صفحات الحوار

عباس بيضون: أتساءل إذا كان الجيل الجديد جديداً فعلاً؟

 

 

ليندا نصار

يعتبر عباس بيضون من الرموز المهمة التي طبعت حركية الشعر العربي الحداثي عامة، وقصيدة النثر العربية خصوصًا إلى جانب بسام حجار، وشوقي أبي شقرا، وأنسي الحاج، وغيرهم من الشعراء العرب، لخصوصية تجربته الإبداعية، ولقدرتها على اختراق الزمني.. والإقامة في مضايق عبر رؤيا إنسانية رفيعة قاومت الموت بجمالية لافتة، لتكون بذلك واحدة من أنضج التجارب الشعرية التي انزاحت عما هو مألوف لغة وتخييلا وفلسفة.

يبلور الشاعر في كتاباته ذاكرة مفتوحة على المجهول، وفي الوقت نفسه يرمم أعطابها، ويصارع النسيان كما لو أنه يحمل إزميلا خاصًا به يساعده على بثّ روح جديدة في النص الشعري العربي الحديث. ولعل الأعمال التي أنجزها في مسيره تترجم هذا الأفق الكوني المنفتح على الأجناس الأدبية التي ينتقل إليها بثقل العارفين بتشكيلاتها وأبنيتها الجمالية المتعددة، فقد ترجمت إلى لغات أجنبية عديدة منها الفرنسية والألمانية والإيطالية والإنكليزية والإسبانية. وصدرت كتبه المترجمة في كبريات دور النشر العالمية. وقد صدر للكاتب في الشعر: “الوقت بجرعات كثيرة” (1983)، و”نقد الألم” (1987)، و”خلاء هذا القدح” (1990)، و”حجرات” (1990)، و”أشقاء ندمنا” (1993)، و”لفظ في البرد” (2000)، و”شجرة تشبه حطابا” (2005)، و”ب.ب.ب”( 2007)،  و”الموت يأخذ مقاساتنا” الذي توج بجائزة المتوسط (2008)، و”صلاة لبداية الصقيع” (2014)، و”بطاقة لشخصين” (2010)، وفي الرواية: “مرايا فرانكشتاين” (2010)، و”ألبوم الخسارة” (2011)، و”الشافيات” (2013)، و”خريف البراءة” (2015) التي توجت بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الآداب. كما شارك في العديد من المؤتمرات الثقافية في العواصم العربية والعالمية، وقدمت شهادات عن تجربته في الكتابة، وأنجزت دراسات حولها، لكن بيضون ليس شاعراً وناقداً فقط، بل روائي أنجز عدداً من الأعمال السردية الروائية حملت بصمته المميزة كما شأنها في غير صعيد كتابي زاوله.

هنا حوار معه:

* كيف ترى رحيل أصدقاء ورفاق ممّن عايشتهم من أبناء جيلك، وأخيرا رحيل عصام العبدالله؟ ألا تشعر بالوحدة والعزلة؟

أولًا بموت هؤلاء الأصدقاء أفكّر بموتي أنا شخصيًا، خصوصًا أنني فقدت على توالي السنين عددًا من أصدقاء عايشتهم سنين طوالًا منهم بسام حجار، وجوزف سماحة، ومي غصوب. هؤلاء الثلاثة الذين رثيتهم فكتبت مجموعة كاملة عن بسام حجار، وكتبت قصائد عن مي غصوب، ومقالات ومراثي عن جوزف سماحة. والآن ليس غياب عصام العبدالله وخليل شحرور أقل. نحن نفقد في حياتنا قبل أن نفقد أنفسنا. كتبت في الأخبار عن عصام العبدالله وما زلت أشعر بفقده، فهذا الرجل كنت ألتقيه مرتين في اليوم، ولا بد أن ما تركه هذا فيّ أبعد من تعقد الموضوع.

حين نكتب عن أنفسنا نعيد اختراعها

* هل الرواية بالنسبة إليك استعادة ماض عشت فيه شبابك وتحنّ إليه اليوم؟

هذا الأمر يعود بحسب الرواية نفسها، ففي التسعينيات كتبت الرواية وكانت فعلًا من الذاكرة، ولم أنشرها إلى الآن، ثم إن “تحليل دم” الرواية التي نشرتها في دار الريس هي أيضا في معظمها من الذاكرة، طبعًا ثمة لعب بالذاكرة، إذ أعدت تركيبها، ومزجت بين أشياء وأشياء، وبين أشخاص وأشخاص، كما استبدلت أشخاصًا بأشخاص وأماكن بأماكن، لكن طبعًا حضور الذاكرة في هذا النص كان قويًا، وأظن أن الأمر نفسه كان في “مرايا فرانكشتاين”. الأمر نفسه هو فيّ اليوم، وأظن أن الأمر نفسه سيبقى في كتاب سيصدر غالبًا في الربيع بعنوان “شهران لرولى”. لكن إذا وضعنا هذه الأعمال جانبًا، فإن “ساعة التخلي” أو لنقل “الشافيات” أو “خريف البراءة” هذه أعمال روائيّة لا تتصل بذكرياتي. أكتب روايات، ولا أكتب يوميات، أو مذكرات، أو سيرا، حتى في الروايات التي تتصل بحياتي وهي كثيرة؛ فالكاتب يجد أولا نفسه الشخص الذي يعرفه والذي يستطيع أن يتحراه، سيكون بالتأكيد نفسه أم لا. طبعا هناك “أنا” حاضرة في العدد الأكبر من رواياتي، وأظن أنني لم أكتب رواية لست حاضرًا فيها، ففي كثيرها القليل، هناك شخص وحيد نرجع إليه دائمًا حين نكتب وهو نفسنا. نحن حتى حين نكتب عن أنفسنا نعيد اختراع أنفسنا، حتى حين نكتب ذكرياتنا نعيد صياغة ذكرياتنا ونعيد تأليفها، وما نسميه ذكريات ليست سوى ما بقي منها، أو سوى ما يمكن تأليفه من هذه الذكريات، أو سوى ما يعاد تخيله منها. فنحن في الواقع لا نعيش فقط، بل نتخيل ونكون بين إعادة التأليف وإعادة الابتكار وإعادة التخيل التي تنطبق على كل شيء وبين الأصول الواقعية للأشياء. عندما نكتب عمّا علمناه وخبرناه فهذا أصل الكتابة وليست الكتابة نفسها فأصول كتابة الأشياء هي غير الأشياء.

* كيف ترى رواية الشعراء من أبناء جيلك؟ هل ستؤسّس لنوع جديد من النتاج الروائي؟

نتكلم بالمجمل بالتأكيد. كل جيل من الروائيين يملك هذه الصلة بعصره، وبوقته وبعمره. وبطبيعة الحال هؤلاء الروائيون في مجملهم يسعون إلى أن يبتكروا، وإلى أن يعيدوا تخيل الأشياء، وبالتأكيد هذا ما يمكن أن نميزه لدى كل جيل هناك. نحن نحترم كثيرًا نجيب محفوظ لكنه ليس موجودًا في رويات اليوم، كان نجيب محفوظ يكتب في جيل آخر وبعدّة أخرى وبتراث آخر وبلغة أخرى. أما الآن فتختلف اللغات والتأليف وتختلف الحبكة والأغراض والثقافة والتاريخ.

* إلى أيّ مدى تشعر أنّ رواياتك تجد تلقّيًا واهتمامًا أكثر من شعرك؟

أنا لا أتقصى، ولا أعرف أين ومتى وكيف أُقرأ؟ وإذا كنت أؤثر فعلًا. فإذا كان السبيل إلى تقصّي ذلك هو المقالات النقدية فهذا ليس صحيحًا، عندما يكون الكاتب معروفًا على نحو ما فكل كتاباته تحظى بالنقد، وهذا لا يدل على شيء، ولا نعرف ولم نقم، أو لم تقم أية مؤسسة، بإحصاء البيع والشراء أو كمّيّة القراءة. أظن أن الرواية تترك دائمًا شيئًا تقوله قد لا يتركه الشعر معناه أن قارئ الشعر لا يجد بسهولة لغة للكلام عما يقرأه بينما قارئ الرواية يجد على الأقل الوقائع والأحداث ليسأل عنها، هذا ليس معيارًا لكن أنا كعباس بيضون معروف كشاعر ولست مستاء من ذلك أنا شاعر أولا وهذا ما أقوله باستمرار، ولكني لست الشاعر الوحيد الذي كتب روايات، هنالك أناس بدأوا شعراء وصاروا روائيين، وهنالك شعراء كتبوا روايات. والأسماء لا تعوزنا، يكفي أن نقول مثلًا إنّ واحدة من أشهر الروايات كتبها شاعر وهي “البؤساء”. ليست المسألة هنا بين الشعر والرواية أظن أن كتابة الرواية حلم كل إنسان سواء أكان شاعرًا أم لم يكن. كل الناس يميلون إلى كتابة الروايات لأنهم يحبون أن يحكوا روايات.

* ماذا عن قصيدة النثر العربية اليوم؟ هل أنصفها النقد بمختلف مستوياته؟ أم أنها لا تزال تعيش فوضى التسمية؟ وهل هي بخير؟

لا يهمني أن تكون قصيدة النثر بخير. أظن أن الأدب بأكمله ليس بخير، نحن لسنا في مجتمع قارئ، ولا نعيش وسط القراء؛ والقراء قلة، سواء أكان ذلك على صعيد الرواية أم الشعر؛ والأدب لا يحظى بمكانة اجتماعية مرموقة. ما يمكن قوله هو أنه لا يهمني أن ينصفها النقد لأنّ حتى النقد نفسه أصبح غير مقروء. وليست هناك حركة نقدية جدية، هناك النقد الصحافي الذي لا نعرف إذا كان قراء الصحف يعرفونه أو يقرأونه. هناك نقد لا يعرفه أحد، أعني النقد الاختصاصي، وهذا لا يعرفه إلا الدارسون فقط. لا نستطيع أن نتكلم عن نقد جدي، نحن لا نملك نقدًا يصح إطلاق هذه التسمية عليه وهو لا يؤثر بواقع الأمر في معرفة شخص أو لا، والناس يشتهرون أو لا يشتهرون بحكم عوامل لم نستطع تحديدها حتى الآن، وقصيدة النثر استقرت وتملك الآن تراثًا حقيقيًا، فهي موجودة منذ الخمسينيات؛ أعني قصيدة النثر وليس محاولاتها التي ترجع إلى ما قبل ذلك بكثير، فقد وجدت وتركزت مع الماغوط، وشعراء النثر أنسي الحاج، وجبرا إبراهيم جبرا، وشوقي أبي شقرا؛ هذه القصيدة مضى عليها أكثر من سبعين سنة وأصبح لها موضع، والآن معظم الشعراء يكتبون قصيدة النثر وإن كانت هناك عودة مباركة لقصيدة الوزن ولا أعترض عليها. أنا لا أجازف بقصيدة الوزن ولا أدعو إلى تضييقها فهي ثمينة وموجودة في ثقافتنا وتراثنا. لا أريد لقصيدة النثر أن تطغى على كل الجو. هناك قصيدة الشعر وقصيدة النثر وهما مختلفتان. فلماذا لا تبقى الأولى مقابل الثانية؟ ولماذا لا ننشر كل واحدة في موضعها المحدد؟

أتساءل أحيانًا إذا كان الجيل الجديد جديدًا فعلًا؟

* ما رأيك بالشّعر الجديد في العالم العربيّ؟ وإلى أيّ مدى تجد اختلافًا بين أبناء الجيل الجديد وأبناء جيلك؟

في واقع الأمر لست متشائمًا من الذين ينعون على شعر اليوم أنه متأخر عن شعر الماضي، هناك تطور عادي للشعر والرواية من جيل إلى جيل، فمن بين ما يكتبه شعراء النثر من الجيل الجديد، أجد أشياء كثيرة أحبها، وأجد أحيانًا بين شعراء الوزن أعمالًا أحبها أيضًا، وإن كان شعر الوزن غير موجود بهذا المعنى كثيرا في الأجيال الجديدة، وأنا أجدها لا تجدد ولا تولد كثيرًا في قصيدة الوزن، وغالبًا ما يكتفى بالعمل على آثار السابقين. لكن على الرغم من ذلك فأنا لست يائسًا ولا بدّ لقصيدة الوزن أن تعاود نشاطها وأن تجد شعراء جددًا بكل المعاني يتابعونها. للحقيقة لم يكن صراع الأجيال قويًا في مرحلة جيلنا، وهو ليس قويًا الآن. يعني الجيل الجديد لا بد أن يكون جديدًا وجدّته لا تؤثّر ولا تقلّل منه، جدّته ستكون عاديّة طبيعيّة. أحيانًا أتساءل إذا كان الجيل الجديد جديدًا فعلًا فهو يجب أن يكون بجدّة كاملة لأن القصيدة تتطور الآن حتى اجتماعيًّا، فهي تصبح مدينيّة أكثر فأكثر. القصيدة تستلهم ثقافة أخرى وهي تعيش ظرفًا تاريخيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا مختلفًا جدًّا وإذا كانت تتأثر بكل ما يحيط بها فلا بدّ من أن تكون جديدة تمامًا.

* هل أنت مطمئن إلى ما كتبته حتى الآن؟

لست مطمئنًّا إلى شيء، ولست من دعاة الاطمئنان، ولست من أهل اليقين. أنا أكتب وفات الوقت الذي أرجع فيه إلى ما كتبته أو أتراجع عنه، المهم أني ما زلت أكتب وهذه نعمة لرجل في مثل سنّي، خصوصًا أني ما زلت أؤلّف وأبتكر، وأحيانًا أشعر أن الشعر فاتني لكني أعود فأسترجعه وهذا ما يهمني فقط. بالمقابل لا يعنيني أن أقابل ما كتبته سابقًا بما أكتبه الآن ولا يهمني أن أتقدم باستمرار. أعرف أن لكل شاعر مؤلّفا ومؤلّفين أو ثلاثة مؤلّفات كبرى، وهذه لا يكتبها بالضرورة في آخر عمره، يكتبها في زمن ما هو لا يعرفه.

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى