صفحات المستقبل

عندما تأتي الحرب

ملاك مكي

البيت ضيّق، فيه بضعة كراس وكنبة طويلة وأفراد يتمدّدون، ويفكّرون، ويستريحون. الحياة في الخارج صعبة، غير أن الحياة داخل البيت مريحة، ككنبة طويلة دافئة. البيت جميل، تفوح منه رائحة السمك المقلي ورائحة الباذنجان والقرنبيط، تفوح منه رائحة أيام العطلة، ورائحة الامتحانات المدرسية، ورائحة الزواج والشعر القصير. البيت مكان تأوي فيه الحياة بخفر، بهدوء، بطيبة وجوه العجائز، بلحن جميل. تأتي الحرب، تدمّر البيت ولا يبقى شيء.

الشارع فسيح، فيه أناس يروحون ويجيئون، يكتشفون الشمس، والإسفلت، وزوايا الطرقات، ويفكّرون. أناس لا تعرفهم، يلملمون الهواء، وينتظرون الرياح، ويعرفون أن الطريق طويل. تقف بائعة المحال في الباب، تراقب الخطوات الثقيلة والبطيئة والسريعة. يتردّد أحد المارة في السير فيعود أدراجه، حاملاً ابتسامة على وجهه، محتفظاً في رأسه بكلمات كثيرة لم يقلها. في الشارع، كلمات في الرأس وأفكار وخطى بطيئة وثقيلة وسريعة. تأتي الحرب فيضيق الشارع وتنقطع الطريق.

البحر جميل، منبسط كانبساط الفرح في بعض الأحيان. حين تقترب من البحر، تنبسط الحياة، تتوقف عن الدوران، تصبح ليّنة، فيها الكثير من الأمل والمشاريع المفتوحة. تصبح الحياة واسعة، فيها الكثير من الفرص، من الاحتمالات. في بعض الأحيان، تحبّ البحر أكثر، تجد فيه خياراً آخر، تقترب منه أكثر وتفرح. تأتي الحرب، فتتبدّد الرؤية، ويختفي البحر.

الحديقة خضراء، فيها شجر وورود وأولاد، الأولاد ينتظرون طيلة الأسبوع موعد الذهاب إلى الحديقة، يتطايرون فرحاً. العجائز يذهبون أيضاً إلى الحديقة، يتذكّرون أيام الصبا، ويتحدّثون. بخفة يتأرجّح الأولاد، بخفة يكشفون عن عضلاتهم الطريّة وفساتينهم الجديدة. تأتي الحرب، تتمزّق الفساتين ويدمع الصغار وتحترق الحدائق.

المدرسة مكان رمزيّ. يأتي الأولاد في الصباح، يحملون كتباً ودفاتر، يتعلّمون اللغة والرياضيات والفيزياء، العلم جميل. يكبر الصغار في المدرسة، يحيكون صداقات ويحفظون وجوها ويتعلّمون معانيَ وأحداثاً. تأتي الحرب وتقصف المدرسة ولا يبقى شيء.

المسرح مضاء، فيه الكثير من الأضواء، تتبعثر الأضواء على الكراسي والأبواب والمقاعد والوجوه. يتخيّل الجالسون حياة أخرى، يضحكون في سرّهم من أشياء حدثت معهم ويتابعون عرضاً مسرحياً فيه الكثير من الكلام ومن الحبّ. تأتي الحرب ويتوقف العرض وينسحب الضوء.

الأدراج في العادة مادة قديمة، تتسلّق عليها السنون. الأدراج في العادة تاريخية، يصعدها المرء صغيراً أو كبيراً. الأدراج ملتوية، تفصل بين البيوت أو بين الأزقّة أو بين ما يهمس به اثنان في السرّ أو في العلنية. تحبّ تفقد الأدراج بين الحين والآخر، تشعر بملمس العمر وتقدّمه. تنتقل من مكان إلى آخر. تعلو أو ترتفع، تهبط أو تتساقط، تغني أو تصمت. تأتي الحرب فتصمت الأدراج، ويزيح عنها الوقت ويصمت.

الكراسي في المكتب فارغة، تركها أصحابها في المساء وسوف يعودون في صباح اليوم التالي. تعرف الكراسي أنها لن تبقى وحيدة، تجمّع أسرار الليل وتراقب الخارج وتسترقّ النظر بانتظار أن يأتي الصباح ويعود الأفراد إلى متابعة عملهم. يضع الأفراد خططا ومشاريع، يراقبون ويحللون ويضحكون. تأتي الحرب، تتحطّم الكراسي ولا يعود الأفراد في الصباح.

الحياة، بين وقت وآخر، جميلة. المدرسة والمكتب والحديقة، والمسرح، والأدراج والأولاد والبحر والشارع أمكنة جميلة. تأتي الحرب، أينما كانت، وفي أي زمن كان، ولأي سبب كان، تقضم الحياة ولا يبقى شيء.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى