صفحات الحوار

عاصم الباشا : في “الربيع” ما أحتاجه للتنفس والمقاومة

 

باسم النبريص

للحوار الشفاهي نكهته المستمدة من عفويته، لكنّ للحوار الكتابي عمقاً أكبر. هكذا رُحت أعزي النفس، بعدما أدركني الوقت، وأنا خارج من دار النحات السوري عاصم الباشا أو “نحّات الألم”، في قرية “برج هلال” بالأندلس. أهداني عاصم كتابين من آخر ما أصدر. ولأن “الشامي الأخير في غرناطة”، كرس فيضاً من فرادته، ككاتب ونحّات، في واحد منهما، فقد ارتأيتُ محاورته من خلال الكتاب ذاته. مع أن من يلتقيه ويرى مشغولاته، لأول مرة، مثلي، سيحس ويفهم سريعاً أن أفضل حوار مع الرجل هو “الحوار بالصمت”.

* قلت قاصداً عمل النحات: “لا أرى سوى الإنسان موضوعاً” له. كان هذا قبل ثمانية عشر عاماً، هل جرت مياه في النهر، تستدعي إضافةً أو تغييراً على القول؟

لا أحد يستحمّ في النهر ذاته مرتين. لكنه لا يستحمّ أيضًا إن لم يكن هناك ماء، وماء النحت الإنسان دومًا، كان وسيكون في حال النحت التمثيلي (فيغوراتيف) Figuratif. مرّ عليّ وقت أردت فيه الخلاص من تلك الربقة، وملت إلى “اللعب” بالكتلة، فصرت أصنع مقاعد وأشجارًا فولاذية ونوافذ مكسورة (لإدانة العنف) وأدراجًا للصعود أو الهبوط إلى السماء ومنها. كانت بداية تعاملي مع مادة الحديد.

* “من قال إن الفراغ عَدَمَ؟”، تتساءل باستهجان، ونحن نسألك توضيحاً، فقد درج كثر من فنانين وعامة على اعتباره كذلك، أو على الأرجح مساواته بالخواء؟

ما يسمّونه فراغًا، أجده مادة أساساً لوجود الملموس منها. أنت لا تستطيع لمس الحلم، لكن هذا لا يعني أنه غير موجود، وأنه لا يشغل حيزًا في حياتك. أعتقد أن أعمق تملّك للحسّ النحتي، يتطلّب حسن التعامل مع الفراغ. معظم المنحوتات تنتفي لو حذفت منها الفراغ. ثم لا تنسَ أننا نعيش ونتحرّك ونعبّر عن ذواتنا بفضل الفراغ، فالمسافة التي يختارها شخص للجلوس إلى جانبك في مجلس، إن سمح الحيّز بالاختيار، تشير كثيرًا لعلاقته بك ولمشاعره تجاهك.

* تقول: “القوس في العمارة ـ والإسلامية منها ـ دعامة لجمال المبنى.” بينما يقول مواطنك الشاعر والروائي سليم بركات: “القوس محنة الهندسة”. كيف تؤول مقولة الشاعر والروائي معمارياً ونحتياً؟

أعتقد أن سليم أراد التخصيص بقوله، فأنا أرى المحنة في العمارة برمّتها وليس في القوس منها فحسب، كما أجد في كلّ مهنة محنة. وقولي لا ينفي جمالية بقية عناصر العمارة، فلا معنى أو قيمة لأقواس بلا جدران ترافقها. قصدت أنها تمثّل إيقاعًا موسيقيًا بصريًا ومعيشيًا.

* تقول أيضاً: “البيضة كتلة قصوى، مطلقة، كاملة ولا نهائية”. وفي موضع آخر، تستدرك “إنها في عُرف النحت، أكثر الكُتل انسجاماً في الكون، تأمّلُها ما يزال يُغريني”. هل البيضة هي حُلم / كمال النّحات، كشكل مُعجِز؟ مع أنها تكاد لا تستلفتني لأنها تذكّرني ـ ولا ذنب لها في مصائبناـ بـ “الدائرة”. وزماننا دائريّ، كما تعرف، بينما زمن الغرب: إنطلاقة سهم.

بلوغ انسجام الكتلة البيضوية هو تلمّس المنتهى، فالانسجام ذروة أي عمل فنّي، حتى في ما يتعلّق بالكلمة، هو نفي لتكرار الإيقاع (تعلّمنا ذلك في الموسيقى)، ومن هنا برودة الدائرة الرياضيّة، صحيح أن بعض التشكيليين غامروا وتعاملوا بالدائرة، لكنهم لم يبلغوا سوى صقيع الشكل، مهما طلوه بالألوان. الطبيعة هي معلّمنا الأساس، والتهادي مع تعاليمها وسادة مضمونة لمحاولة الإبداع. قالها عالم لسانيات روسي في الفترة السوفييتية “بمقدورنا الاستعانة بالجبر للتأكّد من أن جملة معينة هي شعر أم لا، لكننا لن نكتب الشعر بالجبر”.

* “لا يضيرني أن يقال إنّ أعمالي مُقلقة، ولهذا فهي لا تجد الشاري بسهولة، فمن ذا الذي يشتري الهمّ ليجالسه في بيته!”. بعد عقود ربما، عدت وكررت القول مستبدلاً “الهمّ” بـ “الألم”. كيف تعقب على ذلك؟

ما من همّ بلا ألم، إلى هذا الحدّ أو ذاك. لا أستطيع العيش بمنأى عمّا يجري من مآس وما تعانيه الكائنات الحية من ضيم وألم، وفي كلّ الجغرافيات، فلا أحد يحتكر الألم. كثيرون يستغرقون بالفرحة وهذا من حقّهم، لكنني ممّن يدرك أن رحلة الحياة تعني الاحتمال، وإذا كنت تحتمل فلأن ثمة ما يجب احتماله. ليس الفرح والرقص غريبان عن طبعي، لكنهما لا يعمياني عن بقية المنظر، وأتفهّم أن يواجه بعضهم المأساة بتعبير لا يشير إليها. الفرنسي “ماتيس” لم ينقطع عن رسم الأزهار الجميلة بعدما اعتقل النازيون زوجه وابنته الوحيدة. كانت طريقته في التعبير عن الصمود، وهذا موقف رائع. لنقل أن “ماتيس” كان أكثر تفاؤلاً منّي.

* تقول إن أثمن ما قدمه تراثنا النحتي، في بلاد الرافدين ومصر القديمة وعموم الإقليم، إلى التأريخ الإنساني والفني، يكمن في التركيز على الحركة الداخلية للكتلة، تماماً عكس ما فعل النحت الأوروبي المنصبّ على الخارج، منذ الإغريق مروراً بعقلانية عصر النهضة، وانتهاء بكل ما ينتهي بـ “إيزم” (ISM)، باستثناء ألبيرتو جياكوميتي. ماذا تقصد هنا؟

أجل. لكن الإغريق هم الذين أتوا بالعكس بعد ازدهار الفلسفة، وكانوا قبلها يقلّدوننا. وليست تلك السمة (الحركة الداخلية للكتلة) سوى تعبير صادق وعميق لحقيقة إنسان المنطقة، فهي تبيّن أننا نعيش وجدانيًا (في دواخلنا) وقليلاً ما نبادر (براغماتيًا)، كما أن الفردية هي الطاغية على شخصيتنا، وبنا فقر مدقع للعمل الجماعي. كلّ هذا عبّر عنه النحت القديم في منطقتنا، مهبط المعتقدات الوجدانية. طرحتُ هذا الموضوع مرارًا في مناسبات شتى، وكنت أطلب ممّن لا يستوعبه أن يقف لدقائق بوضعية تمثال مصري قديم: قدم تتقدّم الأخرى قليلاً، والذراعان مسدلان ولصيقان بالجسد، والرأس مرفوعة تنظر إلى الأمام .. لن يطول به الأمر حتى يستغرق في داخل نفسه.

مأساتنا اليوم تكمن في أننا ما زلنا على تلك الحال العاطفية الفردية، وأننا اعتدنا عدم استخدام العقل، لذا يهيمن علينا الماضي بدل أن نستضيء بالمستقبل ويكون حاضرنا تحضيرًا له.

والحقيقة أن إخراج الحركة، كما في رامي القرص أو الرمح، والمتصارعين عند الإغريق وازدهار التفكّر والاطّراد به، هو الذي سهّل للقارة الأوروبية التحرّك قدمًا نحو التطوّر، فكان أن فصلت الدين عن الدولة، والتطور العلمي والصناعي نقلَ المجتمعات من حكم الإقطاع إلى توزّع جديد للسلطة، وأسفرت عن ذلك ثورات كالفرنسية. لكن، مع الاستغراق بالبراغماتية راحت تلك المجتمعات – والأمر بيّن في فنونها – تفتقر وجدانيًا حتى وصل بها الأمر إلى فقدان الأنسنة، وهو موضوع مؤلّف المفكّر الإسباني “أورتيغا إي غاسيت” (Ortega y Gasset). وذكرتُ جياكوميتي كاستثناء، لأنه عاود الخوض في الذات عبر أعماله فلُقّب بالنحات الوجودي.

* “أروني منحوتاتكم، أقل لكم من أنتم”. تُرى كيف ترانا في الألف الثالثة، عبرَ ما ننحت؟

لا أرانا! لأننا فقراء نحتيًا. فبلداننا التي كانت مكامن ولادة النحت في العالم، تحكّمت به (؟) عقلية دوغمائية مشوّهة لأصولها وجعلت النحت والتصوير محرّمًا على أساس بدعة ظلامية ومتخلّفة. تخلّفنا الحالي والمستفحل يدين لهذه العقلية (مجازًا، فهي لا تستخدم العقل) ولن نشهد نور التطوّر ما دامت المومياء تتحكّم بنا.

* “ما أكثر النصب التذكارية الكبيرة، الضخمة، الصغيرة في ذاتها. وما أكبر الحجم المحسوس لكثير من الأعمال صغيرة الأبعاد. تكاد تكون نادرة، شيء كالمعجزة، تلك المنحوتة التي تُملي علينا حجمها من خلال الصور”.

نعم. لكنه أمر يحسّه بسهولة أكبر من يمارس المهنة. كان من حظّي أنني درست النحت النُصبي في موسكو وتيسّر لي التدرّب على إنجاز تكوينات تتناسب مع الإحساس النُصبي. واختارني أستاذي “بوندارينكو” بين ثلاثة من تلامذته لمساعدته في إنجاز نصبه التذكاري لرائد الفضاء غاغارين القائم في موسكو. ارتفاع ذلك العمل بدون القاعدة يبلغ ستة عشر مترًا، ولكن لو نسخته في عشر سنتيمترات لبقي إحساسك بكبر التكوين.

* وعن النحات الباسكي العظيم تشيلييدا (Eduardo Chillida) – لم يصل الثقافة العربية بعد – تقول: “كان قلق الشاقولي يشغله”، وتواصل: “أرى أنّ قلق الأفقيّ هو الجدير بانشغالنا، لأنّ قلق الشاقولي أمرٌ طبيعي”. أرجو أن تشرح.

الأمر بسيط، فمن البدهي أن يكون استقرار الجسم عموديًا أكثر إقلاقًا، لأنه يتطلّب عوامل توازن تكون أحيانًا شديدة التعقيد. سبق لي أن بحثت عن البرزخ ما بين الشاقولي والأفقي في عمل – كانت فلسطين موضوعه – يمثّل رجلاً يتساقط مادًا إحدى ذراعيه إلى أعلى، وأظنني لمست البرزخ، لأنك تحار أمامه ما إذا كان إنسانًا يسقط أم أنه يرتفع. وعندما تحدّثت عن قلق الأفقي، فلأن القلق في كلّ شيء، ليس سهلاً أن تمثّل شخصًا مستلقيًا وتقنع الآخر بأنه حيّ مستلق وليس بالميت.

* “أن تلقى من يرى ويشعر مثلما تفعل .. فيبتسم القلب منك، وتهنأ، لأنك لست وحدك” .. حتى بعد كل هذا الظلم بحقك، سواء في الوطن أو الشتات؟

حتى بعد كلّ هذا. إنما نساند بعضنا وإن لم نتلاصق كتفاً بكتف. والحقيقة أن الشتات كان معي أرحم ممّا يسمّونه “وطن”، وهي مفردة لا أستسيغها أبدًا فالـ”وطن” عندي هو الرصيف الذي أمشي عليه بكرامة. ولا كرامة لمواطن اليوم من المحيط إلى الخليج.

* “لا أجد في مستقبلي الخاص ما يفرح القلب. أخشى أن يكون هذا الأخير قد تخشّب”، فماذا تقول، بعد عقد ونصف من كتابة تلك الجملة؟

لم يتخشّب بعد بفضل بداية تمرّد الشعوب عندنا. وجدت في ما يسمّونه “الربيع” ما كنت أحتاجه لمتابعة التنفّس والمقاومة. لقد صادفت في تجربتي إغراءات مالية كبيرة (كانت تتطلّب إنجاز تماثيل لحافظ الأسد)، لكنني رفضتها واضطررت إلى اختيار النفي الذاتي هروبًا من المضايقات. لذا تجدني الآن محدود ذات اليد ومرتاح الضمير.

* “كثيراً ما أصرخ في نفسي: أيها الغرب “المتمدّن” لا تساعد العالم الذي تسمّيه ثالثاً. كفّ عن نهبه فحسب!” أنت الذي تعرف صفاقته وحربائيته، معرفةً أمعاء، هل تكرّر قولك اليوم؟

بالطبع! وبالحميّة ذاتها. أساسًا تطوّر الغرب مبني على أشلاء موتانا وبفضل نهب خيراتنا (ولا أقصد بلداننا فحسب، بل كلّ ما يُعرف بالجنوب إيجازًا)، وهذا ليس جديدًا في تأريخ البشرية، لكنه استفحل في الحاضر، بسبب تطور أدواته وستستمرّ الحال على هذا المنوال ما لم يتمّ دكّ أسس الرأسمال متعدّد الألوان هذا. وكما تقول، صفاقته تنطلي على من لا يريد أن يرى، فأنا أجد أن الحرية هنا هي أوسع للمقتدر وتكاد تنعدم للفقير، وكذلك العدالة. الفارق بيننا وبينهم أنهم لا يقتلونك إن قلت رأيك (انتبه! اللهم إلاّ إذا شتمت العائلة المالكة جهارًا، ففي القانون الجنائي الإسباني تُحكم بالسجن ستة أشهر! وهي ملكية لم يخترها الشعب!)

* “عندما تظنّ أنك بلغت المنتهى تكون قد انتهيت”. هل ثمة منتهى سوى عند الحمقى آكلي جثة النرجس؟

ما من منتهى ، والمحاولة الإبداعية هي انتقال من إخفاق إلى إخفاق تبتغيه أقلّ. لا أكثر. مائت من يعتقد أنه وصل، وقد لاحظت أن الموتى كُثر.

* ما هو أكبر أعمالك النحتية، وما هو أصغرها؟ وبالضرورة: الأحب من كليهما إليك؟

إن كنت تقصد الحجم، فالنُصب التذكاري “تحية لشغّيلة الأرض” الذي تسنّى لي إنجازه هنا. أما أصغرها فتلك التي لم أصنعها بعد. وقد سبق أن أومأت بشعوري بالإخفاق دومًا ولا أفضّل إخفاقًا على آخر.

* تعيش في غرناطة منذ نحو خمس وعشرين سنة. ماذا أعطتك مدينةٌ بهذا التاريخ وماذا أخذت بالمقابل؟

أعطتني الهدوء وإمكانية تملّك مشغل وبيت وحديقة وفرصة الانعزال. أمّا التأريخ، الذي اضطررت إلى الغوص فيه جيدًا عندما عملت مديرًا ثقافيًا لمؤسسة “التراث الأندلسي” التابعة لحكومة أندلُسيا المحلّية، فلم يمنحني سوى تفهّم المنظر الذي أعيش فيه. تأريخ أهواه، لكنني لا أسمح له باحتوائي.

* تقرأ بلغتين ـ على الأقل ـ غير العربية: الإسبانية والفرنسية. وتقول إنك تعاني وأنت تفعل، بل تحبّذ اعتبار القراءة عملاً.

وفي الماضي كانت الروسية أيضًا، لكنني انقطعت منذ زمن. هو بالفعل عمل، وأحيانًا شاق. ثم إن قراءتي بطيئة لأنني أقرأ الجملة أو المقطع على مستويات ثلاثة، الأول محاولة استيعاب المعنى والثاني رأيي فيه والحكم الذي يستحقّه والثالث كيف كنت لأعبّر عن الفكرة ذاتها. لعلّه تمرين من يمتلك هاجس الكتابة .

* ثقافتنا النحتيّة أدنى إلى الفضيحة، منها إلى أي شيء آخر. حتى لو خفّفناها وقلنا: قياساً ببقية الفنون. مَن مِن نحّاتي العالم وربما المنطقة تراهم بمثابة آباء ومعلّمين؟

فقر تعاملنا مع النحت حتمي بفعل الأسباب التي أسلفت. هناك ومضات نيّرة لنخبة حاولت النظر خارج البئر، لكنها قليلة وأثرها في مجتمعاتنا يكاد لا يُذكر.

أمّا الآباء والمعلمون فحصرهم محال. لا نعرف أسماء المعلمين القدامى لأنهم ما كانوا يوقّعون أعمالهم. علّمني زحام ممّن عانوا الهموم إياها. لو طُلب منّي ذكر ثلاثة معلّمين في القرن المنصرم لذكرت بدون تردّد: الفرنسي هنري غودييه بيرزيسكا (Henri Gaudier-Brzeska)، وقلائل من يعرفونه، والسويسري ألبرتو جياكوميتي والإسباني خورخي أوتيثا (Jorge Oteiza).

* كيف تخلق منحوتاتك؟ الفكرة الملهِمة أولاً أم؟

ذكّرتني بعبارة جان كوكتو “الشعر ضرورة، وآه لو أعرف لماذا”. لنقل إنه تجاوب الكائن مع ما يعيشه. لا أعرف أكثر.

* تشتغل على “الخردة الفقيرة” أحياناً كمادّة خام، تلتقطها من قارعة الطريق أو الحاويات أو تستوصي عليها العمال. ما هو عملك الأقرب إلى روحك من هذه المادة؟

إنها مثلي: استخدام الموجود ومنحه قيمة أخرى، حياة أخرى، فرصة أخرى. ما من قمامة في الطبيعة، القمامة في عقل من لا يدرك ذلك. ثم إن قليلاً من البشر من يشعر بنبل المادة، فكيف نرميها كقمامة؟

* “لا تقرصني المعدة عندما أغلق باب المشغل، بل يعضّني الإحساس بأنه ما من جدوى”. وفي غير مكان تتحدّث عن “الإخفاق”. ألا تزال الجملة واقعَ حالٍ بعد مرور عشرين عاماً؟

سبق وتعرّضت لهذا. والآن يعد قرابة الخمسين عامًا من السعي، ما زال يغمرني الشعور ذاته، وهو شعور يجعلك تصرّ على المحاولة، وإلاّ .. فما من سبيل سوى الانتحار.

* كتابك “الغرناطي” كتاب فريد حقاً في مكتبتنا، ذلك أنك، فضلاً عن علامتك النحتية، تجيد صنع البصمة في ما تكتب، وعلى حدّ علمي، لم يفعلها نحات عربي آخر. من أين أتتك هذه القدرة على: الإيجاز، التكثيف، الإتيان بالبسيط العميق، إلخ؟ أنت من قلة استطعت قراءة محذوفهم الكتابي، كمصدرٍ رئيس للطاقة في النص؟

أجمل إطراء وصلني في ما يتعلّق بما أكتب. سبق أن كرّرت أن الكلمة الزائدة في النصّ كما اللمسة الزائدة في النحت، كلاهما عامل إضعاف للنصّ وللمنحوتة. تلك الحكمة الصينية القائلة “إن لم تستطع التعبير عن رأيك باثني عشر كلمة، فمن الأفضل أن تصمت” اعتبرتها ناموسًا لكلّ ما أحاوله. أصدقك بأنني أشقى في لقائنا هذا لأنني أحاول تجاوز عدد كلمات سؤالك في جوابي.

* “في كلّيات الفنون، من الخليج إلى المحيط، ترجمةٌ لرأي “الشمال” شبه مُطبق وشامل، مع انحناءة وإيماءة احترام”. ألا ليته كذلك فحسب، يا عاصم، بل هو الاستلاب.

أعطيت الجواب في السؤال. وفي تعبير “كليات الفنون” كرم مبالغ. طبيعي أن نتأثّر بمن تجاوز تخلّفنا، لكن التقليد مقتل لمحاولتك الخروج من تخلّفك. سبق لي أن انتقدت إدخال الحرف العربي في التشكيل كإشارة إلى الهوية، وأرى فيه انتقاصًا لفن الخطّ العريق أساسًا، واستجابة للرأي المستشرق القائل بأن علاقة العرب بالتشكيل محصور بالعمارة والزخرف والخط.

* أما زلت تواصل النحت والكتابة معاً لحدّ الآن؟ وما هو جديدك؟

توقّفت عن النحت والرسم منذ سنة ونصف، منذ أدركت معنى قضاء جحافل النظام وحزب الله على أربعين سنة من عملي ومحاولاتي المجموعة في قريتي “يبرود” والتي كنت أنوي إهداءها للمدينة، وتأسيس مركز استقطاب للنحت فيها. قتلوا أخي نمير تعذيبًا لأنه ساعد النازحين، وقتلوا معه جهد عمري. وما تراه كتابةً، فهو عبارة عن نزف ما تبقّى.

* “نحن جميعاً خاطئون نسبياً” ـ وتقصد كل البشر، بل كل الكائنات ـ “مهنة النحت هي التي علّمتني أن الحقيقة لا يمكن القبض عليها بصورة مطلقة”. هل ترى من أمل أن نتغيّر نحن ذوو الإطلاق في كل شيء؟

إن استمرّت مجتمعاتنا بتمسّكها بالدوغما، وهي المعتقدات المتوارثة.. فلا. لا أمل لمن يتعلّق بثابت في عالم متغيّر. المؤلم في غياب الإشارة إلى ذلك الاحتمال، فحتى الثورة السورية النقيّة بمطالبتها بالحرية والكرامة، تمّ تشويهها بشعارات دينية!

* نختم بقصتك: الولادة في بوينس آيرس والانتقال إلى الوطن صبياً، ثم شدّ الرحال إلى موسكو للتحصيل الفني، فالعودة إلى سورية، فالتدريس ورفض صنع تماثيل للطاغية، ثم إلى المنفى الاختياري في إسبانيا، فقط “كي تتنفس بحرية، على مبعدة من ذلك الظلام”. عناوين سريعة لما يقارب سبعين عاماً من العزلة والإنجاز؟

شعور محبط بالإخفاق. لكنني ما زلت أتمرّد على كلّ ما هو قائم. وأختم بتذكيرك بأنني أكثرت بالكلام احترامًا لك ولوسيلة النشر لديك، فعادة أميل إلى الإجابة على الأسئلة بنعم ربّما ولا، لأنني مثلك، لا أمتلك الحقيقة كاملة. ثم إنني أفضّل الحوار بالصمت، قلتها أنت في مقدّمتك.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى