوراتي يتكلم عن بعض القبائل البدوية المقيمة حول شبه الجزيرة العربية. وبعد قرون، ولد لواحدة من هذه القبائل محمد، نبي الإسلام، اليوم، وفي الوقت الذي تقلّدَ العالم العربي أهمية قصوى على المسرح الدولي، لن يكون بوسعنا أن ننسى هذه البركة القديمة التي تظهر عناية الله الأبوية إزاء أبنائه كلهم»، ويستشهد باولو أيضاً ليدعم فكرته ويمنحها بعداً لاهوتياً أعمق دلالة، بالكاردينال كاسبر الذي يقول: «علاوة على ذلك، الله لم يتخلَ عن هاجر وإسماعيل على الإطلاق، فقد جعل منهما أمة عظيمة كما جاء في سفر التكوين، الإصحاح 21، الآية 13».

ويخلص باولو إلى القول إن جمع هذه القائمة من الاستشهادات بغية الدفاع عن شرعية الأصل الإسماعيلي وأهميته، بالتالي الأصل الإبراهيمي لإيمان محمد والمسلمين، أي إلى الرابطة التي تجمع الأديان السماوية الثلاثة.

يعتقد باولو ويلخص أن ما يمكن أن تسفر عنه محاولته أو مغامرته الفكرية والحياتية هو «في هذه الرؤية: الإسلام لديه وظيفة خاصة به، وأعترف بدوره في التاريخ الروحي للبشرية، في هذه الحالة، لن يكون ثمَّة ضرورة لتعميد المسلمين، الأمر الذي لا يُنقص شيئاً من رسالة الكنيسة المبنية على حب كل الناس، وهي رسالة ضرورية وعاجلة على الدوام، وأعتقد أن بوسع الروح القدس، أن تقود المسلمين، بطرائق شتى، كي يؤمنوا بيسوع أيضاً، في خميرة رقيقة وحلوة المذاق، أو مثل بهار طيب النكهة، متحد مع أمة الإسلام بنزاهة، ومتضامن معها بشفافية».

الاختفاء…

عندما كان باولو في نظر سلطات النظام السوري، مجرد كاهن مسيحي قدم إلى سورية للقيام بعمل ديني روحي، رحبت به ومنحته الميزات كافة التي تجعل منه موضوعاً دعائياً ممتازاً في الأوساط المسيحية والعالم الغربي، ومنح دير مار موسى وضعاً خاصاً من وزارة السياحة، ومنحت وزارة الزراعة الموافقة على إنشاء محمية طبيعية حول الدير أصبحت بمثابة حرم له، لكن عندما تكشفت لها الأبعاد العميقة الفكرية والثقافية، لمشروع الرجل، وعندما أصبح دير مار موسى مركز إشعاع فكري وإنساني مؤثر، بدأت هجومها المضاد لقص أجنحة هذه الظاهرة المربكة، وفي مطلع عام 2010، ألغت وزارة الزراعة السورية ما يدعى بمحمية دير مار موسى الطبيعية، بقرار غـــير معلل، وأباحت الرعي والنشاطات الزراعيــة في محيطه، الأمر الذي عنى تدمير ما أنجزته الجماعة الرهبانية وضيوف الدير على امتداد حوالى عشر سنوات، كما أوقفت وزارة الثقافة العمليات الإنشائية الجديدة في الدير بحجة المحافظة على الطابع التاريخي له، بينما سحبت وزارة السياحة موافقتها السابقة على إقامة فندق بالقرب من الدير لإسكان زواره الذين يتزايد عددهم باضطراد.

وقد بذل الأب باولو في تلك المرحلة جهوداً مضنية لإعادة الوضع القانوني للمحمية التي لم يستطع معرفة سبب إلغائها، لكن عدداً من المسؤولين لمحوا إليه بأن نشاطاته وتصريحاته أزعجت القيادة السياسية كما صرح لكثرٍ من أصدقائه.

لم يكن باولو جاهلاً بممارسات النظام بحق السوريين، فقد عاصرها طوال ثلاثة عقود، حتى أنه ساهم بإخفاء الكثيرين من المعارضين الملاحَقين من جانب النظام، والمهددين بالخطف والاختفاء القسري والتعذيب والقتل، وهو لم يكن متعامياً عنها، وإن بدا نقده نحوها غير ملموس سياسياً، فأفكاره ونشاطاته الثقافية الدينية، حول حوار الأديان والحضارات، وثقافة الاعتراف بالآخر، ومبادئ اللاعنف التي تقود في النهاية إلى فضاء سياسي وحقوقي، بخاصة إلى مسألة الحريات العامة، كانت معركة عميقة وغير مباشرة ضد الاستبداد وما يرتبط به، وقد واجه النظام ذلك بمحاصرة الأب باولو، بثلة من رجال الدين المسيحيين المرتبطين به، لكنهم لم يتمكنوا من زعزعة مكانته الدينية، ولا التأثير في شعبيته، لا بل تصاعدت كثيراً.

عندما تفجرت الثورة السورية، التزم باولو موقف التأييد لمطالب الشعب السوري التي طالما تكلم عنها، لكنه لم يشارك علناً في نشاطاتها، نظراً إلى حساسية وضعه، واكتفى بإقامة الصلوات والنقاشات والحوارات في دير مار موسى الذي كان يحتضن أطيافاً من فئات الشعب السوري كافة. لكن، عندما أصبح القتل والتدمير اليومي منهجاً يومياً لدى النظام، خرج باولو عن صمته، وتوجه إلى حمص التي كانت بؤرة الثورة حينذاك، وقدم المساعدة على الصعيدين الإنساني والديني، ثم قام بالخطوة الأهم ووجه رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة يطالب فيها المجتمع الدولي بالتدخل لنصرة الشعب السوري، وترتب على هذه الخطوة صدور قرار طرده من سورية عام 2012.

خارج سورية شارك ببعض النشاطات لتوحيد تلك المعارضة ووضع رؤية مستقبلية لها، وفي عام 2013، قام بزيارات عدة للمناطق الشمالية التي تسيطر عليها قوات المعارضة.

وفي يوم السبت 27 تموز (يوليو) 2013، عبر باولو المعبر الحدودي مع تركيا في تل أبيض وتوجه إلى الرقة، حيث انقطعت أخباره في 29 من الشهر ذاته بعد أن توجه للمرة الثانية إلى مقر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام طالباً مقابلة أميرها.

اختلفت الأقاويل بخصوص مصيره بعد ذلك، واتخذت جميعها طابع التخمينات غير المؤكدة حتى اليوم، وقد تراوحت ما بين خطفه من جانب خلايا نائمة تابعة للنظام في مدينة الرقة، لقتله واتهام المعارضة المسلحة بالوقوف وراء ذلك، وبين اختطافه من تنظيم «داعش»، وفي الحالة الأخيرة ثمة روايتان أيضاً، تقول الأولى إنه ما زال حياً، فيما تقول الأخرى أنه أعدم.

لكن استقصاءاتنا واتصالاتنا الخاصة، قادت إلى نتيجة عامة مفادها أن الأب باولو حي وفي قبضة تنظيم الدولة الإسلامية اليوم، وقد احتجز ونقل بين سجون سريّة عدة، معزولاً عن بقية السجناء، لكنه يعامل معاملة خاصة وحسنة، وأنه اجتمع وناظر عدداً ممن يدعون بـ «شرعيي» الدولة الإسلامية، وهم المنظرون الدينيون والسياسيون المعتمدون من جانب التنظيم، وتقول مصادرنا الشحيحة، إن باولو أثار اهتمام هؤلاء المنـــظرين بأفكاره، بخاصة لجهة معرفته العمـــيقة بالدين الإسلامي، إلى جانب معرفته بالمسيحية وثقافته العامة البالغة الثــراء، وإن مــناظــراتهم معه تــولى عــناية فائقة، لـــكن تــلك المصادر لم تؤكد معلوماتها بقرينة أو بدليل قاطع.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى