صفحات مميزة

على هامش المجزرة: عبد الحميد سليمان

عبد الحميد سليمان

 تراكمت أكوامٌ من البشر على الطريق الدولي الواصل بين طرطوس واللاذقية، عائلات نزحت من الأحياء الجنوبية في بانياس، ومن البيضا ورأس النبع، ومن القرى حول قلعة المرقب، التعليمات على الحواجز التي تزنّر المدينة الموالية كانت واضحة؛ يُمنع تحت أي ظرف دخول “السُنّة” من بانياس إلى طرطوس، كان ثمة بعض الأسر السُنّية النازحة ممن تنتمي قيود نفوسها إلى مدينة طرطوس أو إلى جزيرة أرواد، هذه سُمح لها أن تدخل، مع بعض السباب والشتائم الطائفية بطبيعة الحال، لكن المشهد غدا سريالياً مع العائلات التي كانت قيود نفوسهم مختلطة، دخل الأب ولم تدخل الأم، أو دخلت الأم ولم يدخل الأولاد، في حين افترش الباقون ناصية الأتوستراد، أو هاموا على وجههم في الأرض، دون أيما تعاطفٍ من القرى العلوية المجاورة للطريق، أو حتى جرأةٍ على التعاطف من السُنّة في المدينة الموالية، الأمر لا يخلو من تجاوزات فردية على أي حال…

الرسالة كانت واضحة، وهي قيلت علناً وعلى رؤوس الأشهاد في المدينة؛ هذا هو الثمن الذي على “السُنّة” أن يدفعوه إن فُتحت معركة الساحل، لن تكون هناك حرمةٌ لأحد، هذا ورغم الصمت المشوب بالخجل الذي طبع عموم المدينة ذي الأغلبية العلوية، إلا أنّه كان من السهولة بمكان رؤية الرضا العام عما حدث، “نحن أقوياء هنا” هكذا يستشف المرء من المنحى العام للحديث الخافت الذي يتردد صداه على تخوم هذا الصمت الخجول، أما “سُنّة” المدينة فقد هيمن عليهم الصمت المطبق إزاء ما حدث، يقرأ المرء بسهولة شعوراً مهولاً لديهم بالعجز والترقب.

 قبلها بيومين، ليلة الخميس، كانت قد عادت طلائع المقاتلين الذين ارتكبوا المذبحة، كانت أيادي بعضهم لمّا تزل مخضّبة بالدم، رفض بعضهم مسح الدماء حتى صباح الجمعة، جال المقاتلون بسباياهم من نساءٍ وأطفال وبعض رجال في أحياء المدينة، لم يخلو الأمر بطبيعة الحال من زغردات نسوةٍ هنا وهناك، المشاهد المروّعة للمذبحة تداولتها المدينة قبل وسائل الإعلام العربية والدولية بساعات، رجالٌ وأطفالٌ ونساء، مذبحون أو مُقطّعةٌ أوصالهم أو حتى مسحوقةٌ رؤوسهم بالحجارة، رجمٌ على أبواب الألفية الثالثة، الأوامر كانت صارمةً على ما قيل؛ لا تتركوا أحداً في القرية، معظم هؤلاء الذين جيء بهم قُتلوا لاحقاً، أو لم يعلم عنهم أحدٌ بشيء…

 السلوك الجمعي للعلويين في المدينة تدرّج عبر أيام المذبحة، كان “الزهو” طاغياً في الساعات الأولى، تبعه “الصمت” مع تناقل الوسائل الإعلامية لهول ما حدث، ثم حضرت “التقيّة”، تتعدد الروايات هنا، وإن كان يطبعها جميعاً سذاجة الطرح ذاتها، الصور مفبركة، من قتل الأطفال مسلحون من الشيشان، من قتل الأطفال مسلحون من القصير تسللوا إلى بانياس، أقوالٌ كهذه مما لا يستسيغه المنطق العام حتى لقائليه.

 لكن الجميع على ما يبدو أصبح يعلم أنّ الطائفة عبرت نقطة اللاعودة، ولم يعد بالتالي من مكانٍ حتى في النقاش البيني الباطن، لفكّ التماهي مع النظام، أو مع شخص الأسد بالتحديد، لقد غدت قناعةً لدى الجميع تقريباً في المدينة التي يحارب ما يربو عن أربعين ألفاً من رجالها مع النظام في الداخل، أن الطائفة هي النظام، والنظام هو الطائفة، يصعب خرق هذا الجدار اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، أما كسره فهذا أمرٌ يخص الآخرين، وإن كان لا يقل صعوبة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى