صفحات سورية

عاصمة الأمراء الكرد تعود من بوابة الانتفاضة السورية


القامشلي لأكراد دمشق: رجاء.. دعوا القيادة لنا

حسين جمو

في منتصف آذار 2004 نجحت أجهزة الاستخبارات السورية في قمع الاحتجاجات الكردية التي شهدتها العاصمة دمشق. اتصالات الطلبة الكرد بذويهم في القامشلي وعامودا وكوباني وعفرين كانت تشعل الغضب المقموع مع كل قتيل كردي في انتفاضة قامشلو التي اندلعت في 12 آذار من العام ذاته. اشتعلت كل القرى والبلدات والمدن الكردية على طول الحدود السورية التركية وأسقط الشبان الغاضبون أحد أكبر تماثيل حافظ الأسد في واحدة من أكثر المراكز القومية الكردية عناداً، عامودا، البلدة التي خرجت منذ أيام بشيبها وشبابها تهتف لـ”الشهداء الكرد في دمشق” الذين سقطوا في حي الأكراد (ركن الدين).

هنا منزل الرئيس!

ربما لم يسبق للجيل الشاب من السوريين أن شاهدوا مظاهرة معارضة بالعين المجردة. كانت العاصمة منذ عام 2000 تشهد اعتصامات للمثقفين ولأحزاب كردية أمام مجلس الشعب. لكن التظاهرات الجوّالة كانت من المشاهد الجديدة في العاصمة الأمنية عام 2004. راقب سائقو السيارات وباصات النقل العامة بذهول اجتياح مئات الطلاب الكرد ساحة الأمويين متوجهين إلى مقر الأمم المتحدة وفقاً لاتفاق ارتجالي بين متزعمي الحركة الطلابية. المشهد كان جديداً حتى على الأكراد. كيف لا وهم في ساحة الأمويين. واكتشفوا فجأة أن لهم صوتاً يسمعونه بآذنهم. لم يستوعب البعض ما يحدث، فقرر ركل السيارات المارة بجانبه. أحد من فعل ذلك كان أكثر الأشخاص هدوءاً ونزوعاً إلى السلم. عندما وجد الطلاب أنفسهم محاطين بأكثر من ألفي عنصر أمني وقوات مكافحة الشغب وضباط من ذوي النياشين المخيفة، صاح أحدهم: أخطأنا الطريق.. هذا منزل الرئيس!.

أسوأ ما في المظاهرات هو طريق العودة. يعود الخوف إلى التسلق ويطيح بالغضب جانباً، فيلتقط الأمن عدة طلاب. يندفع شخص باتجاه سيارة الاعتقال فيلحقه البقية بعشوائية تخيف عناصر الأمن من الخائفين! ويطلقون سراحهم فوراً. يصرخ أحدهم: أين ركن الدين؟، يجيب آخر من بعيد: لم يعودوا أكراداً.

رعايا يشتمون

ركن الدين أو حي الأكراد، عاشت في انتفاضة قامشلو ما تعيشه حلب هذه الأيام من موقف ملتبس تجاه الانتفاضة السورية. ازدراء وغضب وشتائم تتلقاه ممن كانوا يعتبرون أنفسهم رعاياها القادمين من المنابع الكردية الحية شمال سوريا. عناصر الأمن حاصرت المدينة الجامعية طيلة أسبوعين، وأغلقتها على الأكراد. إلا أن تغيراً كبيراً حدث في المشهد الكردي مر بهدوء وهمس لحرمان الخصم من التشفّي لا أكثر.

هذا التغير أسقط حي الأكراد التاريخي من الحسابات القومية وقام بتنصيب حي آخر حديث العهد يقع خارج دمشق بين الجبال الممتدة خلف قاسيون من الجهة الشمالية الشرقية، اسمه الكردي “زور آفا” (وادي المشاريع)، قلعة الأكراد البديلة في العاصمة. انحنى لها الأكراد احتراماً عندما حاول آلاف من سكانها دخول العاصمة في مظاهرة تم قمعها بشدة في منطقة الربوة الشهيرة والمطلة على دمشق. تراجعت مكانة حي الأكراد القديم. وسارع كتّاب وحزبيون أكراد إلى تبرير موقفهم اللامبالي بالإجراءات الأمنية وو..إلخ. لكن في مكان آخر، في غرف الطلبة الجامعيين كان يقال كلام آخر عن “الوهم” الذي جعلهم يتوقعون مسارعة الحي إلى نجدتهم، وتعريفات جديدة لـ”أصالة” الكردي التي اختصرها الشباب في النطق باللغة الكردية. وعنى ذلك استبعاد حي الأكراد من الأصالة والنقاء القومي، ولم تشفع للحي منابتهم العشائرية الضاربة والمنحدرة غالباً من سلالات الأمراء وقادة التمردات الكردية ضد العثمانيين، ولا أسماؤهم الزرادشتية. هنا سقط التاريخ. لم يعد من مبرر كافياً لعدم الوفاء بالالتزامات القومية ودفع الثمن.

أصبح الكردي كردياً باللغة فقط، مستنداً إلى مقولة واضع الأبجدية الكردية الحديثة الأمير جلادت بدرخان: “لا مانع أن تقول أنك لست كردياً.. لكن قل ذلك باللغة الكردية”. والأمير جلادت كان أحد أبرز زعماء حي الأكراد في النصف الأول من القرن العشرين.

نحن فقراء!

إلا أن إقصاء أكراد دمشق لم يتكلل بالنجاح، لأن الحي الذي اصطفاه أكراد شمال سوريا الذين نزحوا خلال السنوات الثلاثين الأخيرة إلى دمشق لم يرق إلى مستوى حي أكراد دمشق. فـ”زور آفا” تقطنها غالبية كردية (نحو مئة ألف) نزحت من مدن الجزيرة وقراها بهدف العمل وليس الاستيطان في العاصمة. أبنية الحي تشبه في شكلها الجغرافي حي أكراد دمشق. البيوت تتراصف فوق بعضها البعض على سفح الجبل، إلا أن العشوائية وغياب الخدمات لا مثيل لهما في “زور آفا”. أبنية من طابقين أو ثلاثة مبنية غالباً بنوعين من الحجارة بحيث لا يمكن التقاط أي منظر جمالي في بنيتها المعمارية. إنه في أفضل الأحوال أقرب إلى مخيم مؤقّت، سكانه من أشد الفقراء، يعج بالعمال. والغالبية من الشباب جاؤوا فرادى أو على شكل مجموعات للعمل أو الدراسة. فهو لم يكتمل ليصبح مجتمعاً قائماً بذاته. هشاشة الحي تظهر أيضاً في إحجام التنظيمات الكردية عن تنظيم تظاهرات فيه منذ سنوات “لأنه لا يحتمل الاعتقالات في ظل سوء أحوال أهله مادياً”. الأحزاب الكردية تعرف نقطة ضعف هذا الحي، لذلك تمسكت بحي أكراد دمشق وقد دأبت حتى اليوم على فتح أبوابه للاجتماعات الحزبية والندوات الثقافية والسياسية أسبوعياً. ولسان حال “زور آفا” يقول: “نحن قوميون.. لكننا فقراء”، فماذا يقول أكراد دمشق؟.

الامتداد الطبقي

يمتد حي أكراد دمشق على سفح قاسيون شمالاً حتى منطقة الصالحية باتجاه وادي بردى في المدينة، شرقاً من مساكن برزة حتى مشارف حي المهاجرين غرباً، تتخللها أحياء للتركمان والشركس أيضاً. وفي هذا الامتداد تقسيم طبقي ليس وليد الصدفة، فالحارات الضيقة التي تقع شرقي الحي تعتبر الأكثر فقراًً حسب شهادات الأهالي تاريخياً، وكلما اتجهنا غرباً تتحسن أحوال سكانها. إلا أن الزعامات لا تتبع هذه الخطوط الطبقية، فعائلة ميقري العريقة التي تتحدث غالبيتها بالكردية تقيم بكثافة في حارة الكيكية، وغرباً في الشيخ خالد هناك آل رشي وتاجا والملّي، وآل شمدين في جوار الساحة المسماة باسمهم.

صحيح أن الكردية لم تعد لغة غالبية المنازل فيها، إلا أن الحنق القومي على “بلادة” أكراد دمشق على حد ما تم وصفه في الفترة التي تلت انتفاضة 2004، ومن ثم اغتيال الشيخ معشوق الخزنوي في 2005، لا يمكنه إزاحة الحي الذي استقطب صفوة كردستان الكبرى. ولا تكاد توجد بلدة أو مدينة كردية على امتداد الشرق الأوسط إلا وهناك من يمثلهما في الحي الذي قام جمال عبد الناصر بتغيير اسمه إلى ركن الدين عام 1958.

غرفة عمليات الثورة

ورغم أن تأسيس هذا الحي بعود إلى الفترة الأيوبية عندما أصبح بمثابة مسكن لجنود صلاح الدين في القرن الثاني عشر الميلادي، فإن العائلات الكبرى فيه – باستثناء الأيوبي يعود استيطانها إلى فترات لاحقة معظمها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حيث الثورات الكردية المتلاحقة ضد السلطنة في كردستان، حيث، بعد هزيمة القادة الكرد، يختارون دمشق منفى لهم. وهذا الاختيار يرتبط أساساً بكردية الحي وليس بدمشق. ووجدت فيه جمعية “خويبون” (الاستقلال) مركزاً ملائماً لنشاطاتها في عشرينات القرن الماضي، وأصبحت الرأس المدبر للثورات الكردية وتأجيج المشاعر القومية ضد تركيا أتاتورك وغرفة عمليات لإدارة الثورات وتمثيل الأكراد في المؤتمرات الدولية، ووصل الأمر إلى حد شن غارات عسكرية على اهداف داخل الأراضي التركية من خلال زعماء العشائر الكردية في كوباني (عين العرب أقصى شمال شرق حلب) ومناطق الجزيرة.

إذاً، لا يمكن لأي كردي تجاوزه. إنه عاصمة الفكر القومي الكردي في بداياته الأولى وعاصمة أكراد سوريا، حيث شهد ولادة الأبجدية الكردية بالأحرف اللاتينية على يد الأمير جلادت بدرخان المنحدر من جزيرة بوطان الكردية في تركيا، ومنه انطلقت الحركة السياسية الكردية عام 1957 بتأسيس أول حزب كردي في سوريا بجهود أكراد الحي، ومنهم نور الدين زازا وعثمان صبري (الذي هرب من السلطات التركية).

أنا كردي محلي

الإشكالية المتوقعة للعلاقة بين أكراد دمشق وبقية أكراد سوريا تصطدم غالباً بالتوجهات السياسية. فالسر الذي أحجم بسببه حي الأكراد عن الانضمام لانتفاضة 2004 كان الشائعات التي روجها النظام من أن الأكراد رفعوا العلم الأميركي والإسرائيلي في مظاهراتهم. وهذه الشائعة التي حولها النظام إلى حقيقة من كثرة ما كررها، هي التي أوقفت الانتفاضة وليس القمع العسكري. والعلاقة مرجحة أن تلتبس مرة أخرى عندما تبدأ الأحزاب الكردية بطرح تصورها لسوريا المستقبل (إعادة اسم الدولة إلى الجمهورية السورية على سبيل المثال). وحالياً، تجد كبار السن هناك لديهم مشاعر قومية لا زالت تتقد وهم مستعدون لمساندة طروحات الأكراد ضمن سوريا الموحدة، لكن ماذا عن الشباب؟.

لا بد من العودة إلى دلالة كلمة “أنا كردي” لدى أكراد دمشق، فهم غالباً يصرحون بهويتهم الكردية الدمشقية مقابل هوية الأحياء الدمشقية الأخرى، إلا أنه لا تصور واضحاً حول ما إذا كانوا يرفعون الهوية الكردية على مستوى سوريا. هل سيبقون أكراداً محليين أم سيتم إحياء الروابط القومية القديمة مع المركز القومي الجديد في القامشلي؟.

لن نترككم

عندما سقط خمسة قتلى أكراد دمشقيين في الانتفاضة السورية قبل أسابيع، ثارت ثائرة المناطق الكردية في الشمال. واحتلت ركن الدين صدارة اللافتات التي رفعت وغطت على ما كان يرفع من أجل درعا وحمص وحماة. إنها رسالة سياسية: “لن نترككم لوحدكم”، وهذه الرسالة موظفة للمساهمة في الإجابة عن سؤال: هل سيذهب أكراد دمشق إلى أبعد من دفاعهم عن دمشق؟.

يريد أكراد سوريا التحرك في كتلة واحدة. ومستقبل البلاد بالنسبة لهم غامض حتى الآن. استفادوا في ما سبق من انخراط أكراد دمشق في السلك السياسي والسلطوي طيلة تاريخ الدولة السورية الحديثة ليواجهوا به تهم الخيانة التي كان يصيغها النظام البعثي لهم. والسلطة أيضاً كانت تذكّر بتسامحها تجاه الأكراد بدليل أن أول رئيس جمهورية في عهد الانتداب كان الكردي محمد علي العابد ومفتي سوريا أحمد كفتارو وو..إلخ.

تركيع الحي

الوحدة بين مصر سوريا ركّعت حي الأكراد الدمشقي، وأحالته إلى ورقة جوكر “وطنية”، فشهداء الحي ضد الانتداب الفرنسي دليل على وطنية الأكراد على سبيل المثال. والواقع أن الحي ذاته أقلم نفسه على التعايش في ظل القومية العربية بتكذيبه مثلاً أن جزءاً كبيراً من كتيبة الشرق الفرنسية التي كانت تستخدم لقمع التحركات الداخلية كانت منهم. ويتفادون الخوض في أن سكان دمشق أزاحوهم من السفوح المنخفضة ومن حي القيمرية في قلب دمشق بسبب الضجة التي كانت تسببها آلات النسيج.

في تشييع أحد قتلى الانتفاضة السورية في الحي، رفع أحد المشاركين علم كردستان في ساحة شمدين التاريخية. وإن لم يكن من المعروف ما إذا كان حامل العلم كردياً من الشمال أم من سكان الحي، إلا أن لسان حال الحركة السياسية يقول للأشقاء في دمشق: رجاء… دعوا القيادة لنا.. ولا تخدموا “العروبة” على حسابنا.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى