صفحات الثقافة

ديكتاتوريتان مستحيلتان وبديلٌ وحده الممكن

عقل العويط
بعد أن يتوقف المدّ الجارف، ويعود البحر أدراجه الى حيث يجب أن يعود، تأخذ أجساد الثورات العربية الإيقاعات التي تلائمها، كلٌّ بحسب المعطيات الموضوعية المتوافرة، باحثةً عن الأشكال والبنى الأكثر تمثيلاً لأحوال شعوبها وأوطانها، أي الأقرب الى أحلام الحرية والديموقراطية.
يحسب بعضنا أن العام الذي عبر، بزلازله وبراكينه وطوفاناته، قد انتهت مفاعيله الى ما انتهت اليه: مجلس شعب مصري بغالبية إسلاموية ساحقة هنا (ربما برئيس إسلاموي أيضاً)، حكومة إسلاموية تونسية هناك، مجلس انتقالي ليبي ذو اتجاه إسلاموي هنالك، ومشاريع دساتير وتشريعات تظللها أحكام الشريعة. ليصل هذا البعض الى الاستنتاج أن أحلام الأجيال الشبابية التي كانت تتوق الى إحداث تغييرات جذرية، مدنية، ديموقراطية، في المجتمعات الثائرة، قد تبخّرت، وأن الزمن هو للحكم الإسلاموي، وأن هذا الحكم لن يكون متنوّراً البتة، بدليل “التباشير” الظلامية المتنامية كالفطر، التي لا تترك مجالاً لأيّ احتمال إيجابي من هذا النوع.
في اعتقادي الشخصي المتواضع أنه لا يزال من المبكر جداً رسم ملامح سياسية نهائية لما آلت اليه الأحوال في كلٍّ من تونس وليبيا، على رغم أن سفن الثورتين هناك قد ألقت بعض مراسيها، إن لم تكن كلها، في بحر الإسلامويين، الذي لم يستقرّ على حالٍ ديموقراطية ثابتة.
الوصف نفسه في مصر، أمّ الدنيا، حيث لا تزال تعصف رياحٌ جمّة، كثيرة الأنواء والأهواء، بين عسكر وإخوانيين وسلفيين ونورانيين، وأحلام كبرى ترفع راياتها أجيال شابة، تكافح في الخضمّ المهول، راجيةً أن تستعيد مصر دورها الطليعي في حمل أعباء النهضة العربية الثالثة.
أسهل الاستنتاجات القول، بتعميم شعبوي، محبط، يائس، مثير للشفقة، إن مصر – هذه مصر يا جماعة! – باتت لقمة سائغة في فم الإسلامويين والعسكر، وإنها لن تشهد قيام الدولة الديموقراطية المدنية. إنتظروا قليلاً. المارد المصري لا بدّ أن يخرج مجدداً من القمقم!
أما المدّ السوري فلا يزال في زمن الجرف العارم. الشارع، في بلاد الشام، رهين الزلازل والبراكين والفيضانات. حيث الشعب يصرخ حريته كما يصرخ الفجر أضواءه الفتية، وحيث لا رجوع الى حلكة ليل. في هذه البلاد، لا يزال الحكم الأسدي البعثي الاستبدادي “مقتنعاً” بأنه سيستمر في الحكم “الى الأبد”، متحصناً بتأجيج السعير الطائفي الداخلي، مبتزّاً الأقليات، لائذاً بولاية الفقيه في الجمهورية الإسلامية في إيران، وبخساسة الموقف الروسي – الصيني، موغلاً في انتزاع أرقام قياسية غير مسبوقة، قتلاً لشعبه وتدميراً لمكوّنات الحياة العامة.
لكن الجرف الثوري هو اللغة، في بلاد الشام. وهو الجسد. العارفون بـ”أحكام” الجرف ومنطقه الجيولوجي، طبائعه وارتداداته، والمفاعيل، يؤكدون استحالة التكهن بمآلاته تكهّناً حاسماً. ذلك أن الجرف لا يزال في بدايات الزمن الجيولوجي الخاص به، وأن هذا الزمن عرضة لمخاضات طويلة، وعذابات طويلة، وكفاحات طويلة، وأن مصيره لن ينكشف غداً أو بعد غد. وهو مصير، لن يكون على كل حال، رهين يدٍ ديكتاتورية، مستمرة أو بديلة. بل سيكون، موضوعياً، هدية التحوّلات الثورية المتنوعة لتركيبة المجتمع السوري الخلاّق.
كلّ تأويل آخر، مضاد، لوقائع هذا الجرف ومآلاته، من مثل سحق الثورة الشعبية وبقاء النظام العائلي والأمني القائم، لا بدّ أن يسقط في التباس المعنى، أو في الشطط الكبير.
صحيحٌ أن هنا آلة قتل غير مسبوقة، تذهب في القتل الهمجي الى غاياته القصوى. لكن الصحيح هنا أيضا، أن شعباً متنوّعاً قرّر، بشكل غير مسبوق، عدم الرضوخ بعد الآن الى منطق الاستبداد. هذه هي المعادلة السورية القائمة: الشعب الثائر يصرخ في وجه القاتل، واعياً وعارفاً ومدركاً أن ما ينتظره هو إما الموت وإما الحرية، لكنه لا يريد أن يواصل الصمت والمذلّة. وعليه، لن يكون ممكناً الرجوع الى الوراء، أياً تكن الابتزازات الداخلية للنظام الاستبدادي، أو المساومات الدولية والإقليمية الجارية، سرّاً أو في العلن الصفيق.
أربعون عاماً، خمسون عاماً من الأسر. ومن الإقامة في القمقم. كفى. ذلك لم يعد قَدَرَاً منزَّلاً على الشعب السوري. فها هو باب الحديد الأبدي يتشلّع ويتشظّى ويتكّسر ويتحطّم، في بلاد الشام، وها هو المارد المكبّل بالمآسي يخرج من القمقم. فكيف للجموح الشعبي، كيف لهذا الجسد الجامح أن يكفّ عن جموحه؟!
في غمرة هذا الجرف السوري العارم، يصدر موقف سياسي، ديموقراطي، متقدم، لأحد المكوّنات السياسية والمجتمعية للشعب السوري، إن دلّ على شيء فعلى أن سوريا لن تؤخذ بعد اليوم أخذاً ديكتاتورياً، أكان هذا الأخذ أمنياً أم عائلياً أم إسلاموياً.
وإذا كان من خلاصة ممكنة لهذا المشهد العربي المتنوع، فخلاصتان: الأولى، عبثاً يتطلع الإسلامويون الى استتباب إسلامويتهم، حكماً لشعوب تريد الحياة المدنية والديموقراطية. فمَن وقف في وجه الديكتاتورية وذاق طعم الحرية لن يستكين لمذلة ظلامية إسلاموية. الثانية، عبثاً يبحث الطاغية عن خشبة خلاص. لن يكون ثمة خشبة خلاص في المدّ الجارف.
استحالتان ديكتاتوريتان، العسكر والدين، قد تفضيان، بحكم المدّ الثوري الجارف، الى بديل. فلنجعله بديلاً ديموقراطياً!
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى