محمد تركي الربيعومراجعات كتب

عالم مجتمع الشرق الأوسط عشية الحداثة: الدين، الترفيه وسكان الأحياء/ محمد تركي الربيعو

 

 

■ سيطر الحدث المضاعف المتمثّل في الحداثة والتدخل الأوروبي على كتابة التاريخ لهذه المنطقة في القرن التاسع عشر؛ فقد أدى الركون لهذين الحدثين إلى إعادة تعريف للمفاهيم الجوهرية لتلك الحقبة، ما أخذ يلقي بظلاله على حقائق أخرى كانت موجودة في ذلك الوقت. إذ بات البحث عن الجديد وشرح أصوله وآثاره يطغى على دراسات تلك الفترة، فعلى سبيل المثال، جذبت حفنة من المفكرين المتأثرين بالأفكار الغربية معظم انتباه الباحثين، ما خلّف انطباعا خاطئا بأن الأفكار السابقة، إما إنها قد اختفت أو إنها لم تعد تستحق الدراسة.

في المقابل، عادة ما تظهر مجتمعات منطقة الشرق الأوسط في هذه الدراسات قبل قدوم الحداثة، بوصفها تمتاز بالانغلاق والمحافظة. وسيقوم هذا التوجّه على مجتمع ما قبل الحداثة من المنظور ومن الخبرة المرتبطة بعصر آخر عوضا عن الاعتماد على السمات الخاصة به. وسيقوم أيضا برسم تناقض شديد ومصطنع بشكل زائد بين قرنين يتشاركان بالكثير في ما بينهما، نافيا بذلك حقيقة أن القرن التاسع عشر قد شهد الكثير من الاستمرارية. ولتجاوز هذا التوجه، اقترح بعض المؤرخين في العقدين الماضيين أو أكثر بقليل، أن نعيد النظر بالتاريخ المحلي لمجتمعات المدن شرق الأوسطية، لأن إعادة الحرتقة هذه تكشف لنا عن صورة جديدة، وحيوية، لهذه المجتمعات قبل الاحتكاك بالحداثة الأوروبية. من هنا فقد أخذوا يبدون اهتماما أوسع بتفاصيل الثقافة الشعبية، وأوقات التسلية، والظروف الصحية، والآداب، والتعليم، والدين الشعبي، وغيرها من صور الحياة اليومية؛ ولعل من بين الجهود الجادة في هذا السياق يمكن الإشارة إلى كتاب إبراهام ماركوس «الشرق الأوسط عشية الحداثة: حلب في القرن الثامن عشر»؛ إذ انطلق من مدينة حلب في القرن الثامن عشر كعينة دراسية، لإعادة رسم صورة عالم مجتمع الشرق الأوسط قبل قدوم الحداثة الأوروبية، عبر إلقاء الضوء على حياة الأشخاص العاديين، والنساء وغير المسلمين داخلها.

الدين والترفيه:

يرى ماركوس في مقولة إن الإسلام كان هو منهاج حياة كامل، مقولة تتضمن اعتقادا مهيمنا بالنظام الديني الثقافي الإسلامي كقوة رئيسية في تشكيل ظروف وطرق العيش في جميع نواحي الحياة. وبالتالي فإن الأخذ بهذه المقولة حرفيا كمفتاح لشرح جميع نواحي المجتمع يطرح أكثر من مشكلة، ويقودنا إلى استنتاجات خاطئة. فالعديد من القواعد قد تطورت خارج الإسلام في نواح امتدت من الاقتصاد إلى الإدارة إلى الثقافة المادية والعلاقات الاجتماعية.

هذا لا يعني ـ وفقا لماركوس ـ أن الدين لم يحتل مكانة كبيرة ضمن ثقافة حلب. غير أنه لم يكن العامل الوحيد الذي قولب الأفكار المحلية. فقد كان سكان المدينة يعيشون في مجتمع غني بالمهارات والمعرفة والعادات والأذواق والاعتقادات والتطلّعات التي تطورت خارج إطار الدين، والتي لم تساهم الكتب في تشكيلها؛ وعلى الرغم من أن أحدا لم يقف ليتحدى سيطرة الدين، إلا أن المجتمع اتفق على ألا يجعله عائقا كبيرا أمام الترفيه والتسلية. لذلك كانت الحياة اليومية تتضمن في أساسها عراكا بين رغبات متناقضة ومناورات يومية لتحقيق التوازن بين الذات والمجتمع، وبين الروحي والدنيوي، كما أن النقاشات تدور حول شدة الالتزام وليس حول الحق بعدم الإيمان. فبالقرب من الجوامع، كانت هناك المقاهي؛ حيث يدردش الرجال ويلعبون الطاولة ويرشفون القهوة الساخنة ويدخنون الأركيلة حتى ساعات متأخرة من الليل. كما كانت هذه القهوات تضم عادة فرقة من الموسيقيين تقوم بتسلية الجموع بواسطة أغان ومقطوعات موسيقية شعبية. كما كانت مسرحيات خيال الظل توفر وسيلة أخرى لتسلية الزبائن في المقاهي وفي الحفلات الخاصة، إذ كانت هذه المسرحيات لطيفة وهجائية بدرجة مريرة، وغالبا ما كانت فاحشة في ألفاظها وحركاتها. وقد تركزت القصص حول شخصية كركوز، وهو شخص عادي كانت أفعاله وخبراته تعكس الوقائع اليومية التي يعيشها الناس. إن هذا الشكل الخشن والقاسي من الفن المسرحي الذي كان شائعا في كامل منطقة الشرق الأوسط والذي استمر في الوجود في حلب إلى أن بدأت دور السينما بالانتشار في ثلاثينيات القرن العشرين، كان يمثل تنوعا في التعابير الثقافية. فأحيانا كانت بعض المسرحيات عبارة عن لقطات بريئة ساذجة، لكنها غالبا ما تميّزت باستخدام مفردات إباحية وبمشاهد فاضحة، إلا عندما تشكل النساء جزءا من جمهور الحفلات الخاصة. بينما ركّزت بعض اللقطات الأخرى في مواضيعها على الأحداث المعاصرة التي تهم العامة، خاصة الفساد الحكومي والتصرفات الشائنة بين كبار رجالات الدولة التي كانت تُهاجم بشكل بالغ السخرية.

القراءة والشفوي في المدينة:

لم تشكل الكتب جزءا أساسيا من حياة العامة، ولا يعود السبب الأساسي في ذلك لكون نسبة من كان يجيد القراءة داخل المدينة قليلا وحسب، بل أيضا كانت الكتب غالية الثمن، ونادرة، لأن نصوصها كانت تُنسخ يدويا. وفي المقابل، كانت العائلات الميسورة وتلك التي تمتلك تقليدا طويلا في مجال التعلم هي التي تمتلك مجموعة معتبرة من الكتب، بعضها مؤلفة من بضعة آلاف من المجلدات التي تم الحصول عليها، إما عن طريق الشراء أو عن طريق نسخ مخطوطات موجودة. وقد كانت معظم النصوص ذات طبيعة خاصة وموجهة نحو فئة ضيقة من القراء. فالكتب الخاصة بالتفاسير القرآنية، والفقه، وعلم الكلام، والتقاليد الدينية، والطب، والتراجم والتاريخ؛ لم تمتلك نسبة كبيرة من القراء، ليس فقط بسبب كون الثقافة السائدة آنذاك هي ثقافة شفوية، بل أيضا لأن اللغة المستخدمة بحد ذاتها، وقفت عائقا أمام الوصول إلى الكتب المتوفرة وفهمها. فاللغة العربية الفصحى كانت بعيدة جدا عن اللهجة المحكية محليا، لذا كان معظم القراء غير قادرين على فهمها بدون الحصول على تدريب لغوي مكثف.

تركيب الأحياء:

كانت المدينة ـ وفقا للكتاب ـ تحتوي في تلك الفترة، أي في القرن الثامن عشر على اثنين وثمانين حيا، بالإضافة إلى المنطقة السكنية الموجودة ضمن القلعة. وقد كان حوالي ثلث هذه الأحياء موجودا داخل أسوار المدينة، بينما شكل الثلثان الآخران المناطق السكنية المكتظة خارج الأسوار. وكان للرغبة في السكن بالقرب من أعضاء الطائفة الدينية نفسها أو جماعة المهاجرين، تأثير كبير على اختيار الحي المرغوب بالسكن، لكن هناك عوامل أخرى ـ وفقا لماركوس ـ تدخلت في هذا الاختيار، كالرغبة في السكن بالقرب من مكان العمل وتوفر البيوت التي يمكن تحمّل أسعارها. وبينما تغيرت الأحياء في ما بينها في مستوى الثروة والجو الاجتماعي، لم تكن هناك أحياء مسكونة بشكل حصري من قبل مجموعة أو طبقة أو فئة وحيدة، سواء أكانت اليهود أو النجارين أو قبائل التركمان. وحتى الأحياء التي سُمِّيت وفق فئة اجتماعية معينة، لم يكن تكوينها متوافقا مع تسميتها بالكامل. فغالبا ما كانت هذه الأسماء تعبّر عن عنصر واحد فقط في تكوين الحي، وتنطوي أحيانا على مفارقات تاريخية، إذ آوت محلة اليهود جزءا من الطائفة اليهودية، وسكنها أيضا العديد من المسلمين، ورغم أن بعض الأحياء كانت قد بدأت أصلا على شكل مستوطنة متجانسة لمجموعة ما محددة، إلا أن حركية الحياة اليومية، أدّت بشكل تدريجي إلى إنشاء تغيرات في وسطها لتمحو شيئا فشيئا شخصيتها الأصلية، وحتى الأقليات الدينية التي كانت محدودة طبيعيا بحياة اجتماعية طائفية، لم تنغلق على نفسها ضمن أحياء منفصلة. ومن ناحية أخرى، لم يكن التفريق بين الأحياء على أساس الثروة هو القاعدة. فبعض أكثر العائلات ثراء كانت تعيش بالقرب من مركز المدينة. فتوزع طبقات المجتمع لم يكن يتبع نمطا مركزيا واضحا، وكان العديد من الأحياء يحتوي فعليا على مزيج من أشخاص ينتمون إلى طبقات دخل مختلفة، ففي حي الفرافرة، اشترى باشا العظم منزلا ضخما بقيمة 11500 قرشا، بينما دفعت آسيا بنت عبد الله 35 قرشا ثمنا لحصة نصف بيت مؤلف من غرفتين في الحي نفسه، وبالتالي فإن العديد من أحياء المدينة، كانت تحتوي على مزيج من طبقات المجتمع ذات مستويات ثروة متفاوتة وليس على مجموعة من السكان المتجانسين الذين ينتمون جميعا إلى الطبقة الاجتماعية نفسها. ورغم ذلك، فقد بقيت الفوارق بين الأحياء حقيقية وموجودة، إذ لم يقم الميسورون بفصل أنفسهم ضمن أحياء سكنية خاصة، ولكن ذلك ليس بسبب انعدام اهتمامهم بالفوارق الاجتماعية. بيد أنه كان باستطاعتهم العيش بين سكان فقراء بشكل عام بدون أن يؤثر ذلك في مكانتهم، وذلك بسبب وجود العديد من الترتيبات الاجتماعية التي حافظت على تلك المسافة حتى في حالة القرب الفيزيائي من الآخرين.

كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى