صفحات الحوار

عليا مالك: الكتابة عن العادي لنفهم كيف يعيش الناس

 

 

ابتسام عازم

أصدرت الصحافية والمحامية السورية الأميركية عليا مالك مؤخرا  كتابها الثاني تحت عنوان “البيت/الوطن الذي كان بلدنا” The Home That Was Our Country. يحاول الكتاب رواية تاريخ سورية في القرن الأخير عن طريق رواية تاريخ عائلة وبيتها في دمشق. انتقلت مالك للعيش في دمشق في نيسان/ إبريل العام 2011، أي بعد بدء الانتفاضة السورية بشهرين وبقيت هناك لسنتين. كتبت من دمشق لعدة مجلات وصحف أميركية تحت اسم مستعار. حصلت على عدة جوائز، من بينها جائزة ماري كولفين، نهاية عام 2013، لتقاريرها الصحافية من سورية. ولدت مالك في مدينة بالتيمور لأبويين سوريين هاجرا إلى الولايات المتحدة، وعملت كمحامية متخصصة في الحقوق المدنية في وزارة العدل الأميركية، بعد أن أنهت دراستها بمجال الحقوق من جامعة جورج تاون في واشنطن، ثم حصلت على الماجستير في الإعلام من جامعة كولومبيا في نيويورك. بعد عودتها من سورية، عملت مع قناة الجزيرة، بالإنكليزية، عند إطلاق القناة نسختها الأميركية عام 2013 إلى عام 2015. صدر لها كذلك بالإنكليزية عام 2009 كتاب يحمل عنوان A Country Called Amreeka: US History Re-Told Through Arab American Lives “بلد اسمه أميركا: إعادة سرد تاريخ الولايات المتحدة عبر حياة العرب الأميركيين”. كما صدرت لها مقالات صحافية في صحف ومجلات مختلفة كـ”النيويورك تايمز” و”ذا نيشين” وغيرها.

في كتابها الأخير تتناول مالك تاريخ عائلتها في دمشق وترميم شقة العائلة التي انتقلت للعيش فيها لتروي قصة ترميم وطن كامل لم تكتمل. تنطلق مالك من اليومي و”البسيط”، في محاولة لفهم معنى العيش تحت حكم دكتاتوري وخوف مستمر وصدمة ليس فقط بسبب ما شهده السوريون في السنوات الأخيرة، بل ما عايشوه على مدار عقود سبقت.

. استخدمت في الكتاب أسلوب “الحكاية” أو أسلوبا قريبا للرواية للحديث عن تاريخ سورية عن طريق الحديث عن تاريخ البيت وعائلتك. لماذا هذا الأسلوب؟

–  تطورت هذه الفكرة أثناء الكتابة. في البداية كان هدفي كتابة كتاب يركز بشكل كامل على البناية التي كانت شقة جدتي فيها ويحكي تاريخ سورية من خلال تاريخ تلك البناية. ما حدث هو أنني دخلت في تفاصيل كثيرة عند البحث والتفكير، من بينها أن تاريخ سورية فيه الكثير من الجوانب الاجتماعية، على سبيل المثال لا الحصر؛ حياة المدن وحياة الريف والطبقات المختلفة ناهيك عن اللغات والأديان والقوميات المختلفة التي تشكل جميعها نسيج المجتمع السوري. من هنا طرح السؤال نفسه كيف يمكن كتابة هذا التاريخ من دون إهمال الفسيفساء السورية الغنية؟ ولهذا قررت كتابة تاريخ عائلتي في تلك البناية، أهل جدتي لأمي، وسكّان تلك البناية لأنه كان فيها خليط من كل مكونات المجتمع السوري.

وبصراحة تعملت من تجاربي السابقة، بما فيها كتابي عن تاريخ أميركا من وجهة نظر العرب الأميركيين، أن الكتب الأكاديمية للأسف لا تصل إلى جمهور واسع. ولكن إذا قدمناها للقارئ بقالب قصصي جيد فيمكن أن تصل الروايات التاريخية لشريحة أوسع من الناس من دون أن تفقد من عمقها.

احتجت إلى خيط يربط الفترات المختلفة، حيث غطى الكتاب أكثر من مئة عام من تاريخ سورية الحديث، تتبع تاريخ عائلة عادية كان الطريق الأنجح ولأسباب عديدة منها لوجستية، قررت تتبع تاريخ عائلتي. ولكن ليس الكتاب مذكرات بالمعنى التقليدي وليس عني شخصياً بقدر ما هو كتاب يتناول حياة عائلة سورية عادية ويقف عند التغييرات التي طرأت على حياتها خلال تلك الفترات. وأعتقد أن الكتابة عن عائلة عادية أفضل لأنها تعكس حياة شريحة أوسع من السوريين حتى لو كانت لهذه العائلة خصوصياتها، طبعا، كونها عائلة سورية مسيحية انتقلت من حماة إلى دمشق. لكن المهم أن هؤلاء الناس العاديين وقفوا بوجه الظلم وأخذوا خطوات “غير عادية”.

. ما هو الخاص بالنسبة لك في تلك البناية؟

– البيت عمومًا يرمز إلى المكان الذي من المفترض أن تكون آمناً فيه وتشعر بأمان وتحقق أحلامك. ما حدث لبيت العائلة والعمارة عامة، هو رمز لما حدث ويحدث في سورية. الدخول إلى العوالم الشخصية والفردية لهؤلاء السكان يتيح للقارئ التعرف على حيوات الأفراد بشكل شخصي كبشر، وقليلاً ما نرى ذلك عند الحديث عن الشرق الأوسط في الولايات المتحدة، حيث يبقى التاريخ أو الأحداث السياسية محصورة بالعام. ما قمت به هو أنني ذهبت إلى الخاص للحديث عن العام. نرى هذا في الروايات والأدب غالبًا ولكن يمكن استعارة ذلك في الكتابة عن تاريخ بلد.

. يشهد الشرق الأوسط والعالم عمومًا استقطابًا طائفيًا، سواء في حديث وسائل إعلام ودول غربية وحتى عربية، عن المنطقة وسورية خاصة بمصطلحات وطرح تقسيمات طائفية من جهة، كما نشهد تقوقع الكثيرين داخل تلك المجتمعات على أنفسهم وتصديقهم لتلك الطروحات. في هذا السياق إلى أي درجة كان من المهم بالنسبة لك إظهار الغنى الثقافي في سورية، ليس فقط بالمعنى الحرفي للكلمة بل كذلك في ما يخص التركيبة الاجتماعية والتنوع؟

– كان من الضروري، بالنسبة لي، الكتابة عن الفسيفساء التي تميز مجتمعاتنا وإظهارها كما هي بكل ما فيها من خليط واختلاف وتنوع يثرينا ويجعل هوياتنا وثقافاتنا أغنى. هذه الضرورة ليست موجهة للكثيرين في الغرب، بل كذلك للذين هم في سورية والعالم العربي، الذين يتبنون تلك الخطابات الطائفية. إنه نوع من التذكير لنا بمن كنا وهوياتنا، من دون نفي إشكاليات موجودة. ولا نحتاج للعودة لأجيال سابقة لنظهر هذا التنوع والخليط المتجذر فينا. ولا يأتي هذا من مبدأ إغماض العينين عن الحقيقة أو عن وجود الطائفية أو من باب  الدخول لحنين كاذب. إنما جاء لإظهار واقعنا وعيشنا لأجيال وعقود تحت سقف واحد وأن ما يحدث اليوم في سورية ليس طائفياً في جوهره، بل أمور أخرى.

عندما ذهبت إلى سورية وقلت إنني أريد أن أكتب بحثاً عن جدتي وقصة حياتها، قال لي البعض، من هي جدتك؟ لم تكن شخصية مهمة. ولكن هنا مربط الفرس، هل علينا أن نتحدث ونكتب فقط عن المشاهير؟ في الكتابة عن العادي نفهم كيف يعيش الناس. في سورية هناك شيء يختفي. وربما أردت من خلال هذا الكتاب بطريقة ما القبض على تلك الحيوات السورية التي تتغير بشكل كبير. إذاً هي كتابة العادي في زمن غير عادي نعيش فيه. هذا في وقت يحاول البعض اختصار ما حدث بسورية بالقول إن بشار الأسد حارب “داعش”. إذاً الكتاب هو نوع من رواية التاريخ البديل لهؤلاء الذين عاشوا السنوات الأخيرة كذلك.

. تحدثت في الكتاب عن الصمت تحت الديكتاتورية وأن الجميع يشترك في جريمة بقاء الأنظمة القمعية بكل اختلافاتها في سدة الحكم حتى المعارضين. هل لك أن تشرحي؟

– كنت أقرأ أحد الشعراء من جنوب أفريقيا وكان يتحدث عن أن الضحايا بصمتهم يصبحون شركاء. من دون شك القضية معقدة والمعادلة صعبة، ونحن ضحايا نظام ديكتاتوري وأي شخص يعيش في دولة استبدادية لا يريد أن يُقتل وأن تتعرض عائلته إلى الأذى، لذلك يلجأ للصمت على الرغم من عدم الموافقة على ما يحدث. هذا الصمت أو السكوت يعطي بنهاية المطاف القوّة ويجعل هؤلاء يحكمون. وعندما أقول هذا، فأنا لا أطلق أحكاما على أحد وإنما أصف الوضع. هناك ديناميكيات اجتماعية تمرّ بها المجتمعات التي تعيش تحت أنظمة وقوى ظالمة. وتساءلت كيف يمكن أن نمر بجانب مقر المخابرات وندرك أنه مكان يتم تعذيب الناس فيه ونمضي في يومنا بشكل عادي؟ كان لا بد إذاً من التساؤل، كيف يمكن أن يستمر هذا؟

هناك أمر آخر، في بلاد الشام التاريخية على وجه التحديد، والمنطقة عامة، عشنا ورأينا ويلات من الحروب والديكتاتوريات. وشعوبنا تعاني من الصدمة، ولكن لا نجلس ونتحدث عن هذا مع خبراء نفسييين أو غيرهم. هناك أمور كارثية، منها المجاعات والمجازر والاحتلال والاستعمار والحروب وغيرها الكثير التي مرت بها شعوب المنطقة. نعم لم يكن كل واحد منا أرمنياً أو فلسطينياً أو غيرها من الشعوب التي شهدت كوارث بشكل غير عادي ومستمر، ولكن جميعنا عشنا بطرق مختلفة ظروفاً صعبة. وهنا يكمن التعقيد، حيث إننا ضحايا ومتفرجون في الوقت نفسه. لقد شغلني هذا الموضوع كثيرا وكنت أقرأ كثيراً عن كوريا الشمالية وألمانيا الشرقية وغيرها من الدول لمحاولة فهم هذه السيكولوجية والمعادلة. إذاً كيف تؤثر هذه “الأحداث” على نفسيتنا كشعوب وكأفراد؟ ولا يمكن فهم كل هذا ولا يمكن أن تشهد مجتمعاتنا تطورا إلا ما بعد هذه المرحلة، من دون أن نعرف ما هذه الـ”ما بعد”.

. جدتك سلمى توفيت عندما كنت في السادسة من عمرك. ربطتك علاقة خاصة بها بطريقة غير عادية وتشغل جزءاً مهماً من الكتاب. هل لك أن تشرحي؟

– عندما تعيش أو تكبر في المهجر، كما حدث معي حيث ترك أبي سورية لتكملة الدراسة في الولايات المتحدة والتحقت أمي به، كان قد ترك سورية قبل أن يبدأ حكم آل الأسد. والفكرة كانت أننا سنعيش في أميركا لفترة ما ولكن سنعود إلى سورية. هذه العودة بقيت مؤجلة. كنا نزور سورية كثيرا، ولكن لم نعد بالمعنى الذي تحدث أهلي عنه.

كل ما أذكره عن جدتي من خلال زياراتي كان احتباسها في جسدها بسبب معاناتها من شلل جراء جلطة. إلا أن هؤلاء الذين حولها من أقارب ومعارف كانوا لا يتوقفون عن الحديث عنها وعن أناقتها وعن المعاناة التي عاشتها كامرأة من حماة في دمشق، حيث النظرة الاستعلائية لأهل دمشق. كانت امرأة عصامية ساعدت الكثيرين. كنا نسكن معها عندما نزور سورية، لكنها كانت حبيسة جسدها المشلول. لم تكن حية ولا ميتة. أصبح هذا الوضع لاحقا بالنسبة لي رمزا لما تعيشه سورية. كان من الضروري بالنسبة لي كذلك، أن أظهر أهمية المرأة والدور الفعال الذي تلعبه الأمهات والجدات في مجتمعاتنا وأنه ليس دورا سلبيا فقط، كما يتم التعامل معه وإظهاره، خاصة في الإعلام الغربي.

. في كتابك الأول تقدمين تاريخاً بديلاً، إن صح التعبير، لأميركا وكيف يراها العرب الأميركيون. لماذا هذا الكتاب؟

. ما نراه الآن في الولايات المتحدة شعارات “اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” و”أعيدوا لنا بلادنا”، هذه الشعارات وما يقف خلفها من فكر، نجحت لأسباب عديدة، من بينها أن الكثير من الأميركيين لا يعرفون تاريخ هذا البلد. ومن ضمن هذا التاريخ أن أميركا لم تكن أصلاً عظيمة لكي تجعلها عظيمة مرة أخرى.

المهاجرون العرب الأوائل إلى الولايات المتحدة كانوا في الغالب من سورية ولبنان وفلسطين. جاؤوا إلى هنا قبل أكثر من مئة عام. وجاؤوا بأحلام ولأسباب عديدة. ما أردته هو أن أقص هذا الجزء من التاريخ الأميركي غير المعروف للكثيرين في الولايات المتحدة.

. كيف عشت وتعيشين أنت أميركا؟

– ترك أبي سورية عام 1969. وخلق في بيتنا سورية، كما عرفها هو وكانت سورية محافظة. عندما كبرت، لم تكن موضة “التعدد الثقافي” قد ضربت. كانت هناك رسائل بطرق مباشرة وغير مباشرة موجهة لنا كعرب أنه غير مرحب بنا وأننا أجانب وإرهابيون. من دون شك إن لهذا علاقة بالقضية الفلسطينية، ومحاولة سلب الفلسطينيين خاصة والعرب عامة إنسانيتهم. حيث يسهل هذا تبرير الانحياز الأميركي لإسرائيل. ويسهل تبرير تعامل الولايات المتحدة مع الفلسطينيين بشكل غير أخلاقي. ووفقا لهذا المنطق يصبح ما يحدث للفلسطينيين والعرب والمسلمين أمراً يستحقونه. مع الوقت اختلفت الأمور والآن أصبح هناك تقبل أكثر، وخاصة في المدن الكبيرة، للعرب والمسلمين، على الرغم من كل المشاكل والمعاناة. لكن العيش في مدينة كنيويورك يمنحني الحيز لأن أكون جزءا من عالمها.

. كإعلامية كيف ترين الوضع في الولايات المتحدة، والدور الذي يلعبه الإعلام هنا أو حتى في الشرق الأوسط؟

– في الماضي كان الإعلام الأميركي ذو توجه محلي جدا. ولذلك فالطريقة التي كان يتم النظر فيها للشرق الأوسط كانت موجهة نحو الداخل. ومع انتشار محطات التلفزة والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح عابراً لحدود الولايات المتحدة وأوسع. الكثيرون، وليس فقط الطبقات الغنية، يمكنهم الحديث بالإنكليزية. كما يمكنهم على وسائل التواصل الاجتماعي التعليق والانتقاد إلخ، وهؤلاء لم يكونوا أصلاً جزءاً من جمهور وسائل الإعلام لكنهم أصبحوا كذلك ويشكلون ضغطا كذلك. هل هذا تغيير إيجابي وكافٍ؟ لا، ولكن يوجد تغيير. أصبح بإمكان الناس عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي الاعتراض والكتابة بشكل أسرع ضد كل هذا. هناك أمر آخر، وهو أننا فعليا لم نكن كعرب أميركيين موجودين كصحافيين في وسائل الإعلام الأميركية. الكثير من الأهالي رغبوا أن يدرس أولادهم الهندسة أو الطب. الأمور تغيرت. وهناك العديد من العرب والمسلمين الأميركيين الذين انخرطوا في الإعلام. لكن ما زال هناك الكثير من العمل أمامنا، وما زال المسؤولون عن بلورة السياسات الإعلامية وحراس البوابات، كما يقال، في الغالب من خارج هذه المجموعات. وعلى سبيل المثال لا الحصر قبل فترة كانت جريدة الـ”لوس أنجلز تايمز” تبحث عن مراسل في الشرق الأوسط. ولم يكن إتقان اللغة العربية ضمن شروط الوظيفة الأساسية، كان محبذا ولكن ليس شرطاً. وهذا يظهر جزءا من الإشكالية في تغطية الشرق الأوسط المستمرة وأنه ما زال أمامنا مشوار طويل لإحداث تغيير جذري.

. هل هناك شيء ترغبين بأن يعرفه القارئ العربي؟

– كنت أتمنى لو أن التغطيات الإعلامية في العالم العربي أكثر مهنية وأقل انحيازا في المواقف السياسية لهذا الجانب أو ذاك. أشعر شخصيا بخيبة أمل من هؤلاء الأشخاص الذين ساروا بمظاهرات ضد الاحتلال الإسرائيلي أو الحرب على العراق، ولكن عندما يتعلق الأمر بسورية يصمتون. واحد من الأمور المثيرة في ما يخص سورية هو ما فعلته بالشارع العربي. في ما يخص قضية فلسطين فقد كان الناس موحدين حولها، ولكن ليس في ما يخص سورية للأسف، وهذا شكل لي أرقاً شديداً.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى