صفحات الثقافة

عذراً أمي إن لم أتذكرك في عيدك!

كان الأربعاء الماضي “عيد الأم” اعتدت ان أتذكر أمي التي توفت قبل 42 عاماً. أتذكر طفولتي. أتذكر صلواتها، وجهها، كرمها، صبرها، معاناتها، اعتدتُ ان أتذكر أمي في عيد الأمهات. لكن…
لكن هذا العام، كأنني خرجت على عادتي. كأني نسيت أمي (وأنا لا انساها) نسيت أنها رحلت. لم اتذكر أمي في اربعاء عيد الأم. تذكرت أمهات الشهداء في الربيع العربي، الشجاعات. الشفافات. المقاومات. الصبورات. ومن الربيع العربي، تعلق قلبي بامهات شهداء الثورة السورية: فما تعرض له فلذات أكبادهن أفظع مما تعرض له أي طفل في أي حرب. وأي ابن أو ابنة في أي معركة: الأمهات حملن يافطات خاطب بعضها والدة الرئيس بشار الأسد “لن يموت ابناؤنا ليحيا ابنك”. كلمات من أمهات فُجعن بألوف الشهداء من ابنائهن وأزواجهن إلى أم الرئيس: فما ابلغ هذه الرسالة، وما انفذها، وما أقواها من نساء إلى امرأة كأنما تقول “ثكالى شهداء الثورة السورية ان ما ارتكبه هذا النظام الهمجي، فاق كل تصور. وكأنه “جاهز” لقتل كل أطفال سوريا ورجالها ونسائها لكي يطفو على بحر من الموتى والدم. تقول عيون أمهات الشهداء. ان ما رأته من آثار تعذيب على أجسام أطفالهن وابنائهن قبل تصفيتهم، يترك في ذاكرتهن ما لا ينسى، وما لا يندمل: تلك الفكرة التي تقول إلى أي مدى وصل انهيار هذا النظام. الى أي مدى وصلت بربريته. إلى أي أدراك منحطة وصل جبنه. إنهن يصرخن نعم! ابناؤنا استشهدوا شجعاناً، كما يليق بالشهداء كما لاقى محمد الدرة… وبعده حمزة الخطيب ومئات مثلهما. لكن هؤلاء القتلة ليسوا أكثر من جبناء. الجبن في عيونهم. وفي قلوبهم. هؤلاء الجبناء لم يقتلوا اسرائيلياً واحداً منذ 1973.. وقتلوا مئات الألوف من السورين والعرب. هؤلاء الجبناء عادت لا يتساوى همجيتهم سوى ما يسقطهم في الهاوية وفي الفشل. امهات الشهداء كأنهن قلن لن يقوم نظام جبان من رأسه الى آخر مخبر أو مرتزق في سوريا أو في لبنان، على القتل. ففكرة الموت آلفتنا. وأولادنا الذين يرحلون مرفوعي النفوس، اشماء القلوب، انقياء الايمان، ما عادوا يرحلون. صاروا اقوى من دموعنا. صاروا اوسع من أحلامنا. صاروا في حجم ان يفتتحوا كل يوم سبيلاً للثورة، وطريقاً لوطن لطالما ارادوا ان يكون وطنهم، وليس وطن العملاء والقتلة والحراميية. صاروا في حجم ان اظهروا ان هؤلاء المستبدين ليسوا اكثر من محتلين لأرضهم واكثر من مفروضين عليهم من قوى استعمارية خارجية كإيران وروسيا والصين. هذه الفكرة، هي التي تؤصل ذكرى الشهداء في قلوب امهاتهم. وفي ذاكرتهن. فقلوب امهات الشهداء باتت ارحب من كل سماء. وذاكرتهن اخصب من كل ربيع أتِ. فابناؤهن الذين عمد همج النظام وبرابرته، وإلى تصفيتهم ومثَّلَ بجثثهم ورماهم في الأودية، أو على الأرصفة، أو في النفايات وامام عتبات بيوتهم باتوا أكبر من اعمارهم، أكبر من كل ربيع لا يُخلص لهم،أكبر من كل وردة لا يفوحون منها، أكبر من كل شمس لا تردد مناراتهم، أكبر من ريح لا تحمل تواريخ الحاضر والمستقبل.
أمهات شهداء الثورة السورية والمنتفضين يرسمن حدوداً جديدة، بما يختزّن من حيوات فيهن. يرسمن خطوطاً جديدة للأحلام التي خبأها ابناؤهن الشهداء وليس في قلوبهن. يوزعن كالبركات حكايات ابنائهن وصمودهم وعشقهم للوطن وشغفهم بالحرية وكأنما يصرخن: ما نفع أمومة بلا حرية. ما نفع أبوة بلا حرية. ما نفع ان ننجب أولاداً يستعبدهم النظام. ما نفع ان نربي اولاداً نهب السجون؟ ما نفع ان نرضع أطفالاً للذل والمهانة. ما نفع أن نرى اولادنا يكبرون تحت سقوف السجن الكبير وتحت مقصلة الجلاد الأكبر! بل ما نفع ان نحيا كلنا عندما يصبح الوطن مقبرة جماعية او معتقلات، أو ساحات للموتى!
لم أتذكر امي في عيد الأمهات. لم أتذكر تلك التي رحلت باكراً وتركتني. لم أتذكر يديها الكريمتين، وعينيها العسليتين الحزينتين، لم أتذكر صوتها الذي كان يسيل على وجهي كهواء طويل، لم أتذكر السيجارة التي لم تفارق شفتيها حتى لحظتها الأخيرة!
لم أتذكرك يا أمي! فلا تعتبي. لأني، اليوم لم تعد لي أم واحدة، ولا امرأة واحدة انجبتني، بل صارت “أمهات الشهداء” والثوار في الربيع العربي، امهاتي. فأي نعمة ان يصير للواحد منا ألوف الأمهات. وان تعيدهن كلهن وكأنهن واحدة، بل كأنهن كلهن أم واحدة لك! ولن تكتفي عندها بدمعة واحدة… بل تصبح كل دمعة ملايين الدموع. وكل شهقة ملايين الشهقات وكل صرخة ملايين الصرخات!
لا تزعلي يا أمي! لأني تذكرتك في كل يدٍ تحضن وليدها، وشهيدها وزوجها في سوريا… تذكرتك لكي أنعم ببركة أمهات الشهداء في سوريا!
ب.ش.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى