صفحات الثقافة

على باب دمشق

    سمر دياب

أبصرتُ النور في دمشق، وقلت للعالم: مرحباً أيها العالم. في ما بعد سنتحدث طويلاً أنا وأنت في شأن هذا القدر المربك.

في بيت صغير يعجّ بالقلق وأحلام الشعر والهرب في وسط المدينة، اكتشفتُ قدرة الطفولة على احتلال الشخص الذي رسمت مصيره المدن الأخرى، لاحقاً. بدأت الحكاية من الشام، المدينة التي تجرح المرءَ روحانيّةُ اليقظة فيها، فيما كان الحلم أكثر تعقيداً وقسوة.

من دمشق إلى جنوب لبنان إلى اسبانيا، ثم، إلى عمّان فبيروت، مشت روائح الأسواق والمارّة والباعة، يدها بيد وحدتي، في ذاكرتي. تلك الذاكرة التي لا تزال مثقوبةً بفجوة صغيرة في جدار مسجد صغير لدراويش الصوفيين، حيث كانت إحدى عيني الطفلة التي كنتُها، تتلصص على ما ستبصره كثيراً في مناماتها. العين الأخرى مسمّرة على الشبّاك الحديد الأخضر في غرفة، كي لا تفتحها الحسرة عنوةً بعد زمن لترى مسقط بصيرتها ركاماً.

لا تنفع الكتابة عن دمشق من دون الجلوس على رصيفٍ مواجه للعابرين في أزقتها، والابتسام من دون سبب، على الأقل لمرّةٍ في الحياة. لا شيء موحشاً في دمشق. حتى المقابر كانت تضجّ حياة، كأن أمواتها شعب من الحنين إليها، يعيشون تحت التراب بشغف لحظتهم توقاً إلى قيامتهم فيها. إنها مدينة التفاصيل الخالدة، حيث لا وصفات جاهزة للحياة والضحك والألم. على كلّ عاشقٍ نبيل، أن يستحق ما أصبح اليوم جرحاً مفتوحاً.

***

في ثمانينات القرن الفائت، كانت دمشق مدينة غامضة وعصيّة على الفهم لطفلةٍ مثلي. كنت أشبه ببوهيميّة معتزلة، فلا يمر شيء من دون طقس سحريّ تنتمي إليه المدينة وسكانها بالفطرة. للذهاب إلى السوق طقسٌ، للأكل طقسٌ، للسهر عند الجيران، ولاستدعاء كل تلك المشاهد العالقة في الرأس طقسٌ يبدأ بالشرود، وبه وينتهي. ثمّة شيء آخر يحفر في ضباب الذاكرة. ليست ولادتي. ليست متاجر الفضة في النوفرة، ولا مدرستي القديمة، ولا الماء الذي كان يهبط إلى جوفي مباشرةً من الجنة. بل قدرة هذه المدينة على أن تكون نفسها من دون ادّعاءات النجومية القسرية، أو السعي إليها على حساب عزلة فتنتها الكثيفة.

لا تحتاج ذكريات مدينة تحت النار والموت إلى الشعر كي أصمت وأنا أُنصت إليها وهي تجول في ذهني وقلبي، كامرأةٍ تئنّ وحدها شريدةً في شارع مهجور. تصير الذكريات هي الشعر. الوجوه القديمة التي لم يبق من ملامحها الكثير في ذاكرتي، تصير جمهوري الذي يأتيني في كل مرّة معزياً بما لم تستطع أن تكونه في المدينة التي أحببتُها بحذر النشوة الأولى وشبقها. لم يكن في إمكان دمشق أن تكون شيئاً آخر سوى كرة من نبيذ معتّق، تتدحرج وحدها في قبو معتم.

بهذه البهجة المنقوصة المضطربة، أحاول أن أقبض عليَّ هناك. بالمصادفة، أقع على صورةٍ قديمة لي: جدّي الدمشقي العريق يحتضن جدّتي الفلسطينية الساحرة، وأنا بينهما أحدّق في قلبي كأنه صرخة مكتومة. هل كنت أحاول أن أقول شيئاً لصديق طفولتي النحيل كياسمينةٍ آنذاك؟: انتبه، ستصبح قنّاصاً على سطح بيتنا!

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى