صفحات الحوار

حازم العظمة: الشعر أقدم من السياسة بكثير

 

لا يعتقد أن للشعر مشاريع والترميز لا يعجبه

احمد عساف

الشاعر حازم العظمة من الأسماء المهمة على امتداد مساحة الشعر السوري، هو من تلك الأسماء التي استطاعت أن تترك نبرة شعرية خاصة في زمن ازدحم بالشعر والشعراء، قصيدته بخصوصيتها تؤسس لقصيدة شعر سورية تتابع تعب الرواد من حداثيين منتمين لشغف القصيدة ولصليب الشعر، بعيداً عن المشهد الشعري البائس. زمن شعري اختلطت فيه الأوراق وتبعثرت، استطاع حازم بعيداً عن تجارب مجايليه، أن يؤسس لقصيدة مختلفة عن يباب الشعر العادي المكرر والمعاد، تتميز تجربته الشعرية بذاك الهسيس الشعري الخافت حيناً والمتوهج لحد الحريق تارة أخرى، منحى ذكي وموهوب ونام يتدلى من خاصرة القصيدة إلى آخر جوري يزدحم ببنفسج يصعب علينا فك شيفرته ببساطة، اللافت في المنجز الشعري لقصيدة حازم العظمة، لتجربته، تتميز قصيدته بذاك المس الجميل واللافت والمؤثر في الوقت ذاته.

هنا حوار مع الشاعر حازم العظمة:

– في أولى مجموعاتك الشعرية : ( قصائد أندروميدا ) أولى قصائد المجموعة تحمل عنوان : ( عربة ) ، آخر مجموعاتك الشعرية الصادرة عن دار الريس ( عربة أوّلها آخر الليل ) ، ماهي حكاية العربات ؟
– بعد ان أرسلت مجموعتي هذه الأخيرة لدار النشر ، سألني المدقق اللغوي سؤالاً يحمل الفضول نفسه : “هذه العربة التي أولها آخر الليل لابد ان تكون قد غادرت في الفجر ؟ “.. أحيانا يخيل لي أن هذا العالم هو هكذا سفر ذاهل في ليل لاينتهي ، ونحن في العربة لانغادرها إلا لدقائق في محطات منسية ، محطات غير محسوبة ولا نتوقعها .. أو لنقل أننا في حفلٍ ليلي طويل .. يدور في عربة ..
– أقبس من قصائد هذه المجموعة : ” نعيد من المشهد مدينةً كانت هناك / تشبه جبالاً ناعمةً / ومفازات ليليةً نطويها على سواعدنا / نخلّصها من حطام هواءٍ قديم / … البحر لايصل ” … نقرأ في ذات المجموعة : “كلُّ ما كان هناك كان بالصُدفةِ هناكَ / سـوى خيالاتٍ لها هيئة خرائبٍ في الليل / ومدنٍ وراء الخرائب كلما اقتربتَ ابتعدتْ …”
ثمة خراب ، لماذا كل هذا الخراب ؟
– الخراب ونقيضه يستمدان من بعضهما ، لا أعتقد أني تحدثت عن الخراب بقدر ما تحدثت عن الضوء ،عن النهار ..عن كائنات جميلة … الحديث عن الخرائب يكاد يكون نفسه افتقاد نقيضها .. هكذا بطريقة ما هو إشارة إلى المتعة ، خصيمتها ..
– لكننا نتلمس تلك النبرة التشاؤمية في الكتاب ؟

– أحمد أنت أول من يقول هذا الكلام ، أو هكذا رأي ، إذ على العكس عادةً ما أُفهم على أني متفائل .. لا أجد أن العالم يمكن ان ينقسم إلى متشائم ومتفائل ، إلى تفاؤل وتشاؤم ..على أية حال جميل أن أجد انطباعات متناقضة ، أحدها انطباعك أنت .

– في قصيدتك : ( جدارٌ خفيفٌ آخر بحزيران ) هل تقصد حزيران هنا كرمز للنكسات والهزائم وإلا ماذا ؟

– لا أنا لم أرمِ إلى ذلك ، ومن ذلك أننا كأمة اعتدنا النكسات والخيبات ، أنا لم أقصد ذلك أبداً ، حين أقول حزيران فأنا اتحدث عن شهر حزيران ، الرمزية في الشعر لاتعجبني أعني استخدام الكلمات كإحالات ومفاتيح شعرية ، حين أقول تفاحة هي تفاحة ، وحين أقول بريد سريع فهو البريد السريع الخ ، وذلك رغم اعترافي أن ثمة إحالات في الشعر ، وقد يقول أحدٌ أن اللغة من الأساس هي إحالات ، صحيح لكني دائماً ما ابتعدت عن رموزٍ وجدتها فجّة ..
مسألة الإحالات في الشعر كانت مملة ليس من الآن ، بل منذ نشأَت ، انا في هذه القصيدة أشرت إلى الزيزان الخضراء التي كنت أراقبها وأنا طفل ، وهي تأكل المشمش الفج … وكنت أعني الزيزان الخضراء فعلاً .. ربما الزيزان الخضراء تحيل إلى حزيران .. بالنسبة لي

– ماجدوى الشعر في هذه الأيام .. ؟

– ما أراه أننا حين نتحدث عن الشعر لا نفكر كثيراً في الجدوى .. ورغم أن الشعر قديم قدم اللغة كما أعتقد ، إلا أن بحث ” الجدوى” في الشعر لم يصل يوماً إلى نتيجة ، قد يكون الشعر نقيض الجدوى ..
في الجدوى تبحث عن نتائج وخلاصات و”منتجات” و”إنجازات” .. وكلها تنفر من الشعر، والشعر ينفر منها ..
قد يفهم أحدٌ الجدوى على أنها الجدوى في السياسة أو الخطابة أو الإيضاح أو “التوظيف” .. وأنا لا اعتقد ان الشعر كان شديد الحساسية للتبدلات والأحداث السياسية ، مع انه كان أحياناً يشتبك معها ، يخيل لي ان الشعر أقدم من السياسة بكثير ، ويمضي أبعد ، وسيستمر هكذا، مع ان نفوذه يبدو قليلاً وضئيلاً ويكاد لايترك وراءه أثراً مرئياً .. يكاد لا يترك علاماتٍ تدل عليه ، في ذات الوقت أقدّر كثيراً من يستطيع ان يختصر اللحظة السياسية في مقاطع شعرية ،هذه المعادلة صعبة بمعنى ما ، .. كثيرون ممن حاولوا أن يكتبوا السياسة شعرا وقعوا في فخ الخطابية والمباشرة والتقريرية ، ولم يكن ثمة شعر ضمن هذا الخطاب .. أو أن ما بقي من الشعر كان نادراً .. أفضل أن نتحدث عن تأثير الشعر .. لا عن جدواه ..

– عادة ما يقال أن هذا عصر الرواية لا الشعر .. ما رأيك

– هو يبدو فعلاً كذلك من إحصائيات قراء الروايات ، إلا أن هذا شأن إحصائي كما أرى ، والإحصاءات لا تقول كل شيء ، وأحياناً لا تقول شيئاً ، لماذا لا يقولون أيضاً أن هذا العصر هو عصر الأغنية و أعني الأغنية الأكثر إنتشاراً .. وأحياناً ما تكون الأغنية الأشد ابتذالاً ، لماذا لا يقولون أنه عصر المتفجرات .. الـ TNTمثلاً .. إن كان ثمة من تحولٍ إلى الرواية فعلى حساب كتب البحث و الدراسات ، لا أعتقد أن الشعر يقدم نفسه لأية ( منافسة ) من هذا النوع .. الشعر غير مرئي .. مع أنه موجود في كل شيء ، وليس في القصائد وحدها، ويذهب أبعد.. لاحظ أن أحسن ما نمتدح به رواية ما أن نقول بأنها تكاد تكون شعراً .. يبدو لي أننا نبحث عن الشعر في الرواية أيضاً ..

– في قصائدك نجد بعض القصائد تحمل أسماء علم ، على سبيل المثال : أحمد – تواهي سعدي يوسف – بريد رشا عمران . وغير ذلك ، ماذا يعني ذلك ؟

– قصيدة ( أحمد ) اسم علم عام غير محدد ، احمد قد يكون أي أحمد ، فيما “تواهي سعدي يوسف” ، و”عربات بريد رشا عمران” وغيرها ، فيها أتحدث عن شعراء وأصدقاء ، هناك العديد من أسماء الأماكن ايضاً .. أماكن حقيقية ومتخيلة .. كـ “عَراس” مثلاً .. أحيانا أسماء العلم تفرض نفسها ، تقفز من الذاكرة ، تعطي الكتابة تلك النبرة الملموسة التي تعيد إقامة صلتها بواقع ملموس يومي حقيقي ، وحميمي أيضا ، وتبني جسراً آخر إضافياً بين عالم الشعر الذي يكاد يكون هباءً ، وبين الواقع المحسوس الذي يمكن أن تتلمسه وتشمّه .. وتلوّنه ، إن شئت ..

– ثلاث مجموعات شعرية : ( قصائد أندروميدا ) ، ( طريق قصيرة إلى عَراس ) و ( عربة أولها آخر الليل ) هل قدمت فيها مشروعك الشعري ؟
– لا أحسَبُ أنه كان لي مرةً “مشروع” شعري .. كما لا أعتقد أن الشعر يأتي في ” مشاريع” .. أعرف أن كلمة ” مشروع” كثيراً ما تضاف إلى ” شعر” ، ولا يعجبني ذلك .. حسناً بالنسبة لي على الأقل ما أراه شعراً لاعلاقة له بأي مشروع ..
الشعر يأتي أو يغيب ، يصعد أو ينحدر ، يستقيم أو ينحني ، أو يُجلد أو يُخنق أو يُغرق بطريقة لاتشبه أي مشروع في العالم ، وهو كذلك عفوي وطليق وحافي وبلا معدات ..ولا إطار له ولا “خطّة ” ، ما أراه أن ثمة نفورٌ بين الشعر و” المشاريع الشعرية” ..

– الشعر ماذا يقدم لك ؟
– المتعة .. متعة أن أكتب أساساً ، أعني أنها حياة ثانية ، أو موازية ، إن شئت ، هناك ايضاً متعة أن يقرأني آخرون .. هناك متعة أن تُوغل في العالم .. إلى أقصاه ، في المتاهة تماماً ..

– في عالمك الشعري ، قصائدك ، نجد هناك التجريد ، والسريالية ، والواقعية .. ما مدى تأثر تجربتك بالفن التشكيلي على هذا
– الكثير ، لكنه ليس تأثراً بمعنى أنّي أستورد عناصراً من صنف آخر .. فأنا أجد أنها صنف واحد الفنون كلها .. تستطيع أن تقول هذا عن المسرح أيضاً .. قد لا أجد فرقاً هائلاً في النهاية ، أو حتى فرقاً ما ، لنقل مثلاً بين الموسيقى والشعر، أو بين النحت والشعر واللوحة .. نحن نعيش هذا التشابك حين نتأثر بالفن عامة .. إذ نقول أن هذا الفلم شاعري .. أو أن اللوحة شعرية .. أو أن هذه اللوحة مليئة بالمسرح ..وغير ذلك
أما بخصوص التجريد فأجد أن اللغة ، ناهيك عن الشعر،هي أبعد تجريد في العالم .. في اللغة نحن نحّول الكائنات ، وما يحدث لها ، إلى أصوات وإشارات مكتوبة .. كلمة ” تفاحة” التي نلفظ (صوتها) أو نراها مكتوبة هكذا : ( تفاحة) لا علاقة لها بالجسم الذي تشير إليه سوى العلاقة التي نحن أنشأناها .. هكذا الشعر يعيد تشكيل تلك العلاقة السحرية بين اللغة والكائنات .. وهو يلغي علاقاتها المكرّسة القديمة وينشىء بينها علاقات جديدة ..

– لكنك تخليت عن مهنتك كطبيب وتفرغت للشعر .. ماذا يعني هذا

– لنقل أن الشعر لصيق الصلة بالحياة أو لنقل ( في مبالغة شعرية) أنه الحياة نفسها من وجهة نظرٍ ما ..
.. لنقل أنني سئمت من الطب .. الطب مهنة متعبة .. أما الشعر فليس مهنةً إطلاقاً .. ولا أعتقد أني ” تفرغت” للشعر .. ولا أصدق كثيراً حقيقة أن أحداً “يتفرّغ” للشعر.. قد يكون العكس ممكناً : الشعر يتفرّغ للكائنات ..

– يقول د. يوسف إدريس ” إن كل الكمية المعطاة من الحرية في العالم العربي لا تكفي كاتباً واحداً” .. ما رأيك ؟

– صحيح .. حتى الآن ..

– ما رأيك بما يسمى بالربيع العربي ؟

– هو فعلاً ربيع عربي .. وكردي وأمازيغي ونوبي وشركسي وأرمني وآشوري وسرياني وتركماني .. وغير ذلك .. الثورة في أفق هذا الشرق كله .. وثمة أمطارٌ وسخة وأمطار موحلة .. لكنه قادم

– صفحتك على (الفيسبوك) تقدم فيها مقاطع شعرية تنال الإعجاب .. ماذا يعني لك هذا

– هذا يعني لي أن الشعر يصل .. وهذا يسعدني .. دائماً ما وجدته مضحكاً الإدّعاء : أنا لا أكتب لأحد .. أو : أنا أكتب لنفسي .. أو للعدم ..

– بعيداً عن مجموعتك الأولى ” قصائد أندروميدا” التي ضمّت قصائد غزل جليّة ، تتخذ المرأة في قصائدك فضاءً غير ملموس ، أو لنقل أنها تبدو غامضة .. ما السر هنا أو ما هو الرمز ..

– ليس تماماً .. وما الذي تقوله إذن عن عنوان كهذا : ” تافهون كل قليلٍ يقعون عليكِ من الصيف”
أو : ” كؤوس متباعدة في حاناتٍ يضيئها برق خفيف” .. لا أجد المرأة “غرضاً” من أغراض الشعر أو “موضوعاً” .. أو لنقل الشيء نفسه عن” الرجل” بالنسبة لشاعرة .. لا بد أن نعيد النظر في تصنيف كهذا : قصيدة غزلية وغيرها ليست غزلية .. أوقصيدة وجدانية .. وغير ذلك .. يبدو لي كل شيء متشابكاً بطريقةٍ لا فكاك منها ..

– ما رأيك بالواقع الشعري الآن وما هي الأسماء التي تلفت انتباهك

– اعذرني إن أغفلت الأسماء .. فالأسماء التي قد أقولها لا يعرفها أحد وما تزال في بدايتها .. وبالتالي ذكرها لن يعني أحداً في كثير .. ما أجده ان الشعر قادم .. كما كان دائماً

– أنت كنت تقيم في مزرعة على حافة البادية في فضاء رحب ، الآن تقيم في فضاءٍ شبه مغلق ، هل هذا يغيّر من مناخ القصيدة لديك

– لا أعتقد .. ومع أن الشعر يستمد من العالم حوله إلا أن هذا التأثير ليس مباشراً إلى هذه الدرجة ..هناك أقيم من نحو عشرين سنة ، من هناك أستطيع أن أرى متى في أول الشتاء قمة “حرمون” حطّ عليها ثلج جديد .. أو “طلعة موسى” في القلمون .. على كلٍ هذا الإنتقال مؤقت ، ومافرضه مؤقت .. سأعود

– هل تخبرني بماهو جديد ..

– نعم .. مخطوط كتابي الجديد ” أسواق الموسلين” .. وفيه أن امرأة في المسرح تغادر من باب الكواليس من منتصف مسرحية تجري حوالي منتصف الليل بعد عشر سنين من الآن .. فتجد نفسها في هذا الزمن..لنقل اليوم أو البارحة .. مرعوبةً في ظهيرة شارع مزدحم بعابرين لا يكترثون لشيء ..

(دمشق)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى