أنور بدرصفحات الثقافة

عندما فقد النظام السوري معركته الإعلامية: البدائل الثقافية أمام عجز الثقافة الرسمية وحصان ‘عبدلكي’ خارج اللوحة


أنور بدر

يُطنب الإعلام الرسمي بالتنوع الثقافي والغنى الحضاري لمكونات المجتمع السوري، لكنه يجهد لإبقاء هذا التنوع وذالك الغنى مجرد شعار غير مسموح له بتشكيل تعبيراته العيانية الفاعلة في الحياة اليومية لتلك المكونات.

من هنا بدأت أزمة ما كان يسمى الأقليات في سورية، حيث لا يسمح للأكراد مثلا بتعلم اللغة الكردية أو الكتابة بها، وكثيراً ما كنا نسمع عن تعاميم صادرة عن مجلس الوزراء بضرورة استخدام اللغة العربية فقط في تسمية المحلات التجارية والأماكن العامة بحجة دعم اللغة الأم، وسرعان ما نكتشف كيف تتحول تلك التعاميم إلى أداة قمع للشعب الكردي في أماكن تواجده، وتحديدا في شمال شرق سورية، حيث لا يقتصر تطبيق هذه التعاميم على إلغاء المسميات الكردية للمحال التجارية أو الأماكن العامة، بل يصل الأمر بأن يرفض موظف بسيط في دائرة النفوس أن يسجل كثيرا من الولادات بأسماء كردية، وفي بعض الأحيان يقوم هو باختيار اسم عربي للوليد الجديد، وربما يسعى لمنحه شحنة أيديولوجية عبر ذلك الاسم.

المثال الساطع في هذا المجال هو فرقة ‘بارمايا’ للفنون الشعبية التي حصلت على المرتبة الأولى في مهرجان إدلب الخضراء للفنون الشعبية عام 2009 وهي كما يقول مديرها الفني الفنان جورج قرياقس: فرقة تعمل على إحياء الفلكلور السرياني- الآشوري في المنطقة، وقد كانت مشاركاتها السابقة باسم فرقة ‘الرها’ للفنون الشعبية.. لا يهم التسمية إن كانت الرها أو أورنينا أو آشور أو سيمثا أو أورشينا ، المهم عدم غياب الفن السرياني عن المحافل الوطنية والدولية. لكن ما يعنينا الآن هو ذلك الإصرار الوطني على تغيير الاسم!

غير أن ثقافة اللون الواحد محكومة بالموت أمام غنى وتنوع ثقافات الواقع السوري، وهكذا كان الإصرار على مشاركة كل أطياف المجتمع السوري ومكوناته في الانتفاضة الشعبية التي تحركت باتجاه الثورة، وليس مصادفة أن أطلق على أحد أيام الجمع الثورية ‘جمعة آزادي’ والتي تعني الحرية باللغة الكردية.

من هنا نلاحظ كيف خسر النظام معركته الإعلامية حين منع الإعلام الآخر بحجة أنه إعلام مغرض وإعلام الفتنة والمؤامرة، فدفع بذلك أو شجع على ظهور إعلام المواطن البديل، إعلام يعتمد كاميرا الهاتف المحمول أو الموبايل الذي يلتقط اللحظة الساخنة للمظاهرات الاحتجاجية وما قد تتضمنه من إطلاق للنار أو استهداف للمتظاهرين، هذا الإعلام الذي نجح بتوثيق الكثير من الحالات، ودعم تقارير المنظمات الحقوقية العاملة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وعن حرية الإعلام والتعبير، مستخدما مواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وتويتر لتوصيل صوته وصورته التي أصبحت مصدرا شبه وحيد لتزويد الفضائيات العربية والدولية بالأخبار والمعلومات حول ما يجري في سورية، وكان نجاح هذا الإعلام البديل قائما في بساطة أدواته، وفي قدرته على تغطية جميع الأحداث في مساحة الجغرافيا السورية.

أكثر من ذلك ما شهدته الساحة الإلكترونية من نشاط لحركة التدوين، وظهور أعداد كبيرة من المدونين، إضافة لانطلاق العديد من المواقع الخاصة بأخبار الثورة وتوثيق مجرياتها باللغتين العربية والكردية، بل صدرت العديد من الصحف والمجلات الإلكترونية في هذا المستوى، نذكر من هذه الإصدارات: ‘صوت الحق’ و’أخبار المندس’ و’البديل’ و’حريات’ و’نادي الإعلام’ وغيرها كثر، مع تفاوت في سوياتها المهنية والفنية، إلا أنها شكلت ظاهرة إعلامية حقيقية مقابل عجز الإعلام الرسمي وإصراره على نظرية المؤامرة السلفية، وتكذيبه لكل ما يبثه الإعلام المحايد وما تتداوله المنظمات الحقوقية.

لم يقتصر الأمر على حقل الإعلام، بل خسر النظام معركته الثقافية بجدارة، حين اضطر لإلغاء العديد من المهرجانات والتظاهرات الثقافية خشية وجود حشود جماهيرية قد لا يتمكن من ضبطها، وفي هذا الإطار ألغى مهرجان الشباب المسرحي الذي كان مخططا له أن يُقام في شهر نيسان من هذا العام في مدينة حمص التي لم تكن قد بدأت تتحرك بشكل جدي حتى تاريخه، وهو مهرجان تتسابق من خلاله الفرق الفنية لاتحاد شبيبة الثورة، كما اضطر لإلغاء مهرجان دمشق المسرحي الذي تنظمه وزارة الثقافة، وكذلك الأمر مهرجانها السينمائي الذي حاول مديره محمد الأحمد أن يؤكد حتى وقت متأخر على إقامته، غير أن القرار السياسي أو الأمني حسم الأمر بالاتجاه الآخر، وحتى التظاهرات التي أقيمت كمعرض دمشق الدولي للكتاب شهدت مقاطعة كبيرة من دور النشر السورية، ناهيك عن الغياب العربي الكبير عن المشاركة في هذه الدورة، دون أن نتحدث عن غياب أكبر لجمهور الكتاب أو للفعاليات الثقافية المرافقة للمعرض.

أما الدراما السورية فقد خسرت أيضا لصالح دراما الشارع المتظاهر، فتقلص عدد المسلسلات السورية لدورة رمضان الأخيرة، مقابل حضور أكبر للرقابة، وتقلصت أيضا نسب المتابعة التي اعترف بها الإعلام الرسمي.

غير أن الشارع السوري المنتفض لم يبدع دراما التظاهرات السلمية فقط، بل نستطيع القول انه صنع دراما جديدة، بل هو صنع ثقافة جديدة للحياة، شملت مجالات الأغاني والأهازيج، شملت مجال الرسم والكاريكاتير، شملت مجال الصورة ومقاطع الفيديو وصولا إلى مسلسلات اللقطة السريعة والنكتة المعبرة، والملفت للانتباه أن ذلك الإبداع يأتي رغم قلة الإمكانيات، ويأتي في ظرف الشدة، فكيف لهؤلاء الشباب أن يصنعوا إعلامهم المهم في وقت يعجز فيه النظام ومؤسساته عن صناعة إعلام حقيقي؟ وكيف لهم أن يبدعوا دراما ناجحة مصورة بوسائل رخيصة في زمن تتراجع فيه شركات الإنتاج الدرامي العملاقة؟

إنها ثورة شعب حي أبدع من مأساته ‘غيرنيكا’ جديدة سوف تبقى شاهدة على ما يجري في بلاد التين والزيتون، وهو إذ يحتفي بأسماء مهمة من الفنانين والمثقفين الذين وقفوا إلى جانبه، فإنه يكاد يكون في إبداعه الفني والثقافي أمينا لجذره السوري القديم، جذر ينتمي لكل الأقوام التي سكنت المنطقة، جذر صنع أهم الآثار والمنحوتات القديمة التي حُفظت في حجارة البلاد وطينها دون أن نعرف صانعيها وأسماء مبدعيها، هذا الفن وتلك الثقافة يعبران عن الشعب في لحظة ميلاده الجديدة، ويعبران حقيقة عن تنوعه وغنى مكوناته، شعب ينتفض من ‘عامودا’ شمالاً إلى ‘إنخل’ في ريف درعا جنوباً، شعب يصنع من موته مهرجانا للحياة، مهرجانا سيجبر المترددين والخوّف حتى هذه اللحظة على اللحاق بركب المستقبل، فحصان ‘عبدلكي’ خرج من اللوحة صاهلاً باتجاه الشمس، وناطقا بكل لغات الأرض، هذه اللحظة هي الجديرة بصياغة الهوية السورية المفتقدة سابقا أو التي التهمتها الأيديولوجيا وشعارات الحزب الواحد.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى