أحمد باشاصفحات الثقافة

عبد اللطيف خطاب: طغيان رمل الموت/ أحمد باشا

 عبد اللطيف خطاب، أمير شرقي، ترك خلفه مجموعة شعرية واحدة ومخطوطات لم يعرف مصيرها بعد مضي سبع سنوات على رحيل صاحبها. ربيُ ضفاف البليخ السوري فرضَ نفسه كاسم يجب الوقوف عنده عند مطالعة التراث الشعري السوري، فهو ينتمي لجيل تقاطعت أحلام أبنائه في منتصف الثمانينيات، جيل احتضنه ملتقى جامعة حلب؛ “الملتقى الأدبي” الذي  أفرز أسماء تركت بصمتها في مسيرة قصيدة النثر السورية. لعل عبد اللطيف خطاب هو واحد من أهم الأسماء الغائبة-الحاضرة من بين تلك الأسماء الناشئة حينها على المستوى الشعري.

رغم مرضه الجسدي المزمن، لم يتوان عبد اللطيف عن التهكم من الموت والسخرية منه، فصاغ  من الألم الساخر نصاً شعرياً استثنائياً، ظهر فيه فارساً يترجل القصيدة كي تتابع الحياة بهدوء حياتها. في مجموعته اليتيمة “زول أمير شرقي” راح خطاب للأقصى في الاستفادة من المخزون الثقافي الهائل عنده، فوظف التراث في نص شعري حداثوي. الشاعر الفصيح حد البداوة، لم ينحدر إلى الاستسهال اللغوي، فظل النص عنده جزلاً، متحرراً من هامشية المعنى، ينتصر فيه لبطولة الفرسان، ويتغنى بوهج أخلاقهم في الذاكرة الجمعية، كما كان يتلصص على حضورهم في صفحات السير.

جمع كتابه الشعري الوحيد ستة نصوص هي “موت الشاعر” و”موت الإله الطيب” و”أفول نجم الدكتاتور” و”صلاحيات ولي العهد” و”طغيان رمل الموت” و”تاريخ الجمجمة”. يصلح أي من أسماء نصوصه هذه عنواناً لهذه المرحلة. حيث  تحيلنا عناوين النصوص كما محتواها إلى الصادم في الحياة، إلى القسوة المطلقة الناشئة من سطوة التاريخ على الآن. البلاغة ليست حاملاً جمالياً أو شكلياً فقط عند الشاعر الراحل، بل هي قسوة المعنى على نفسه، حيث تغزر المفردات القاسية، فتتطلب حاملاً لغوياً يعزز حضورها داخل النص الشعري، ففي “طغيان رمل الموت” يقول خطاب:

كان يعاتب أشباحه، أو يرائي سيادة الآلهة الاصطناعية، وما أحد منا كان

 يلوث الرمل بيديه المائديتين، غير أن التباشير جاءتنا بالإنذارات

 التابوتية، لحمل الأجنة على كف المواسم..

 ولد الشاعر الراحل عام 1959 في محافظة الرقة. درس في كلية الاقتصاد، قسم إدارة الأعمال في جامعة حلب. برز نجمه مع مجموعة من الشباب في  ملتقى جامعة حلب الأدبي، الذي أفرز أسماءً لامعة سجلت حضوراً في المشهد الثقافي السوري (لقمان ديركي، عمر قدور، محمد فؤاد، خالد خليفة.. إلخ).

وعن تجربة الراحل عبد اللطيف خطاب يقول صديقه الكاتب خالد خليفة لـ “المدن”: “لايمكن الحديث عن سنوات الثمانينيات في جامعة حلب دون الحديث عن ملتقى الجامعة الأدبي الذي استمر من عام 1981 حتى 1988 في ظروف أمنية شديدة القسوة. ولايمكن الحديث عن هذا الملتقى دون الحديث عن عبد اللطيف خطاب الشاعر الذي لايمكن وصفه إلا بالمتفرد والمبدع”.

 صدر “زول أمير شرقي”، عن دار “الريس” (لندن). وترك خطاب خلفه أيضاً مخطوطات عديدة: “الغرنوق الدنف”، و”سفر الرمل”، و”ترجمان النوم”، وكتاباً عن “تاريخ الكرد”. مجموعة أعمال لا يعرف مصيرها حتى يومنا هذا، فهل تبقى أعمال شاعر كعبد اللطيف خطاب حبيسة أدراج مجهولة؟ إن إعادة الاعتبار للشعر السوري مرتهنة بإعادة الاعتبار لأسماء لم تُكرّس. عبد اللطيف خطاب هو واحد من هذه الأسماء. صحيح أنه عاش ومات في الظل، لكنه بقي صوتاً شعرياً استثنائياً لا بد من الوقوف عنده عند كل حديث عن الشعر السوري.

 وعن صداقته للراحل، يقول الشاعر  لقمان ديركي لـ”المدن”: “عبداللطيف كان شاعراً وباقي الأشياء في حياته كانت مجرد تفاصيل، لا أكثر ولا أقل، شخص بريء شاهد البحر الأسود قبل البحر الأبيض، لم يذهب إلى البحر الأبيض المتوسط ولا مرة في حياته بسوريا. ذهب للعلاج إلى مدينة فارنا في بلغاريا وكانت المرة الأولى التي يشاهد فيها البحر، عاد غداة عملية قلب أجراها هناك وقال لنا بمنتهى السعادة: “شاهدت البحر الأسود قبل البحر الأبيض”، واعتبرها إحد إنجازاته في الحياة. عبد اللطيف كتب نصوصاً عظيمة لا يفارقني مطلع إحدى قصائده: “وقالوا لك لا ترافق الأعور، وكنت بعين واحدة، فبكيت”.

 ويتابع ديركي حديثه عن خطاب بالقول: “عبد اللطيف متحرر من الإديولوجيا، كانت قصائده صدامية مع السلطة، كما تتميز نصوصه بأنها تجابه الدكتاتور بكافة أشكاله، لكنها قصائده انهزامية بجدارة. يمضي إلى الموت بكل نصوصه، لأنه خُلِق وهو يعرف بأنه سيموت مبكراً بسبب مرضه. يشبه شعره فهو العارف بأنه سيمضي إلى الموت مبكراً، لذلك، لم يتسن له أن يعيش الحياة بشكلها الطبيعي، فكانت قصائده محض احتضار”.

 صادف قبل أيام، مرور سبع سنوات على رحيل الشاعر الرقاوي (21/10/2006)، ومازالت قصائده تحيا معنا اليوم، تخلد بطولة السوريين في واقع دامٍ قل نظيره في العالم الحديث. كأن أعمال خطاب كانت تستشرف القادم، تحكي عن موت السوريين وعن أفول نجم الدكتاتور، كما في قصيدته “تاريخ الجمجمة”:

 الذي قال لي

 كيفَ

 هي الدولة المقبلة؟ كيف حال الضحايا الأنيقين مثل الجلالةِ؟ أما زالوا

 حزانى علينا كالميتين القدامى؟ أفي الوجوهِ الحديثةِ آثارنا؟ والرمالُ

 الأنيقة تسفونا كالرياحِ الخفيفةِ، وَقْعُ أيدينا عليها؟ وَقْعُ أسماعنا

المذأبَهْ،

 بغتةً:

استقبلتنا الجماجمُ، احتفتنا الجحافل مثل السيول التي تذبح الأرض، وأنا الذي

 رافقتني الأميراتُ المسناتُ، وأنا الذي رافقتني أميراتُ الجماجمِ.

ينهي  صاحب “مديح الكراهية” حديثه لـ”المدن” بالقول: “كانت قصائد عبد اللطيف خطاب مدهشة، فريدة، لاتستعير من أحد أي شيء، وهي صورة حقيقية عن صاحبها الذي كان منذ أيام صداقتنا الأولى ينتظر الموت بفرح طفل ويسخر منه كما لم يفعل أحد من جيلنا. رحل عبد اللطيف ولكن قصائده وفرادته ستبقى رغم كل شيء ككل أدب وكتابة أصيلة لايمكن لها أن تموت ببساطة”.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى