حسّان القالشصفحات سورية

عمليّات التجميل كظاهرة سياسيّة؟/ حسان القالش

 

 

هناك دلالات أكثر عمقاً لظاهرة الإقبال المحموم على عمليات التجميل في منطقتنا، فلا يمكن أن يُكتفى بتفسير الأمر على أنّه نوع من السطحية والتأثّر بأنماط الأشكال المعولمة التي تروجها الميديا ومواقع التواصل. لعلّ الأمر في بيروت، مثلاً، يرتبط بصلاتها الثقافية التاريخية مع الغرب وأنماط عيشه، لكن في شكل سلبيّ وقبيح هذه المرة، يختلف عن الذروة التي بلغها في حقبة الانتداب الفرنسي وفي أواسط القرن الفائت. أمّا في عمّان فقد يكون مرتبطاً بالعادات والتقاليد التي أرستها العائلات البورجوازية الفلسطينية، بخاصة في ما يتعلق بأمور الزواج، فالمرونة التي بدأت تلك العائلات تبديها نحو مصاهرة فئات تعتبرها أقلّ منها على المستوى الاجتماعي أو الطبقي، أدّت ربما إلى ظهور ميل عند العائلات الساعية للرقي الاجتماعي إلى تحسين فرصها في المنافسة على تلك المصاهرة، ما يعني بطبيعة الحال تجميل بناتها لتدعيم حظوظهن في زيجات المصالح.

بيد أنّ الأمر في سورية، قبل الثورة، أكثر تعقيداً على الأرجح، فعلى المستوى الاقتصادي كانت عيادات التجميل قد بدأت تشكّل مورداً اقتصادياً يُضاف إلى السمعة التي اشتُهر بها الأطباء السوريون من قبل، لا سيّما في مجال طبّ الأسنان، إذ لم يقتصر زبائن التجميل أو الأسنان على السوريين فحسب، بل كانت السوق أكثر اتساعاً لتشمل البلدان المجاورة أيضاً. لكن في المقابل، كان ظهور سوق التجميل في سورية إشارة إلى أزمة الطبيب السوري، وأحد وجوه هذه الأزمة هو العدد الكبير للأطباء المتخرجين الذين لا يجدون في السوق المحلية ما يكفل لهم المستقبل المادي الآمن، الأمر الذي تفاقم خلال عهد بشار الأسد والانفتاح الاقتصادي المشوّه الذي سارت به حكوماته، وهو ما أدّى إلى انتشار الماديّة بين صفوف الأطباء وإلى فوضى الاختصاصات أيضاً، هكذا أخذ يتعدّى البعض على اختصاصات البعض الآخر، وأخذت أعداد ضحايا هذه الفوضى بالازدياد، وبالطبع لم يكن ثمّة قانون ولا ثقافة قانونية.

على أنّ الإشارات الأخطر لظاهرة التجميل تكمن في المجتمع، فلعلّها كانت إحدى الدلالات على الذروة التي وصل إليها الخراب المعمّم الذي حلّ بالمجتمع، فإلى جانب موت الحياة السياسية، كانت الحياة الثقافية بدأت تتشوّه أيضاً، فبدا وكأنّ الفنون في طريقها للموت، ومعها المخيّلة والإبداع، وبات تدخّل النظام في هذه المجالات أكثر وقاحة، الأمر الذي أكّد من جديد موت الطبقة الوسطى بمعناها التقليدي. وبهذا كان السوريّ العادي يُحرم من المجالات البديلة التي يمكن له فيها أن يعبّر عن رأيه أو عن فردانيّته واستقلاله. وترافق ذلك كلّه مع انتشار قيم وأنماط معيشة الأثرياء الجدد، بكلّ ما فيها من استهلاكيّة وسطحيّة ومن جوع دفين إليهما، وكان من الطبيعي، نتيجة للعلاقة التي أرساها النظام مع تلك الطبقة، أن تصبح قيمها بمثابة المجال الأكثر ضماناً للاستمرار وللرقيّ الاجتماعي.

ليس من المبالغة إذاً أن تُصنّف ظاهرة الإقبال على عمليات التجميل كظاهرة سياسية، ذاك أنّ انعدام الحياة السياسية في مجتمع حيويّ كالمجتمع السوري، وخصوصاً بين فئة الشباب، وفي زمن العولمة والانفتاح، قد أنتج نوعاً مختلفاً من الكبت أو الاختناق جعل الناس لا تشعر بالرضا حتى عن أشكالها، فظهر خيار التغيير التجميلي المُتاح والزهيد الثمن، ليجمع بين متناقضين، التمرّد على الواقع من جهة، والقضاء على التميّز من جهة أخرى، هكذا لتصبح الأشكال واحدة موحّدة، في تطبيق عمليّ، مثير ومخيف، لنظرة أنظمتنا لشعوبها على أنّها ليست سوى… قطيع.

* كاتب وصحافي سوري.

الحياة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى