صفحات سوريةمالك داغستاني

على مقام الأسد؛ تنويعات عن الوطنية السورية/ مالك داغستاني

 

 

 

“لا تخدشوا روايتنا السورية عن الوطنية أيها العملاء” هكذا يصرخ المقاومون والممانعون اليساريون، مثقفون وفنانون وشعراء، وحتى الكثيرين من القوميين العرب ورجال الدين، الذين لا يعترفون أساساً بالحدود الوطنية. يجأرون صباح مساء مطنبين بوطنية النظام السوري التي يحاول الخونة (غالبية السوريين) النيلَ منها وتشويهها.

في تقديمه لكتاب الباحث الفرنسي ميشيل سورا “سورية الدولة المتوحشة” الذي اختطفته واغتالته مجموعة من حزب الله في بيروت عام 1986، يقول الدكتور برهان غليون: ” لم تخدع شعارات التقدمية والاشتراكية والعداء للإمبريالية التي كان يرفعها نظام الأسد ميشيل سورا، واكتشف، منذ مقالاته الأولى، بحدسه الرهيف، أنه لا يوجد عند الأسد مشروع آخر، لا بناء أمة ولا بناء دولة ولا إقامة عدالة اجتماعية، وإنما بناء سُلطة، وتأمين وسائل القوة الكفيلة بالدفاع عنها.”

واستطراداً يمكننا الإضافة، أن الأسد الأب (وبالتأكيد ابنه الوريث، من بعده) لم يكن معنياً بالوطنية السورية، بل وعلى العكس تماماً، كان ممعناً وهو في طريقه لبناء سلطته، بتذرير المجتمع السوري، وقتل كل المشتركات، وما يمكن أن يجمع السوريين، مخافة أن تنال أي حالة اجتماع وطني سوري من موقعه، قبل أن يستكمل بناء سلطته وحتى بعدها.

أكثر من ذلك، كان الأسد الأب مستعداً للتحالف مع أي شيطان داخلي أو خارجي، ييسرُ له بناء سلطته وضمان ديمومتها، ولم تكن إسرائيل استثناء من بين شياطين الأرض تلك. نعم إسرائيل، التي يفترض أنها العدو الوطني بل والقومي الرقم واحد في قائمة الأعداء، كما ادّعى نظام الأسد في خطابه، وما زال.

من ناحيته، اضطر “إينياس دال” صاحب كتاب “سوريا الجنرال أسد” لإخفاء هويته (ربما مُعتَبِراً من مصير ميشيل سورا) فاستخدم اسماً مستعاراً أثناء نشر كتابه “سوريا الجنرال أسد”، لخشيته من آلة القتل المرعبة التي يمتلكها حافظ الأسد. طوال فقرات عديدة من كتابه، يتساءل “دال” عن عناصر القوة غير المفهومة التي يمتلكها الأسد، والتي تجعل جميع الدول الغربية تتغاضى عن جرائم فظيعة ارتكبها، وكانت جميع الدول الغربية تعلم بها بطبيعة الحال، ومررتها دون اتخاذ أي موقف. يعدّد “إينياس دال” مجازر جسر الشغور وحي المشارقة في حلب، مجازر حماة المتكررة وتتويجها بمجازر عام 1982، وقبلها مجزرة سجن تدمر المعروفة. يتحدث عن اعتقال عشرات الآلاف وإعدامهم في السجون. ويضيف إلى هذا التغاضي الغربي عن جرائم الأسد السورية، السكوت عن دخولهِ إلى لبنان، ثم قتله لبشير الجميل وطرده لميشيل عون.

يقول دال: “الصمت المتواطئ للدول الغربية الكبرى لا يمكن تبريره بمصالحها في اقتصاد سورية، فسورية ليست العراق ولا العربية السعودية، وإنتاجها البترولي ضئيل ولا يساهم في الإنتاج العالمي”. رغم طرحه لكل تلك التساؤلات، فإن “دال” لم يُجِب عنها، ولم يقدم لها تفسيراً، لكنه في نهايات كتابه سيورِد قصة، ربما أراد للقارئ أن يستنتج أنها الجواب، أو في محتواها يكمن العنصر الرئيسي من عناصر القوة (ربما الوحيد) الذي يمتلكه حافظ الأسد.

يذكر “إينياس دال” أن مسؤولاً فلسطينياً رفيعاً اطّلع على تفاصيل محاضر لقاءات الملك المغربي “الحسن الثاني” مع رئيس الوزراء الإسرائيلي “شمعون بيريز” في تموز من عام 1986. ووفق هذه المحاضر، سأل بيريز الملك “الحسن الثاني” بعد أن شكره على استقباله وهنأه على شجاعته، إن كان يتهيَّب من ردود فعل عربية سلبية بعد استقباله له. الملك أجاب: “لا أعتقد ذلك، باستثناء سوريا ربما”. سيُطَمْئن بيريز الحسنَ الثاني: “ٳذا لم تكن المشكلة سوى سوريا فقط، لا تهتموا، فلدينا الوسائل لإسكاتهم”. وبعد استفسارات وإلحاح الملك المغربي عن تلك الوسائل، واعتذار بيريز عن الإيضاح، سيوجزُ بيريز: “لقد عقدنا اتفاقات مع السوريين على أعلى المستويات، ولكن لا يمكنني الكشف عنها ولكن بإمكانكم الثقة بي”. سيسأل الملك عن تلك الاتفاقات إن كانت شفهية أم مكتوبة، وسوف يجيب بيريز: “كلاهما”. يختم إينياس دال تلك الفقرة بالقول: “وجود هذا الدليل يثبت مرة جديدة، أن السياسة والأخلاق لا يسيران جنباً إلى جنب”.

معظم الباحثين الغربيين الذين كتبوا عن بنية نظام الأسد وعلاقاته كانوا يسمون الأشياء بمسمياتها دون أية تورية. مثقفو الممانعة لا يكتفون بجبال الكذب التي يروجونها عن وطنية النظام، وهم يعلمون كما نعلم بحقيقته، بل يطلبون منّا أن ننضم إلى نسقهم حتى لا نصنف في خانة الخونة. الأدهى أنهم لا يخفون فرحهم، بل ويفاخرون عندما يكون الغرب الإمبريالي راضياً أو مستسلماً على الأقل لبقاء الأسد. ولا يجدون أي بأس بتوصيف أعداء الأسد بأنهم عملاء للغرب.

نعلم نحن السوريين قبل غيرنا، كم أن نظام الأسد ضرورة غربية وإسرائيلية ونفهم ذلك، ولا أدل على ذلك من المواقف البراغماتية لبعض الساسة في لبنان، الذين يتعاملون مع نظام الأسد بصفته قدر لا فكاك منه، حتى لو كان قد قتل آباءهم. كلما خرجوا في وجهه، بفعل استشراف تغيرات عالمية ما، عادوا صاغرين إليه، معززين بالقناعة أن الأسد المجرم ضرورة دولية.

غالباً ما تستخدم السلطاتُ المثقفينَ والكتاب والفنانين المؤيدين لها، كقوة ناعمة تؤثر في المجتمع، بما يحسّن صورة السلطة، باعتبارهم يشكلون حالة إلهام، وأحياناً قدوة ومثالاً يُحتذى لعموم الناس. ومع ذلك تنفرد سلطة الأسد باستخدامها لمواليها من المثقفين والشعراء اليساريين وغيرهم بطريقة مذلة. يمتدحون الجريمة ووطنية المجرم، ولا يتورعون، في العديد من الحالات التي عاينّها السوريون، عن وضع الأحذية فوق رؤوسهم، وهم يسهبون في الحديث عن الارتباط الوطني الحميد بإيران.

وحده السوري، وهو أكبر الخاسرين، من يتساءل على الدوام: كيف لمجرم بربري أن يكون جزءاً متجذراً من واقع المنطقة على هذا النحو؟ يستجلبُ كل أنواع الغزاة ليحمي سلطته (الوطنية)، ويقوم بتأديب الجميع كلما بدا له ذلك ضرورياً، ولا أحد يؤدّبه سوى إسرائيل، بطريقتها الأبوية، وحسب المقتضى. “إينياس دال” وقبل ثلاثة عقود، أجابَ عن هذا السؤال السوري المرير.

تلفزيون سوريا

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى