صفحات العالم

عندما تهاوت تماثيل حافظ الأسد

 


أمجد ناصر

قد يكون صدور الترجمة العربية لكتاب “السيطرة الغامضة” للكاتبة والأكاديمية الأميركية ليزا وادين في هذه الأوقات التي تمرُّ بها سوريا مجرد مصادفة. فهذا الكتاب، الصادر حديثاً عن دار رياض الريس للنشر يتناول حقبة الرئيس السوري حافظ الأسد من خلال قراءته للخطاب السياسي السوري الرسمي والرموز والاستعراضات التي عمدت إليها أجهزة السلطة الحاكمة لخلق ظاهرة “تقديس الحاكم”، القائد الذي سيظل على رأس شعبه إلى الأبد.

إن صدور كتاب ليزا وادين -الذي وضع في الأصل كأطروحة جامعية- متزامناً مع الانتفاضة الشعبية السورية مجرد مصادفة على الأغلب، ولكنها المصادفة التي يقال إنها خير من ألف ميعاد، فهو كتاب بحثي رصين قضت مؤلفته سنين عديدة في جمع مادته الأرشيفية ومحاورة سوريين وسوريات من مختلف التيارات السياسية والمذاهب الطائفية أثناء إقامتها في سوريا، وشخَّصت فيه ببراعة المكوّنات التي قام عليها نظام حافظ الأسد، واستمرت في العمل من دون تعديل جوهري في عهد ابنه.

نقرأ الكتاب -الذي نقله إلى العربية نجيب الغضبان- فنقع على تواصل مثير للدهشة لحكم الابن (بشار) كأنه امتداد لا شغور فيه، تقريباً، لحكم الأب (حافظ)، ومن دون تغير كبير في أحوال البلاد التي أُخضعت لحكم مزَجَ، بمكرٍ، مرةً، وقسوةٍ، مرةً أخرى، بين شعارات الأيديولوجيا القومية (البعث) والقبضة البوليسية الصارمة والاستئثار العائلي بمراكز القرار والتقديس المطرد لشخص الحاكم.

شرعية الانقلاب

أخرج من كتاب ليزا وادين قليلاً كي أستعرض وصول مقاليد حكم سوريا إلى يد بشار الأسد. نتذكر أن الرئيس السوري السابق حافظ الأسد كان أحد أركان انقلاب 23 فبراير/شباط عام 1966 الذي قاده صلاح جديد، رجل البعث القوي في تلك الفترة، ضد حكم بعثيّ، أيضاً، مثَّله زعيم الحزب ميشيل عفلق في “القيادة القومية” وأمين الحافظ في رئاسة الجمهورية.

لم يكن حافظ الأسد في الصدارة، تلك المنزلة احتلها صلاح جديد، وإن توارى وراء الرئاسة شبه الفخرية للدكتور نور الدين الأتاسي، وتشير الأدبيات التي أرَّخت لحزب البعث في سوريا إلى أن خلافات حادة اندلعت بين صلاح جديد وحافظ الأسد على خلفية تعميق المحتوى اليساري لحزب البعث الذي أخذ يقترب في ظل قيادة صلاح جديد، من مفاهيم الماركسية اللينينية، وهو توجّه ناهضه على ما تقول تلك الأدبيات، حافظ الأسد ذو الميول السياسية المحافظة والمتطلّع إلى انفتاح أكبر على العالم الغربي.

غير أن انفجار الموقف بين الرجلين لم يحدث إلا في عام 1970، عندما قاد الأسد انقلاباً على رفيقه صلاح جديد وأركان النظام القائم الذي شغل فيه الأسد حتى تلك اللحظة منصب وزير الدفاع وقائد القوات الجوية. اعتقل صلاح جديد وسائر أركان قيادته وأطلق حافظ الأسد على انقلابه اسم “الحركة التصحيحية”، أي الحركة التي ستصحح المسار “المنحرف” لحزب البعث بقيادة صلاح جديد.

ومن المعروف بالطبع أن صلاح جديد توفي في السجن بعد نحو ثلاثة وعشرين عاماً من الاعتقال، فيما أُطلِق سراح الرئيس نور الدين الأتاسي كي يموت خارج السجن.

كان انقلاب حافظ الأسد على رفيقه صلاح جديد آخر انقلاب عسكري تعرفه سوريا، حيث دخلت البلاد حالة من “الاستقرار” القائم على قبضة أمنية صارمة لم تعرفها سوريا من قبل، أخمدت كل صوت معارض للنظام وأمَّنت لحافظ الأسد فترة طويلة من الحكم استمرت نحو ثلاثين سنة، ومكَّنته بالتالي من توريث الحكم الجمهوري، في أول سابقة عربية من نوعها إلى ابنه.

كان حافظ الأسد كما هو معروف، يعد ابنه الأكبر باسل الذي تلقى تربية عسكرية لخلافته غير أن حادث سير على طريق مطار دمشق أودى بحياته فانتقلت عملية “التأهيل”، حثيثاً إلى الابن الثاني بشار الأسد، طبيب العيون الذي لم يكن قد بلغ السنَّ القانونية التي ينص عليها الدستور السوري لرئاسة الجمهورية عندما توفي والده عام 2000، فجرى تغيير تلك المادة الدستورية سريعاً كي تناسب عمر بشار الذي كان في الخامسة والثلاثين من العمر، بينما كانت المادة المعدَّلة من الدستور تنصُّ على أن يكون عمر رئيس الجمهورية أربعين عاماً.

الأخ الأكبر

أعود إلى كتاب “السيطرة الغامضة” لليزا وادين الذي أقتصر مقاربتي له من زاوية “صناعة الدكتاتور” أو ” تقديس الزعيم”، يبدو حافظ الأسد، كما تقرأ وادين فترة حكمه، شبيها بالأخ الأكبر في رواية “1984” لجورج أرويل. إنه “حاضر في كل مكان وهو عالم بكل شيء”، هذا ما دأب الخطاب السياسي السوري الرسمي على تقديمه للسوريين.

لم يكن الأمر كذلك في بداية حكمه ولكنَّ صورة “القائد الخالد” راحت تظهر شيئاً فشيئاً إلى أن أصبحت “أيقونة” الحياة السورية العامة، لم يعد هناك مكان ليس فيه صورة أو تمثال لحافظ الأسد، ففيما كان زعماء البعث السابقون يتوارون وراء شعارات الحزب، ليس لهم صور ضخمة في الشوارع وبالكاد يطلون مباشرة على “الجماهير”، عمد أركان حكم حافظ الأسد بتشجيع منه إلى تحويل “المجرد” (القائد) إلى ملموس.

لم يعد “الرفيق المناضل” شبحاً في مقر “القيادة القطرية”، ولا مجرد عسكريٍّ ببزةٍ كتانيةٍ في وزارة الدفاع، إنه حاضر في حياة السوريين اليومية، صوره وتماثيله في كل مكان، تراه في كل عدد من الصحف اليومية وفي مقدمات نشرات الأخبار التلفزيونية، وعلى واجهات المباني العامة بصور تبلغ أربع أو خمس مرات الحجم الطبيعي.

صانع الصورة

إذا كانت صور حافظ الأسد قد بدأت في الظهور بُعيد حركته “التصحيحية” فإنها لم تبلغ حديَّ التعظيم والتقديس سوى في فترة لاحقة, وليست هناك بداية محددة لظهور محاولات التعظيم. تقول الكاتبة إن مصادرها في دمشق أخبرتها أن حافظ الأسد هو الذي شجَّع هذا الاتجاه في الوقت الذي رأى فيه وزير إعلامه جورج صدقني (1973 ـ 1974) أن وضع صور الرئيس على أغلفة الكتب المدرسية “يثير حساسيات دينية”.

ويبدو أن الفضل في النقلة التي عرفتها حملة تعظيم الأسد وترقيتها إلى مستوى التقديس تنسب إلى وزير إعلامه الشهير أحمد إسكندر أحمد (كما يشير إلى ذلك باترك سيل في كتابه عن حافظ الأسد)، الذي أدار الإعلام السوري بدءاً من عام 1974 وحتى وفاته عام 1983.

توضح ليزا وادين أن أحمد إسكندر أراد من خلال العمل على تعظيم رئيسه وصولاً إلى حد القداسة أن يواجه توترات الحياة السورية العامة أثناء المواجهات العنيفة مع الإخوان المسلمين التي توّجت بمجزرة وقعت في حماة راح ضحيتها نحو عشرين ألف مواطن سوري عام 1982.

ما يبدو مهما في حملة تعظيم شخصية حافظ الأسد أنها استطاعت أن تحوّل الاهتمام من الحزب والسلطة إلى شخص الرئيس نفسه، فلا صورة تعلو على صورته، وحتى الشعارات والأفكار والمفاهيم التي سبقته، ولم يكن له فيها يد، بدت من صنعه ومن لدنه.

في ما مضى كان الحزب هو السلطة العليا في سوريا، الحزب هو قائد الدولة والمجتمع، فصار حافظ الأسد بُعيد سنوات قليلة من استيلائه على الحكم، هو الحزب وهو القائد وأصبح الحزب مجرد لافتة، أو ورقة توت تستر عري نظام فردي لا مرجع له سوى الرئيس القائد.

اختراع سوري بحت

اقتبس حزب البعث، ونظامه في سوريا، الكثير من المفاهيم النظرية والتطبيقات العملية من الأنظمة الاشتراكية الأوروبية الشرقية لكن “تقديس القائد” كانت إضافة سورية خالصة، قد تشاطرها فيه دولة اشتراكية واحدة هي كوريا الشمالية، عدا ذلك لم يكن للأمين العام للحزب أو رئيس الجمهورية في “المنظومة الاشتراكية” السابقة هذا الحضور الكليّ الضاغط الذي بدا فيه حافظ الأسد.

تقول ليزا وادين في كتابها “يصور حافظ الأسد في الخطاب السياسي السوري المعاصر، عموما، على أنه حاضر في كل مكان وأنه عالم بكل شيء، ويظهر الأسد من خلال الصورة المنشورة في الصحف بصورة “الأب” و”المناضل” و”المعلم الأول” و”منقذ لبنان” و”القائد إلى الأبد” و”الفارس الشهم” (في إشارة إلى أنه صلاح الدين الأيوبي المعاصر) اقتفاء لأثر صلاح الدين الأصلي الذي استعاد القدس من سيطرة الأعداء الصليبيين (…).

وتشهد الأيقونات ذات الصبغة الدينية والشعارات التي تزين الأبنية ونوافذ السيارات وأبواب المطاعم، بخلوده، وتشكل هذه الحالة إحدى العلامات المميزة للنظام الأسدي”.

لكن هذه الصورة المفروضة على السوريين لم تخلق، برأي ليزا وادين، قناعة عميقة بجوهرها، فالاصطناع فيها واضح، والسوريون يستهلكونها على مضض، فلم تكن تلك الصورة هي التي ركَّعت السوريين وكتمت أصوات معارضتهم للنظام بل آلة قمعه الرهيبة.

وفي هذا السياق تلاحظ الكاتبة أن الحماسة التي كان يبديها الجمهور العريض لأي ظهور لجمال عبد الناصر مثلاً، في مناسبة عامة لم تكن هي نفسها التي يبديها الجمهور السوري(ناهيك عن العربي) لحضور حافظ الأسد مناسبات مماثلة، حتى وإن كان عدد “الخارجين” لتحيته مماثلا، فثمة شيء مصطنع في الحالة الثانية، ثمة شيء ممسرح فيها، ثمة إعداد مسبق من المطبخ الداخلي لصانعي صورته لابراز “حضوره” الجماهيري.

فالسوريون -كما تقول ليزا وادين- قد أجبروا  في وقت من الأوقات على “تطويع مواهبهم” لخدمة الدعاية الرسمية، فـ”الشباب طالما دعوا للمشاركة في المسيرات التي تنظم من قبل (المنظمات الشعبية)، والشعراء وأساتذة الجامعات والفنانون والكتاب المسرحيون مطالبون، بشكل دوري، بالمساعدة في ترتيب الاستعراضات الشعبية وأن يسهموا في الحفاظ على مظاهر تعظيم الأسد، كما يطلب من اتحادات العمال والفلاحين وأعضاء المنظمات المهنية أن يحيوا الشعارات والمظاهر التي تمجد الحزب والرئيس”.

******

وبصرف النظر عن ما إذا كانت محاولات صنع أسطورة الأسد وتقديس شخصه قد نجحت في “تطويع” السوريين أم لا، فإن مواهب حافظ الأسد الشخصية غير الكارزمية في طبيعتها وجوهرها تكمن في مكان آخر، إنها في إنتاجه نظاماً أمنياً متاهياً بامتياز، في ذلك العدد من أجهزة الأمن التي لا تكتفي بمراقبة المواطنين وإحصاء أنفاسهم، بل ربما في مراقبة بعضها بعضا.

بالإمكان، هنا، إضافة “السياسة الخارجية” إلى مواهب الأسد الأب، فقد تمكَّن الرئيس الراحل من صنع سياسة خارجية قائمة على الجملة القومية وفكرة مقاومة المحتل والأطماع الغربية في المنطقة للتغطية على سياسته الداخلية المرتكزة إلى تركيع المواطنين عبر أجهزته الأمنية المتعددة. كما استخدم حافظ الأسد في براعة أيضاً، الموقع الجيوبوليتيكي السوري لإدامة نظامه ومدّه بشرايين حياة وأطواق نجاة كلما ضاقت عليه السبل.

هذه النقطة، تحديداً، هي الإرث “الذهبي” الذي يستند إليه نظام ابنه بشار الأسد ويمنحه شيئاً من الشرعية في أعين سوريين وعرب رأوا في “دعمه” حزب الله وحركة حماس مثالاً على البعد القومي للسياسة الخارجية السورية.

لكن “سياسة المقاومة” السورية اكتفت، غالباً، بالإنشاء السياسي والبلاغي ولم تتعد -في قضية الجولان المحتل مثلاً- حدود الكلام، إذ لم تشهد جبهة تشرف على حدودها قوات دولية الهدوء المطلق الذي شهدته الجبهة السورية مع إسرائيل. إنها الجبهة التي يسترخي على حدوده فيها جنود “القبعات الزرق” تحت سماء لا تعكّر صفوها طلعة طيران سورية واحدة، أو تخرق هدوءها رصاصة واحدة من الجانب السوري.

وبين نظامي الأب والابن تغيرت شعارات “المقاومة” ولم يتغير محتواها، ففي عهد حافظ الأسد كانت هناك شعارات “الصمود والتصدي” و”التوازن الإستراتيجي” مع إسرائيل، الذي لم يتحقق قط، فيما تميز عهد ابنه بشار في شعار “الممانعة”. ورغم فراغ محتوى هذه الشعارات إلا أنها أمنت للنظام موقعاً خاصاً بين الدول العربية التي عقدت صلحاً منفرداً مع إسرائيل أو تلك التي تسعى لإقامة علاقات معها من تحت الطاولة.

بقاء سوريا في منتصف المسافة بين الحرب والسلم هو إستراتيجية مدروسة ورثها الابن من عهد أبيه وسار عليها، ونجحت في بقاء النظام كل هذا الوقت من دون “مغامرة” عسكرية أو سياسية تنال من بريق “مقاومته” و”ممانعته”.

تحطيم الرموز

وأخيراً لم تكن مجرد مصادفة أن تبدأ الانتفاضة السورية ضد النظام الأسدي بتحطيم “الأيقونات”، من درعا إلى الرستن مروراً بكل مدينة وبلدة وصلتها الانتفاضة، كانت تماثيل حافظ الأسد وابنه باسل والصور العملاقة لبشار الأسد هدف المنتفضين الأول. أدرك شباب الانتفاضة أنَّ تحطيم النظام مادياً يبدأ بتحطيمه رمزياً، كسر جدار الخوف يبدأ من الأنصاب التي تمثل رمزاً للخوف والتركيع والقهر.

كما أن ليس من الصدفة في شيء أن المدن والبلدات السورية التي تجرأت على تحطيم رموز “التطويع” هي التي تعرَّضت إلى تنكيل أكبر من غيرها، ومهما كان مآل الانتفاضة السورية الراهنة، سواء وصلت إلى حدّ إسقاط النظام أم لا فإنها قد أسقطته رمزياً، أفقدته شرعيته”، حطَّمت أيقوناته وأزاحت، جانباً، هالات الخوف والقداسة التي أحيطت بها.

يقال إن النظام السوري براغماتي ونفعي وكاظم للغيظ وإنه قليلاً ما يستشعر الإهانة التي توصف عادة بأنها أمرُّ شعور يخالج العربي، ولكني أزعم أنَّ هذا الشعور بالإهانة قد أحسَّت به الحلقة العائلية الحاكمة في سوريا وهي ترى “أيقوناتها” تتهاوى واحدة بعد الأخرى، كل تمثال عائلي سقط، كل صورة عملاقة للأب والابن والأخ هوت على الأرض كانت تهزُّ الحكم من أعماقه.

الجزيرة نت

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى