صفحات العالم

علويون حاكمون، علويون ضحايا


أمجد ناصر

طرحت انتفاضة الحرية في سورية مسألة الطوائف في هذا البلد العربي المركزي. وتلك مسألة مسكوت عنها في سورية بالقوة أو بالتعالي. وعندما نقول بالقوة نقصد المظهر العلماني للنظام الذي يصهر مكونات الشعب السوري (أو يحاول ذلك) في بوتقة حزب البعث العربي الاشتراكي ذي المرجعية الفكرية القومية فلا مجال، والحال، لما هو أدنى من تلك الرابطة الفوقية، أما التعالي فنقصد به صرف النظر، بحسن نية وطنية، عن وجود هذه ‘المسألة’ في الحياة السورية باعتبارها تكريساً لفرقة وانقسام لا يخدمان المشروع الوطني السوري في هذه اللحظة بالذات. الشق الأول للمسكوت عنه حرصت عليه السلطة الحاكمة المتهمة، من قبل كثيرين، بتحدّر نواتها الصلبة من الطائفة العلوية، أما الشق الثاني فنقع عليه في خطاب المعارضة السورية بمختلف أطيافها تقريباً. هناك حذر من الحديث عن الطوائف والمذاهب في الواقع السوري لتفادي نقطة حرجة ينزلق حولها النقاش السياسي: هل الحكم في سورية طائفي أم لا؟ وبوضوح أكثر: هل نظام الحكم في سورية علوي؟

هذا السؤال ليس جديداً في أدبيات المعارضة السورية سواء ذات المرجعيات الماركسية أم تلك التي تدور في فلك مرجعيات قومية ودينية.

مضى وقت طويل لم أتابع فيه ‘أدبيات’ المعارضة الماركسية السورية، ولكني أتذكر نقاشات جرت في منتصف السبعينات حتى أواخرها، انخرطت فيها شخصياً، حاولت أن تشخص ‘التركيب الطبقي’ للنظام السوري من منظور ماركسي جديد. ما أتذكره أن تلك النقاشات لم تر في التركيبة الطبقية للنظام السوري بعداً طائفياً، أو لم تر في الطائفية أحد مكوّناته البنيوية، بقدر ما رأت أن النظام في سورية يقوم على تحالف طبقي بين العسكر والبيروقراطية الحكومية من جهة والبرجوازية السورية من جهة أخرى. قد تظهر بين فئة عسكر السلطة وأمنها وجوه من الطائفة العلوية ولكن البرجوازية السورية بدت ذات طابع سني. أي باختصار معظم وجوه العسكر والأمن من الطائفة العلوية بينما تكاد تنحصر الطبقة البرجوازية في تجار دمشق وحلب. هذا هو حلف النظام. أما حلف معارضيه، أو بتعبير ‘ماركسي’ أدق، أصحاب المصلحة الحقيقية في الثورة، فهم العمال والفلاحون الذين يتوزعون على سائر الطيف الطائفي ويشكلون الكتلة البشرية التي ستقوم على أكتافها الثورة الشعبية ضد النظام الذي يتلطى وراء شعارات الحرية والاشتراكية غير الجذرية.

هذا استدعاء من الذاكرة. وقد لا يكون تلخيصي لتلك النقاشات دقيقاً. والدقة هنا ليست مهمة، لأنني لست بصدد استعراض مفاهيم القوى الماركسية السورية للتركيب الطبقي للنظام بقدر ما أنا بصدد التوقف أمام مسألة الطائفية في سورية التي أعادت الانتفاضة الشعبية السورية طرحها من غير زاوية.

الغريب أن أول من طرح هذه النقطة هو النظام نفسه بل الرئيس بشار الأسد شخصياً. لنتذكر خطابه في ‘مجلس الشعب’. فقد وردت مفردة ‘الفتنة’، حسب من أحصوها، سبع عشرة مرة! بدا الأمر كأن من يتحدث الى شعبه ليس رئيس الجمهورية العربية السورية التي يعلو مؤسساتها شعار حزب البعث الشهير: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، بل رئيس الجمهورية اللبنانية الذي تتكون بلاده، رسمياً، من ثماني عشرة طائفة. أن تتردد مفردة ‘الفتنة’ سبع عشرة مرة في خطاب قصير (قياسا بخطابات بشار الأسد الماراثونية) فهذا يعني شيئا. كانت كلمة ‘فتنة’ التي نطقها الرئيس السوري في مجلس ‘شعبه’ ايذانا بانطلاق حملة تحذير شاملة واصلها بعده ‘المحللون’ السياسيون السوريون الذين استضافتهم الفضائيات العربية للتعليق على ما يجري في البلاد ولا تزال.

فجأة تتكشف هشاشة النظام السوري.

فجأة يفقد مناعته الوطنية والقومية ولا يجد سوى ‘الفتنة’ للتلويح بها. ولكن ما هي هذه الفتنة التي يجري الحديث عنها كأنها شأن ميتافيزيقي غامض؟

إنها الطائفية. وتحديداً التخوف من صراع سني علوي.

‘ ‘ ‘

سأترك أمر ‘الفتنة’ التي لا تدرج الاّ على ألسن المتكلمين باسم النظام، مؤقتاً، وأذهب الى الفن والأدب. كان موضوع الطائفية من التابوهات في سورية. تابو في الحياة السياسية كما هو تابو في الكتابة والفنون. الذين كسروا هذا التابو، من زاوية وطنية نقدية، هم فنانون وكتاب سوريون يتحدَرون من عائلات علوية. قد يكون فيلم ‘نجوم النهار’ لأسامة محمد أول عمل سينمائي، بل فني، سوري يجرؤ على الدخول في تلك المنطقة المحاطة بالظلال السميكة. واسامة محمد، لمن لا يعرفه، هو واحد من السينمائيين السوريين الطليعيين (رغم ضآلة انتاجه)، كما انه يحسب على صفوف المنتقدين للوضع السياسي السائد في بلاده. انه، بحسب التعريفات الدارجة، وطني تقدمي ذو نزعة نقدية جذرية. في فيلمه ‘نجوم النهار’ قدم لنا اسامة محمد مصائر عائلة علوية. ليست هناك تسمية لطائفة تلك العائلة. غير ان لهجتها والمنطقة التي تنتمي اليها تؤكدان هذا الانتماء.

كنت شاهدت فيلم أسامة محمد على شريط فيديو في لندن عام 1989 وكتبت عنه في الأعداد الاولى لصحيفة ‘القدس العربي’. جمعتني باسامة محمد اكثر من مناسبة بعد ذلك، منها زيارة قام بها الى مقر الصحيفة في لندن بعد مقالي بفترة قصيرة. أعود الى ذاكرتي مرة أخرى لأقول إنني رأيت في فيلمه تعرية للنظام وتسمية لما لم يستطع غيره، حتى ذلك الوقت، تسميته.

فاذا اعتبرنا ان اسامة محمد لم يكن يتحدث فعلاً عن تلك العائلة العلوية التي غادر بعض افرادها الى العاصمة وانخرطوا في مؤسساتها العسكرية والامنية وشبكات فسادها الاقتصادية، فإننا أمام صورة رمزية للنظام نفسه وليس لتلك العائلة المحددة. من الصعب ان نتصور ان اسامة محمد قدم لنا صورة عائلة عادية. انها في كل حال، لا تبدو كذلك. الأرجح أنه قدَّم صورة للنظام من خلال الأخ الأكبر ‘خليل’ وسائر أفراد العائلة. وفي فيلمه هذا الذي لم يعرض حسب علمي، في سورية منذ ذلك الوقت، نحن امام رموز للنظام الحاكم: الأخ الكبير المسيطر على العائلة، التنصت على مكالمات الناس، دولاب التعذيب المعلق امام البيت، النظارات الشمسية التي يرتديها أفراد العائلة (كناية عن رجال الأمن).

ماذا أراد أسامة محمد ان يقول لنا في هذا الفيلم الذي لا يخلو عنوانه ‘نجوم النهار’ من دلالة خاصة (لعب على مقولة ‘نجوم الظهر’)؟

أظن أنه أراد أن يتحدث عن القاعدة الاجتماعية للنظام الحاكم في سورية بعيداً عن كليشيهات الوحدة والحرية والاشتراكية والقومية العربية التي يتستر خلفها نظام الأسد، كما تستر خلفها نظام صدام حسين. ولكنها قاعدة اجتماعية مغلوب على أمرها. فالشخصيات الايجابية في الفيلم هي النساء (الأخت)، الجد الطيب ولكن طريح الفراش، الأخ الأطرش الذي كان يتعرض للضرب من قبل الأب. واضح لنا ان أسامة محمد أراد منذ عام 1988، أن يقول إن تلك العائلة ليست منخرطة، كلها، في مفاسد الأخ الأكبر بل إن هناك ضحايا له بين صفوف العائلة (الأخت، مثلاً).

ومن فيلم أسامة محمد سأنتقل الى رواية سمر يزبك ‘لها مرايا’ الصادرة العام الماضي عن دار الآداب في بيروت. هنا تدخل الكاتبة السورية الجريئة في الظلال السميكة لنظام الحكم من خلال قصة فتاة تدعى ‘ليلى’ تخرج من السجن في اللحظة التي تشيع فيها سورية جثمان الرئيس السابق حافظ الأسد. هناك مشهدان افتتاحيان للرواية. الاول لرجل الأمن سعيد ناصر الذي يشاهد جنازة رئيسه ورمزه الأكبر تتهادى بين جموع المشيعين وهو ليس بينهم. الثاني لليلى وهي تخرج من السجن أشبه بحطام انسان. من هذين المشهدين تتداعى سائر أحداث الرواية. رجل الأمن هو عشيق ليلى. وليلى الخارجة من السجن هي ضحية عشيقها الذي قدمها على مذبح السلطة بعد أن يئس من ترويضها. في الرواية شخصيات أخرى: شقيق ليلى المعارض بقوة للنظام والذي يتعرض للتعذيب على يد عشيق أخته، الجد وهو رمز النقاء والحكمة الذي يعتزل الناس ليخلو الى كتبه ونفسه وتأملاته.

أختزل شخصيات واحداث رواية سمر يزبك وأنا مدرك لما يلحق بها من إخلال أدبي. ولتعذرني الكاتبة لأن الرواية، بحد ذاتها، ليست، هنا، سوى ‘شاهد’ مماثل لفيلم أسامة محمد ‘نجوم النهار’. نفهم من الرواية، التي تغوص طويلا في تاريخ العلويين والمذابح التي تعرضوا لها على يد السلطنة العثمانية، على نحو أوضح مما لدى أسامة محمد، أننا حيال سلطة لا تأبه للأصل والمنبت حتى لو كان المنبت نفسه الذي تتحدر منه نواتها الصلبة. بل يبدو لنا أن معارضة العلوي للسلطة تلقى عقابا أشد من غيرها وتعامل على أنها خيانة. لذلك نرى أن عشيق ليلى، رجل الأمن المهم، يضحي بها عندما تهدد موقعه كما نقف على التعذيب الذي يطال شقيق ليلى لمعارضته الشرسة لنظام الحكم.

يتضح من رواية سمر يزبك هذه أن الولاء ليس عائليا أو طائفيا عند نظام حافظ الأسد. لا يكفي ان تكون من العائلة او من الطائفة كي يتأكد ولاؤك بل عليك أن تبدي ولاء شخصيا للرئيس. أي ولاء آخر، بل أي تشكك في هذا الولاء يعرض صاحبه الى النفي والاقصاء كما كاد يحصل مع رجل الأمن سعيد ناصر (عشيق ليلى) عندما تردد في حسم ولائه للرئيس حافظ الأسد بعد انقلاب السبعين.

ماذا تريد ان تقول سمر يزبك في هذه الرواية؟

أظن أنها تريد أن تقول، بوضوح، إنه إذا كانت النواة الصلبة للسلطة الحاكمة ذات منبت علوي فإن بعض معارضيها هم أيضا علويون. كما لا يكفي أن يكون المرء علويا كي يجد موطىء قدم تلقائيا له في ركاب السلطة.

‘ ‘ ‘

ليس هذا جديدا بالنسبة لي. أنا شخصيا أعرف عددا كبيرا من المعارضين السوريين المنحدرين من جذور علوية زجوا سنين طويلة في السجون وتعرضوا لتعذيب وحشي على أيدي سجانيهم. أعرف هذا مثلما يعرفه كثير من السوريين. الجديد في الأمر هو تلويح السلطة بورقة ‘الفتنة’ (أي الطائفية) وتخويف السوريين من بعضهم بعضا.

لكن السوريين الذين يخرجون في تظاهرات الاحتجاج ضد نظام الحكم أبدوا وعيا وحرصا على مكونات مجتمعهم اكثر مما ابداه النظام، وما الشعارات التي تنص، بل تشدد، على الوحدة الوطنية إلا الدليل القاطع على ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى