صفحات العالم

عــن عــزمي بشــارة

 


ابراهيم الأمين

لكي يكون النقاش واضحاً منذ البداية، أستعير مجدّداً عبارة كتبها الراحل جوزف سماحة عن سياسي لبناني بارز قائلاً: ليس هكذا يعامل …؟

هذه الاستعارة ضرورية كمدخل للحديث عن عزمي بشارة، المناضل الفلسطيني الذي قاوم الاحتلال بأوجه مختلفة، ودفع غالياً – ولا يزال – ثمن موقفه وموقعه هذا. وعن العروبي الذي عرف جيداً أين تكمن المشكلة العملانيّة في الفكر القومي العربي، وبحث – ولا يزال – في طريقة لإعادة الاعتبار إليه كفكر وحدوي، ولو عبر آليات مختلفة جذرياً وإعادة الاعتبار إليه أيضاً كتيار حقيقي. وعن عزمي بشارة، ابن الحضارة العربيّة والإسلاميّة، الشخص الذي عرفت أنه من عائلة مسيحية قبل سنوات قليلة فقط، فليس في كل صورته ما يلزمك السؤال عن بيئته الدينية الضيقة، ولا سيما أنه ابن طبيعي للثقافة الإسلامية بمعناها الرحب، والآخذ نحو التطور. وهو واحدٌ من مقتفي أثر ابن رشد بين أبناء جيله من المفكرين العرب الذين خسروا كبيرين العام الماضي: محمد أركون ومحمد عابد الجابري.

الاستعارة أيضاً للحديث عن الرجل الذكي، الذي يصعب توافر مجموعة من المميّزات في شخص واحد: مثقّف من الطراز الرفيع، له أفكار متقدّمة في موضوعة الهويّة الوطنية العربية، صاحب تجربة ميدانية في معركة المواطَنة وحقوق الفرد، مناضل بالمعنى الميداني في وجه احتلال واستعمار عسكري وثقافي واجتماعي ومدني، قيادي حزبي وصاحب كاريزما. خطابي من الدرجة الأولى. محاضرٌ في العلوم السياسية وتحليل المشهد بطريقة فريدة. مضيف في كل ما يدلي به، في أيّ شأن يخصّ حياتنا المدنية، مبدئي في قضية فلسطين والمقاومة.

ومناسبة الحديث عن عزمي بشارة هي السجال الذي أثاره موقفه من الاحتجاجات في سوريا، وأنه مضى بعيداً، دون نقاش مع الآخرين، وخصوصاً الحلفاء المفترضين. كذلك، لأجل رفض ما يمارس بحقه من أبشع أنواع المحاكمات الشعبوية التي تسعى الى جعل الأبيض أسود في عزّ النهار.

تدرّج عزمي بشارة في مقاربته لملف الثورات العربية منذ انطلاقتها في تونس. وإذا كانت «إطلالته التونسية» محصورة، فإن ما عالجه كتابةً عن الثورة التونسية دلّ على المعرفة العميقة بأزمة النظام الرسمي العربي، ودلّ على نجاح رهانه على الوحدة الفعلية القائمة لدى الجمهور العربي، الذي تحوّل في لحظة واحدة إلى كتلة واحدة في مواجهة الديكتاتور.

في ملف مصر، انتقل عزمي إلى قلب المعركة. كان حضوره عبر قناة «الجزيرة» إضافةً فعليّة ومشوّقة للمتابعة من الموقع الفعّال والمؤثر، وإلى حدود ما، كان يؤدي دوراً مفقوداً بسبب الهلامية التي طبعت صورة الثوار في مصر. ونجح خلال وقت قصير في احتلال موقع متقدّم، حتى صار يُعرف بـ«مفكّر الثورات». كانت قراءته حاسمة لجهة الربط بين التطلّعات الوطنية للشعوب الثائرة واستعادة موقعها الطبيعي من الصراع مع إسرائيل، والموقف من استعمار الغرب، وبين حاجتها الملحّة، التي لا تحتمل الانتظار، الى تحرّر داخلي على صعيد الفرد كما الجماعة كما المجتمع، وإن السعي إلى قلب أنظمة الحكم، أو فرض إصلاحات عميقة، صار شرطاً لازماً للنهوض الوطني، أو إعادة فتح الأبواب واسعة أمام مشروع متجدّد للحركة القومية العربية.

لكن الارتباك بدأ يظهر في وسط أحداث ليبيا، ثم في ملف البحرين، وظل واضحاً وحاسماً في ملف اليمن، لكنه اختلّ كثيراً عندما أتت مقاربة الملف السوري. وهنا يكمن النقاش الجدي.

حسم عزمي بشارة أنّ خيطاً قويّاً يربط مسلسل الثورات العربية. وهو تشخيص صحيح من زوايا عدة، لكنه يحتاج إلى نقاش مع مسارعة الغرب والأنظمة المتضررة من التغيير الى المبادرة. وهو تجاهل، أو تصرّف بقلّة اهتمام، مع الاستنفار الغربي بعد نجاح ثورة مصر. صحيح أنه دعا العرب لكي يقوموا بمهمة دعم الثوار في ليبيا دون اللجوء الى الغرب، لكنه لم يُعِد صياغة الموقف عندما تولّى الحلف الأطلسي، بتغطية من «عرب الاعتدال» الذين خسروا موقعي تونس ومصر، إدارة الثورة في ليبيا. لم يتدخّل في نقاش نقدي بشأن سلوك المجلس الانتقالي الليبي، الذي يصعب وصفه بالقوة التحرّرية، وخصوصاً أنه عاد بنا عقداً من الزمن الى الوراء، يوم وافق العرب، ومعهم غالبية عراقية، على منح الولايات المتحدة والغرب حق غزو العراق لإطاحة صدام حسين، ثم دخلنا في نكبة ربما كانت أقسى من نكبة فلسطين.

ابتعاد عزمي بشارة عن المقاربة النقدية لآلية إدارة المعركة في ليبيا تحوّل مع الوقت إلى ثغرة في موقفه. ذلك أن فكرة المرتزقة، التي روّجت لها «الجزيرة»، أغفلت جانباً من المشهد الليبي، وهو أن الحاكم المجرم هناك يملك نفوذاً حقيقياً، وبعد أربعين سنة من الحكم، ظلّ للرجل نفوذه وظلّت له جماعته الموالية له والصامدة معه. وهذا كان جرس الإنذار الأول باتجاه أخذ ليبيا نحو حرب أهلية دامية، فكيف تكون الصورة عندما تتولّى أميركا إدارة المشهد؟

في هذه اللحظة، صار قسم كبير من الجمهور ينظر إلى «الجزيرة» على أنها «انحرفت» عن خطها المهني وتالياً السياسي. لكن المشكلة هي أن غالبية هذا الجمهور تعامل مع عزمي بشارة وكأنه جزء من «الجزيرة»، ولا سيما أنه لم يطل على الجمهور من خلال قنوات أخرى. وهو لم يطلق صرخته المعهودة، برفض أي محاولة لتبرير تدخل الغرب أو تبرير استدعاء بعض العرب لهذا الغرب، لأجل ارتكاب مجازر في حق شعب عربي مقهور.

في مسألة ليبيا، تراجع الى موقع خلفي. هو لم يوافق على الإدارة القائمة. لم يبرّرها، ولم يؤيّد التدخل الأجنبي، لكنه لجأ الى قلة الكلام في الموضوع، كما في صمت إزاء الأردن، ولو أن هذا البلد لم يشهد أحداثاً كبيرة. وترافق ذلك مع قراءة غير مفهومة على الإطلاق لمشهد البحرين. وبين ما صدر عن مركز الدراسات الذي يديره وطريقة حديثه عن البحرين في قناة «الجزيرة»، ظهر الفارق، الذي يمكن أيّ مدقق أن يفهم أسبابه، لكن الحال عند الجمهور هي غير ذلك، لأن الجمهور العربي عموماً لا يقبل الاجتزاء أو الاستنساب في مقاربة الثورات العربية، وخصوصاً أن الرجل تحدث بصوت خافت، ولماماً عن موقف دول الخليج العربي من مسألة البحرين. وترافق ذلك مع قرار قناة «الجزيرة» عكس هذا الموقف في تغطيتها لما يجري في تلك الجزيرة الصغيرة. وحصل خطأ كبير جداً، عندما جرى تعميم منطق أعوج لا أساس علمياً له ولا أساس أخلاقياً له، ولا أساس سياسياً له، يفترض أن كون غالبية المنتفضين في البحرين هم من الشيعة، يسمح باتهام انتفاضة الشعب هناك بأنها تنطلق من اعتبارات طائفية أو فئوية، وأن جهات خارجية تقف خلفها مثل إيران أو «حزب الله» أو آخرين، وقد أدّت «الجزيرة» دوراً في تغطية الجريمة بحق الشعب البحريني، لجهة نفي حقه في الحياة الكريمة وفي التخلّص من حكم فئوي، أقلّوي استبدادي، بل يجلب أغراباً من شعوب ليست عربية لقتل مواطنيه، ويتعامل معهم مثل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ويدفع بهم نحو الزاوية الأضيق في الحياة… ثم يمنع عليهم حتى الصراخ.

في هذه الزاوية، بدا عزمي بشارة غير عزمي بشارة الثائر في تونس ومصر وليبيا واليمن وحتى سوريا. صحيح أن الرجل دعا إلى منح الشعب في البحرين الحقوق التي يستحقها، لكن أيّ مراقب، محايد أو منحاز، موالٍ أو معارض، يعرف أن خطاب بشارة في هذه الحالة كان مستقطعاً. لم تلامسه الحرارة ولا التوقّد الذهني الذي يتّسم به الرجل، حتى إنه لم يقارب فكرة المصالحة بغية الحؤول دون المزيد من القهر… وفي هذه اللحظة بالذات، اقتحم عزمي بشارة، ومن على شاشة «الجزيرة» نفسها، المشهد السوري، وهو الأكثر تعقيداً. وفي هذه النقطة لا يمكن عزمي بشارة أن يأخذ على منتقديه أنهم انتقدوا غياب الحرارة في موقفه، وأنه لم يكن متوقّداً، ناشطاً كما هي الحال في مقاربة الملف السوري، وهو لم يكن بهذه الصورة في ليبيا التي تتطلّب موقفاً جذرياً من تغطية جرائم الغرب هناك.

عند هذه النقطة يبدأ السجال الفعلي مع عزمي بشارة كمفكّر، وكمناضل ضد الاحتلال والقهر والتمييز العنصري، ومعه كأحد روّاد المعركة الفكرية والسياسية والنضالية لأجل إحقاق دولة المواطَنة في كل العالم العربي، وكأحد أبرز الذين يجيدون فرز المشهد وملاحظة الواقعي من المفتعل فيه، والطبيعي المشروع من التآمر. وفي هذه النقطة بالتحديد، يكون النقاش الأكثر دقة: مَن اعتبر وجود جماعات مسلحة أمراً هامشياً في المشهد الإجمالي، عليه أن يعود إلى الخلف قليلاً حتى يتبيّن له أنه في حالة سوريا تحديداً يتحوّل هذا المشهد إلى هامش في الصورة الكبيرة التي تحاول أميركا إدارتها ورسمها.

في موضوع سوريا، ثمة قضية الإصلاح التي يجب أن تكون أولوية، لكن هناك قضية أخرى تتصل بموقع سوريا في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. ومن يثق بأهمية موقع سوريا هذا، يأخذ جانب من «يعين النظام فيها على نفسه» لا من خلال الوقوف عند نقطة واحدة فقط. لم يتراجع عزمي بشارة عن موقفه الداعم لقضية المقاومة. وهو قال صراحة إنه في حالة الصراع مع الغرب وإسرائيل فهو مع النظام في سوريا، لكنه في حالة الصدام بين النظام والشعب سيكون له موقف آخر. وهو محق بذلك. لكن المفارقة أن عزمي بشارة ربما يكون من القلائل الذين أتيح لهم الاطلاع، ومن المصدر الأول في سوريا، على محاولات تخريب عنفية تعرّضت لها سوريا خلال السنوات الخمس الماضية، وكان على اطلاع أكبر على واقع المجموعات المتطرفة المسلحة. وبالتالي فإن عدم أخذه هذه المسألة بالاعتبار يتحول الى نقطة ضده. فكيف إذا كان هناك بعد آخر، يتصل بصورة المنطقة إذا سارت الأمور نحو انسحاب أميركي من العراق. هل يعتقد هو أن أميركا وأعوانها في المنطقة سيتركون للمحور السوري ـــــ الإيراني حرية الحركة والاستقرار؟ وبهذا المعنى، فإن بمقدور عزمي بشارة مناقشة أهمية الإصلاحات، وانتقاد القمع الدموي، ولكن من زاوية من يريد تحقيق الإصلاحات بغية حماية الموقع الإجمالي لسوريا وليس أي شيء آخر.

عند هذا الحد كان، ولا يزال، على عزمي بشارة، باعتباره رمزاً وطنياً ومَعْلَماً أخلاقياً، أن يعود إلى الخلف قليلاً، لا أن يتراجع، وأن يأخذ مسافة من الحدث الحار، لا أن يغمض عينيه عن التفاصيل، وأن يرفع شأن حالة الأمّة ومصيرها دون إهمال تفاصيلها الضرورية، وأن يضع أساساً نظرياً ـــــ وهو قادر على ذلك ـــــ لما سوف تكون عليه أي مقاربة لاحقة، لا للمشهد السوري فقط، بل لكل مشهد الثورات العربية أيضاً…

لكن هذا السجال النقدي مع عزمي بشارة لا يعطي شرعية سياسية، ولا أخلاقية، ولا إنسانية، لحشد الموتورين الذين يحاولون كسر صورته الأصلية، والذين يديرون النقاش معه على طريقة الألاعيب التافهة، وحتى في سوريا التي يشعر كثيرون فيها، وخصوصاً من أهل الحكم والمريدين بمرارة، نعم مرارة، إزاء مواقف عزمي بشارة، لا يحق لهم الذهاب في مجادلته إلى حدود محاولة تجريده من عناصر وطنية وأخلاقية لم يكن قد استعارها من أحد، ولم يحصل عليها منحة من أحد، وهو ليس في الموقع الذي يحق فيه لملوّثين بأشياء قذرة أن يرشقوه بحجر.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى